يعيش العالم العربي في هذه الأيام مشهدا جديدا من مشاهد التغيير يتمحور حول الحركات الدينية وتجربتها في قيادة "الأمة" نحو "التطور والبحبوحة"، ربما، أو نحو "العزة والكرامة"، من يدري(؟) وفي الحالتين على هؤلاء محاربة "المؤامرات الخارجية" والتخلص من "رواسب الاستعمار" ومن ثم مواجهة "الصهيونية ومطامع الغرب" في الاستيلاء على مقدرات العرب.
في خضم هذه التحركات التي ترعاها وسائل الاعلام والنشر الحديثة والتي تبدأ من الهاتف الخليوي الذي ينقل صورة فورية لما يجري على الأرض إلى محطات التلفزة العالمية ودور النشر الكبرى التي ترافق الأحداث دون أن ننسى أهمية الشبكة العالمية التي تنشر كل فكر بدون الحاجة لموافقة أحد، نجد المثقفين العرب الذين يعيشون مرحلة التغيير هذه ينقادون بذهول يتناقض أحيانا كثيرة، بين الشعارات القومية في حق تقرير المصير وارادة الشعوب والعمل على الازدهار والبحبوحة، وبين العودة إلى الأصول وتبني الشعارات الدينية وطروحات الأئمة التي ربما تخطاها الزمن.
المثقفون العرب يعرفون جيدا بأن هناك حاجة للتغيير وبأن القبضة الحديدية التي أجهضت كل تحرك تحت شعار الخوف على الأنظمة والديكتاتوريين في كثير من الدول العربية لا بد لها من أن تنتهي ولكنهم لا يزالون مترددين في تبني الثورات التي تقودها عصبيات يعرفون جيدا بأنها لن تأتي بالمن والسلوى ولا هي ستسهم في تقدم البلاد لا بل بالعكس قد تنقلها إلى حال جديد من الصراع والفوضى وزيادة الضغوط على الناس.
بين نار السلطة والقمع الذي يعرفونه جيدا من جهة، والأمل بالتغيير إلى الأفضل من جهة أخرى، لا بد لقادة الرأي هؤلاء من اختيار الثاني والعمل على تحقيقه ولكنهم لم يشعروا بعد، على ما يبدو، بقدرة الشعوب على التغيير وهم يعيشون الخوف من العودة إلى الأسوأ ولذا نجدهم لا يجرؤون على طرح تصورات للمرحلة الجديدة ولا ينادون بشعارات حقيقية يمكنها نقل هذه الشعوب إلى نهايات سليمة تخلو من التفرد بالسلطة على اشكاله والعمل على تطوير التمثيل وتفعيله ليكون الحكم المرتجى مناسبا للتضحيات وقادرا على التطوير واللحاق بركب الحضارة لا الرجوع بالبلاد إلى مراحل التشفي والانتقام وتنمية الحقد الغير المجدي.
المثقفون العرب في ظل الصراع والخوف على المصير لا يزالون يلتحفون لازمات مضى عليها أكثر من قرن من الزمن ولم تعد تصلح لقيادة الشعوب. فالكلام على الاستعمار كان يجوز في بدايات القرن العشرين يوم كانت دول أوروبا لا تزال تسعى لتطوير تواجدها وبناء مراكز استقرار في الكثير من أنحاء العالم أما بعد الحربين العالميتين اللتين أودتا بالملايين من شباب هذه الدول فقد توقف تصدير الطاقات وبناء المستعمرات لأن البلاد الأم صارت بحاجة لأبنائها وما نشهده اليوم هو العكس لأن الدول الاستعمارية هي من يستعمر اليوم بشعوب من البلدان التي كانت يوما مستعمرة وهذه البلاد تخاف على عاداتها وتقاليدها وحتى لغتها من التحول تحت عبئ الهجرات المعاكسة وبالتالي فقد تجوفت كلمة الاستعمار وفرغت من معناها. وكذلك الامبريالية وهي تعني أيضا الامبراطوريات التي كانت تعمل قبل القرن العشرين على السيطرة على بقاع جديدة تعطيها القدرة على التفرد بالمواد الأولية وبأسواق التصريف ولكن هذه انتهت قبل القرن العشرين حتى ولا تزال قائمة فقط في ذهن "المثقف" العربي.
أما الكلام على الصهيونية ومشاريعها التوسعية والمؤامرات التي تديرها فهو الأحب لكل من يريد أن يكتب في لغة الضاد ويلقى تأييدا وترحيبا ولكن إذا ما تابعنا الأمور عن قرب نجد بأن الفكرة الصهيونية التي قامت في أواخر القرن التاسع عشر حققت، صحيح، المشروع الصهيوني نسبيا في أيجاد وطن قومي لليهود، ولكن حتى الإسرائيليين أنفسهم تجاوزوا الصهيونية كما صرّح بذلك رئيس وزراء إسرائيل السابق اسحق رابين الذي تكلم أكثر من مرة بعد كمب ديفيد عن مرحلة ما بعد الصهيونية (بوست زيونيسم) وهو دفع حياته ثمنا لتوجهاته السلمية على يد أحد المتطرفين اليمينيين ولكن هذا بالذات لب القضية فلماذا لم يتحدث المثقفون العرب عن تجربة اسحق رابين مثلا وغيره من الإسرائيليين المنفتحين على التحاور مع العرب. وفي مثل آخر حول موضوع إسرائيل ورغبتها في التوسع موقف رئيس الوزراء أرييل شارون اليميني "المتطرف" يوم قرر بناء الجدار على الحدود بين فلسطين وإسرائيل فقد قامت قيامة العرب في كل مكان اعتراضا على إقامة هذا الجدار فهل هناك قبولا بالحدود النهائية أفضل من بناء جدار على هذه الحدود؟ قد يكون جدار شارون مجحف بحق أفراد من الفلسطينيين لهم أراض في الطرف الآخر صحيح ولكن مبدأ الجدار هو نقطة لصالح الفلسطينيين واعترافا لهم بحدود دولتهم من قبل أكثر رئيس وزراء إسرائيلي يتهم بالتطرف. وبالنتيجة وحتى في الخطوات التوسعية التي تقوم بها إسرائيل والمستنكرة من كثير من دول العالم عندما تسمح للمتطرفين اليهود ببناء المستعمرات في الأراضي الفلسطينية فهي وبالمقابل قد فككت الكثير من هذه في سيناء مثلا بعد الاتفاق مع المصريين وفي غزة يوم انسحبت لصالح الفلسطينيين وهي نقاط مهمة يجب أن يسمع بها القارئ العربي ولا يبقى يعيش في مرحلة الشعارات التي أرادها له الديكتاتوريون.
أما على الصعيد الاقتصادي فالوضع أفضل إذ إننا نرى مكاتبا تجارية إسرائيلية في قطر مثلا بشكل علني وبدون خجل فأين الخوف من المشروع الصهيوني وهو ليس بأقدر من المشاريع الصينية أو الهندية التي تفيض بها أسواق العالم اليوم ولماذا لا تفيض هذه الأسواق بالبضائع المنتجة في الدول العربية. وكما استغل الفلسطينيون ورشة البناء في إسرائيل فشكلوا اليد العاملة التي أغنت الكثير من مدن الضفة الغربية ونشطت الحركة العمرانية فيها قبل سلام عرفات وحتى بدء الانتفاضات فإنه من الممكن للسلطة الفلسطينية استيعاب الكثير من العمال الفلسطينيين من بلاد الشتات في بناء وتطوير المدن الفلسطينية نفسها ومدن الجيرة من ضمن اتفاقيات وخطط عمل مستقبلية واعية لا تقوم على الحقد فقط وتكرار اللوازم البائدة بل على مشاريع التطوير والبناء التي تستعمل خبرات عالمية بأيدي فلسطينية وما أكثرها.
نحن ننتقد المثقف العربي في تكراره لهذه الشعارات واللوازم لأنها كانت صنيعة الأنظمة التي سجنت الفكر العربي مدة قرن من الزمن ولم تسمح له بالانطلاق والتحرر من قيودها تحت شعار الخوف على الأمة والمصير. ونحن في هذه الفترة التي نعيشها من محاولة التحرر من هذه الأنظمة وبالرغم مما تدفعه الشعوب العربية خاصة في سوريا اليوم ترانا نكرر لازمة الامبريالية والصهيونية ونخاف أن نستعين بالعالم لاقتلاع الديكتاتور الصغير وأزلامه الذين يعيثون بالأرض فسادا وقتلا وذلك خوفا من "مشاريع السيطرة والهيمنة". لقد قرر بعض المفكرين العرب بأن الشعوب العربية بشكل عام أدنى مستوى من بقية العالم وهم لن يقدروا أن يتفقوا مع الآخرين على التعاون لأنهم لا يعرفون أن ينتظموا، والنظام يبدأ بمحاسبة المسؤول عن الصح أو الغلط ومن ثم مبدأ الثقة بالنفس ومعرفة التعامل مع الآخرين. والآخرين ليسوا دوما أذكى أو أقدر ولكن كل المجتمعات بحاجة للتعاون مع بعض، ومن قال بأنه لا يوجد سوى حل من اثنين فقط؛ أما السيطرة أو الخضوع، وهذا ما يحاول المتطرفون نشره واقناعنا به، فإما أن نسيطر على الكل بالحرب والعنف والقوة والارهاب، أو فإن هؤلاء سوف يسيطرون علينا ونقبل المذلة.
العرب وككل الشعوب رهينة بيد المثقفين وقادة الرأي فيهم وهم من يجب أن يتحرر أولا من رواسب الماضي البغيضة التي لم تسهم في التطور الكافي ومن ثم اطلاق الأفكار الايجابية التي تبني المجتمعات على قواعد صلبة يمكنها استيعاب المتغيرات الحديثة والعمل على التعاون المثمر لخير الكل في منطقة تكثر فيها الطاقات والهمم ووسائل الإنتاج ولا تحتاج إلا إلى التنظيم والتوجيه.
قد تصلح كلمة الامبريالية لوصف النظام الإيراني الجار مثلا فهو يستعمل الدين والمذهب والطاقات الاقتصادية والبشرية اليوم من أجل فرض سيطرة بالقوة على جيرانه لا بل من أجل التوسع في كافة الاتجاهات ولكنه عاجلا أم آجلا سوف يصطدم بمصالح بقية العالم فيضطر إلى التفاهم أو المواجهة. ويجب أن تتعلم الشعوب العربية في مصر وسورية وغيرها ممن يحلمون بالدولة الدينية القادرة المبنية على فتاوى الأئمة بأن مصالحها ليست بالعودة إلى الماضي ومحاولة تقليده إنما باستعمال دروسه وأخلاقياته التي تحمل ضمنها معاني الإنسانية المنفتحة وتقبل الآخر والانطلاق إلى حضارة جديدة مبدؤها التعاون الخلاق وتنظيم المجتمع المنتج لا التعبئة وتنمية الحقد والتحضر للمواجهة.
فهل نشهد تطورا في الفكر العربي القائد وتغييرا بالمصطلحات والشعارات أم إننا سائرون نحو عصر جديد من التقهقر والمواجهات الغير مجدية إلا في أذهان بعض المتحجرين والتي لن نحصد منها سوى الشر الذي زرعته أيدينا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق