رحيل جارودي من نادى الى الأحياء على استعادة الأمل وحوار الحضارات/ زهير الخويلدي

" الحوار بين الأديان هو مبادلة ومشاركة في تجربة البحث المشترك عن الله والبحث عن المعنى"[1]

توفي يوم 13 جوان 2012 الفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي عن عمر يناهز 99 عام وكان قد ولد بمرسليا يوم 17 جويلية 1913. ولا ينكر أحد تأثير تجربة جارودي السياسية والدينية والفلسفية على جيل كامل من المثقفين العرب الذين أعتبروه واحدا من المناضلين الغربيين الذين وقفوا الى جانب القضايا العربية وأصدروا مواقف مبدئية مشرفة واعترفوا بالمجهود العلمي والإنساني للحضارة العربية.
 لقد كانت حياته مليئة بالتقلبات والبحث عن الحقيقة وكانت هجرته من الماركسية الى الاسلام ومن ثقافة الغرب الى ثقافة الشرق ومن المادية الى الروحانية ولكنه ناهض بشدة الصهيونية والامبريالية وكل الايديولوجيات وانتصر الى القضايا العادلة للإنسانية وآمن بالقيم الكونية ايمانا صوفيا دينيا وتعرض للاضطهاد من قبل غلاة اليمين الديني والليبرالي والمحافظين الجدد ولكن ناصر  الشعوب المضطهدة واصطف الى جانب الحرية الانسانية والتثاقف بين الشعوب والنزعة السلمية التسامحية بين الأديان.
يعد جارودي صاحب نظرية ماركسية القرن العشرين المسلمة وهي تقوم بالأساس على مقولة حفر قبور الامبريالية والعنصرية وتعتبر السيطرة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وتفكك الاتحاد السوفياتي تهشيما للعالم النامي وتحويلا لأوروبا الى شبح واكتساحا لثقافة اللامعنى وغزو دول الشمال لدول الجنوب. لقد أدى التقدم التكنولوجي حسب جارودي الى توسيع المجال العقلي الحسابي وإحداث تحول صناعي كانت فيه الغلبة لبلدان المركز على حساب بلدان الأطراف ولذلك اعتقد البشرية بطريقة وثنية استهلاكية في أسطورة التقدم والعصرنة مما أنتج نزعة فردانية وطغيان نوع من الأنانوية المقيتة والإدغال في وجه الجماعة وتشطير العالم الى ثلاثة أشطر وإفراغ الثقافة من فلسفة للوجود والفعل.
لقد حاول جارودي التقريب بين الأديان وآمن بحوار الحضارات ورأى أن :" وعي حوار الحضارات وخصبه في عصرنا لا يقتصر على فائدته التاريخية وحسب، بل انه ينهض بدور أمامي لأجل اختراع المستقبل."[2] بيد أن ذلك لم يمنعه من تفكيك الأساطير المؤسسة للايديولوجيا الصهيونية ودفاعه على الحقوق الفلسطينية وهو ما عرضه الى الاستبعاد والتهميش في الوسط الثقافي الغربي.
هكذا يرى جارودي أن " حوار الحضارات الحقيقي لما يزل في طور بدء المغامرة الإنسانية انه أكثر الأمور الحافا من أجل اقامة علاقات جديدة مع العالم، مع سائر البشر، مع مستقبلنا المشترك."[3]
ان الحل الذي يقترحه جارودي ضد عوارض الانحطاط الذي تعاني منه الثقافة الغربية هو التبشير بميلاد انسان جديد واستعادة الأمل عن طريق احداث تحول في الضمائر وتجديد الايمان والانتقال من اللعنة الى الحوار وبذل الجهد في الحاضر في سبيل صناعة المستقبل وإقامة جسم اجتماعي جديد مغاير للجسم الاجتماعي القديم واستبدال الأحزاب بالشبكات واتاحة المجموعات السياسية الجديدة الفرصة للافراد لكي يشاركون بطريقة ملموسة في المشروع عبر الاقتراح والمبادرة والمساهمة والتذكير بالغايات الانسانية النبيلة في وجه استبداد المال والربح الأعمى وأحدية السوق وإيقاف عملية تمزيق العالم بتنظيم الحرب الاقتصادية والاعتصام بقيمة التضحية من أجل مقاومة ديمقراطية السوق البشعة والسعي نحو اقامة اقتصاد علمي بوجه انساني. في السياق نفسه نراه يقول: " التضحية هي أيضا الانسانية الموجودة في الحب: تفضيل متعة الغير على متعتي أنا، فرحه على فرحي، حياته على حياتي"[4].
هكذا يقترح جاوردي استثمار ما يتضمنه الدين والأسطورة والفن والثقافة من مقاومة ومن معنى وإحداث تحول في الاقتصاد وفي السياسة وفي التعليم وفي الايمان في سبيل منع انتحار الكوكب والرد على التحديات العولمية التي جعلت من الكوكب مريضا والعالم متصدعا وخاصة التبادلات غير المتكافئة وأخطار الهلاك التي تترصد بالمعمورة والشروع في بناء الوحدة الانسانية عن طريق الايمان بالإنسان.
يقوم المشروع الذي آمن به جارودي على مناهضة النزعة الفردية والإيمان الحقيقي بالتعالي والتواصل مع الآخرين ويعبر عنه كما يلي: "نحن محتاجون الى من يحاولون نفس المشروع انطلاقا من ثقافتهم الخاصة. فبمثل هذا فقط نستطيع أن نحطم حدودنا وأن نثري ايماننا وأن نفهم خصوصيتنا من خلال تواصل داخلي عميق مع ثقافة وإيمان الآخرين."[5]
نحمد الله أنك عمرت لترى بأم عينك الربيع العربي وكيف ينجز العرب ثورتهم الأولى من أجل الكرامة والحرية وكل ما آمنت به من القيم الروحية الثورية للثقافة الاسلامية. لكن المعذرة أيها الانساني المفعم بإنسانيته التي هي الانسية الحقيقية، لقد دافعت عنا في أحلك الأوقات وأنصفتنا حينما عانت ثقافتنا بالأحكام المسبقة الاستشراقية. لقد تخلينا عنك في عزلتك الأخيرة ولم نتضامن معك بالقدر الكافي في توحدك الايماني وزهدك الاختياري ولم نشاركك تعففك عن ثقافة متورمة على ذاتها. وداعا أيها الرجل الحر والنفس المطمئنة والعقل النبيل. رحمك الله وتغمد روحك ونتمنى أن يكون مصيرها الى جنة الخلد أيها المفكر المغوار والفيلسوف المؤمن ونصير الحرية.
المراجع:رجاء جارودي، كيف نصنع المستقبل؟ ، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002.
رجاء جارودي، حفارو القبور، نداء جديد الى الأحياء، تعريب رانيا الهاشم، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 1993.

رجاء جارودي، في سبيل حوار الحضارات، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الرابعة،1999.

[1]  رجاء جارودي، حفارو القبور، نداء جديد الى الأحياء، تعريب رانيا الهاشم، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 1993، ص.108.
[2]  رجاء جارودي، في سبيل حوار الحضارات، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الرابعة،1999. ص.115.
[3]  رجاء جارودي، في سبيل حوار الحضارات، ص.116.

[4]  رجاء جارودي، حفارو القبور، نداء جديد الى الأحياء، ص.100.
[5]  رجاء جارودي، كيف نصنع المستقبل؟ ، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002. ص. 275.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق