ثورة الاقباط/ لطيف شاكر


 
كان يعيش أهل البشمور "الأقباط" في المنطقة الرملية على ساحل الدلتا بين فرعي رشيد ودمياط، حيث كانت تحيط بها المستنقعات والأحراش التي تعيق حركة جنود الفاتحين والذين لم تكن لهم الدراية بطبيعة المنطقة، مما ساعد أبطال البشموريين على إعطاء جنود الغزاة درسًا سيخلده التاريخ.
يقول ساويرس بن المقفع مبررًا لثورتهم:عامل العرب البشموريين على الأخص في غاية القسوة، فقد ربطوهم بسلاسل إلى المطاحن، وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال، كما تفعل الدواب سواءً بسواء، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب. ولما اقتنعوا نهائيًا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها, وأنه يعد من المستحيل على جيوش المسلمين أن يغزوها، فقد اتفقوا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية..
وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة على رعيته التي تحالف على إفنائها الطاعون
والمجاعة والحرب .. غير أن البشموريين وطدوا العزم على مواصلة القتال، وأخذوا يصنعون لأنفسهم الأسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية على الإطلاق... وقد تحسر البطريرك عليهم، لأنهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد وتعرضوا للموت بحكم إرادتهم, فكتب إليهم خطابًا حاول أن يقنعهم بعدم قدرتهم على مقاومة الخليفة بالسلاح ويصف لهم المصائب التي ستحوق بهم ويطلب منهم أن ينصرفوا عن عزمهم, ولما اتضح له أن الخطاب لم يؤثر فيهم, أرسل الخطاب تلو الخطاب مُلحًا في رجائه خاصة بعد الحاح الخليفة بتهدئتهم وتهديده له .
ولا نبالغ إن قلنا إنها كانت أشبه بحرب نظامية استعملت فيها استراتيجية المنطقة. وقد أسفرت هذه الثورة عن هزيمة جيش الغزاة هزيمة منكرة، وفرّ أمامهم الوالي يتبعه جُباة الضرائب، الأمر الذى جعل المأمون الخليفة العباسي في بغداد يُرسل أخاه المعتصم على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليدعم جيوش الاحتلال في إخماد الثورة القبطية، وعلى الرغم من وحشية الحملة وذبح الأطفال والشيوخ وانتهاك الحرمات، إلا أن ثورة الأقباط لم تخمد ولم تهدأ، مما اضطر المأمون إلى إرسال جيش آخر من الأتراك بقيادة "أفشين" التركي بغرض التنكيل بالثوار "فحاربوه وقتلوا من الجيش عددًا وافرًا، ثم جرد عليهم عسكر آخر فكسروه..
وتقول الدكتورة سيدة الكاشف: "وقد فشل أفشين تمامًا في إخماد ثورة البشموريين مما اضطره أن يكتب الى المأمون الخليفة العباسي في هذا الوقت" طالبًا إمدادات للقضاء على الثورة التي اندلعت في كل مكان في محاولة للتخلص من نير الطغاة.
وهنا نذكر كذلك ما يقوله الدكتور جمال الغيطانى: "إن الارتباط بالأرض نتاج طبيعي للوضع التاريخي والجغرافي والحضاري لمصر، فإذا ما أراد عدو أن يزحزح الإنسان المصري عن أرضه، فإلى أين يذهب، إذ ليس حوله إلا الصحراء من كل جانب.. وإذن فإما يموت شهيدًا فوق أرضه، أو يتجه إلي الصحراء..".
وتمسُك القبطي بأرضه ووطنه حتى الموت، يشهد عليه ذلك العدد الهائل من الشهداء الأقباط الذين افتدوا مصر منذ القدم وحتى وقتنا هذا.. فمصر للأقباط بلد ملايين الشهداء.
وفي سنة 824، اضطر الخليفة المأمون أن يزحف من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية لإخماد ثورة الأقباط التي فشل في إخمادها كل قواده الذين أرسلهم سابقًا، وكاد ثوار الأقباط أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن الخليفة العباسي التجأ إلى أخبث الطرق والغير شريفة للقضاء على الثائرين، وذلك أنه استدعى الأنبا ديونيسيوس البطريرك الأنطاكي واستدعى معه الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط، وطلب منهما تحت التهديد أن يتعاونا معه في إخماد ثورة الأقباط، وقد أجابا بكل أسف طلب المأمون وحررا للثوار رسالة بها نصائح ومواعظ يحُثان فيها الثوار أن يُلقوا بسلاحهم
ويسلموا أنفسهم لولاة الأمير، وفي الوقت الذي كان الثوار في أمس الحاجة للمعونة المادية والمعنوية حتى يتمكنوا من التخلص من الظلم والاستبداد الأجنبي إذ بالقادة الروحيين ينخدعون، فيدعونهم إلى الاستسلام.
ولا شك أن هذا الموقف من طرف القادة الروحيين كان له أثره البالغ على الأقباط أكثر من كل جحافل المأمون وطاغيته، ولكن على الرغم من كل هذا، فقد رفض آباؤنا الأقباط في إباء وشمم هذه النصائح الاستسلامية وفضلوا أن يعطوا أرواحهم فداءً لمصر وعقيدتهم، وهنا تذكر "الخريدة النفيسة" ذلك الحدث فتقول: "واستعدوا لمقاومة من يقصد سلب استقلالهم وإذلالهم".
وبعد حروب دموية بينهم وبين عساكر المأمون، كان النصر دائمًا في جانب الثوار، وقاد الخليفة الجيش بأجمعه إلى حومة الوغى وأصلى نار الحرب.. ولم يدخر من قوته وسعًا حتى أضعف الثوار، كما تذكر د. سيدة إسماعيل الكاشف بسالة هؤلاء الثوار فتقول: "ركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم الجند السيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم".
وتضيف الخريدة النفيسة: "دخل الجيش بلاد البشمور وحرق مدنها ودمر كنائسها وقتل صغارها وسبى نساءها وأجلى الخليفة رجالها إلى جزر الروم الخاضعة له وإلى بغداد".
وهكذا أبيد البشموريون على بكرة أبيهم, وأما تقى الدين المقريزي فيقول في اختصار: "انتفض القبط فأوقع بهم "الأفشين" على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر.
كما يعزي هزيمة البشموريين أمام جيش المحتل إلى تسخيرهم بعض سكان البلاد المجاورة ليرشدوا جيش الخليفة للوصول إلى البشموريين دون المستنقعات التي عجز الجيش على الدخول إليها في الغزوات السابقة وألحقوا الهزيمة عدة مرات بجيش الخليفة، واستطاعوا أن يفتكوا بعدد كبير من الجيش .
ويقول الأنبا ديسقورس في موجز تاريخ المسيحية من كتب التراث على البشموريين، إنهم كانوا يأتون ليلاً وينقضون على جيوش المسلمين، ولم تنتهِ الحرب معهم إلا عندما استولي العباسيون على مصر، وإن كانت ثوراتهم تجددت أيام هؤلاء أيضًا خصوصًا أيام الخليفة .
ولم يخرج الأقباط في ثورات أخرى إلا عند مشاركتهم مع المسلمين في ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد كانت الثورات القبطية تعبيرًا صادقًا عن الحركات القومية الوطنية، والتي تُمثل بعدًا أساسيًا في الشخصية القبطية، إذ كلما زاد التنكيل والاضطهاد كلما زادت الثورة.
والحق أنه مهما قيل عن اضطهاد المسيحيين فى عصر دقلديانوس والرومان، فإن التنكيل والسحق للشعب المصري كان أضعافا مضاعفة في الاحتلال العربي، إذ كانت فترات حكمهم بمثابة محاولات متلاحقة وخطيرة لإبادة الشعب القبطى المُسالم الذي يحب وطنه ويقدسه... نعم كانت محاولات لإبادة القبط وإحلالهم بشراذم العرب الهاربة من جدب وفقر بلادها الصحراوية البدائية إلى نيل مصر العظيم وحضارته العظيمة.
يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق