الزهايمر.. نسخة فلسطين/ جواد بولس

تلقّيتُ قبل أيام نصَّ بيان صادر عن تنظيم "الجهاد الإسلامي" في محافظة الخليل، وفيه شجب واحتجاج على استدعاء الأسير المحرّر ثائر حلاحلة من قبل جهاز أمني فلسطيني. ويعيب مصدرو البيان على من استدعى مناضلًا فلسطينيًا أفرج عنه الاحتلال الإسرائيلي قبل شهور قليلة، بعد أن قضى في الأسر الإداري قرابة العامين دون أن يُحقّق معه ودون أن تقدَّم بحقه لائحة اتّهام. وهذا الثائر هو من تصدّرت صوره ساحات فلسطين ومن لهجت باسمه ألسن الأحرار في فلسطين وغيرها وذلك عندما خاض مع بعض من رفاقه في الأسر والكفاح معركة الأمعاء الخاوية.
لقد أضرب ثائر عن تناول الطعام لمدة سبعة وسبعين يومًا ولم يوقف إضرابَه حتى بعد أن أقر الأطباء أنّه يجابه الموت الذي قد ينقض عليه في كلِّ لحظة وبعد كل تنهيدة متعبة ورمشة عين. لقد أوقف ثائر إضرابه بعد أن انتزع ورفاقه التزامًا إسرائيليًا يقضي بالإفراج عنه في بداية حزيران المنصرم.
أفرج الاحتلال عن ثائر حلاحلة بجسم عليل ما زال بحاجة لرعاية ودراية، لكنّه، كما كان بالأسر، هكذا هو خارجه، كتلة من إصرار وإيمان وجاهزيّة عليا للتضحية في سبيل ما يؤمن به.
لقد تابعتُ قضية ثائر ورفاقه وهم سجناء يناضلون، ومن الطبيعي أن ألتقي به وهو خارج الأسر وفي مناسبات عديدة. إحدى هذه المناسبات كانت على أرض جامعة بير زيت التي كانت رمزًا فلسطينيًا للفكر الحر والنضال النقي ومرجلًا لا يستوعب قِدرُه إلّا ما صَلُح من الخام وأسمن من قوت ومن فكر. دُعينا ثلاثة، أنا وثائر ومن كان لسنوات طويلة رمز الوفاء والصمود والتحدي الفلسطيني في وجه الظلم الاحتلالي الإسرائيلي، فخري البرغوثي. وهو الذي أمضى في سجون الاحتلال مدة أربعة وثلاثين عامًا بالتمام والكمال.
لسنوات طوال وفي كل مناسبة عنيت بقضايا أسرى الحرية ومن على كل منصة وطنية كانت اليافطات، كساعات الملل، ترفع صورة فخري البرغوثي وتعلن مرور الأيام والأعوام وتصرخ كيف يعقل ولقد مضت ثلاثة عقود وأكثر؟!.
في طريقي بدأت أتصور اللقاء وأتهيّب، فما عساني سأقول وأنا في حضرة شيخ العذاب؟ كيف لي أن أداري خفقان قلبي وأنا بمعية ثائر الجائع للحريّة وفخري. فمذ بدأت رحلتي كان فخري هناك في قمّة الهم يناوش النجمة والصخرة ثابتة على صدره.
وصلنا إلى ظلال حلم. لم تعد بير زيت أرضًا للرماد ولا ملاعب للهتاف والحصى. وكأننا ندخل مدينة من ورق. ذكور وإناث يتأبطون معلّبات من وهم ووجع. وجوه عاديّة لا يعلوها قلق الشباب وحيرة المفارق. طلّاب حضروا من أجل ورقة وغاب عنهم الاحتلال. حاضرهم فقاعات والمكان بلون حجارته باهت بلا نبض ولا حب ولا حياة.
مشينا وكأننا حراس للندم. ثلاثةٌ حوّلَنا جهل المكان إلى "نكرات" لم تعنِ لأشخاص هذا الزمن شيئًا. فلسطينيون ولدوا بعدما بدأ الفخري بسداد أقساط حرية، لا تجد راية بينهم ولا سارية. فلسطينيات عشقن الفضائيات، لا فخري يعنيهن ولا شيخ السجناء، فـ"روتانا" هي القيد وهي الداء والدواء. أجيال لا فضاء لها ولا خيال. أسيرة واقع مر. لا تقرأ حروف تاريخها وحاضرها فمن لم تسعفه "روتانا" فالعظة في "اقرأ" أوَلم نولد من ألم ومن قلم لنصيرَ شعوبًا من فتح وحماس وأصحابَ قضية.
دخلنا إلى قاعة، يرافقنا شباب مجلس الطلبة. طاولة في الصدر والقاعة تئن من هواء متعب يفتّش عمّن يستنشقه. كراسٍ رتّبت على أمل وشهوة يتيمة، امتلأت دهشة وخجلًا. صدمتُ وكظمتُ غيظي. جئناكِ بير زيت في زمن الزهايمر!. الكل فيك ضائع لا هداية ولا حارس. لا صوت للسقوط، لا طريدة ولا فارس. ضياع يتزوج ضياعًا والكل مفعول به والكل فاعل.
فلسطين غابت هناك في بيرزيت. وعلى طاولة في صدر قاعة ستشهد على خيبة أملنا تربَّع العذاب.
مناضلان حضرا إلى بير زيت وغاب النضال وتبخَّر احتلال، فلا  انتصبت على الطرقات حناجر تهتف للجموع، بل جموع تواجدت في أركان جامعة ماضيها عز وحاضرها يعيبه عراة من ذاكرة هاموا و"صاعوا"، ولا دمعة فرح سكبت لمجيء رمز ولا صفقت له أيدٍ. مشيتُ وخالجني شعور بأن الكلَّ نائم وتحت الأثواب مخارز جهّزت لربيع آت وليوم المآتم.
تحدَّث كلُّ واحد منّا بما أملته الكياسة والفصاحة وصفّق لنا عشرون من أبناء فلسطين وسجَّلتُ في رزنامتي ذلك اليوم المشهود في عامٍ أسميته عام الضياع وزمن الزهايمر.
تعانقنا وودّعنا وتواعدنا. فكلنا يعرف بيدره ويعرف أي الطيور إلى حبّه أقرب. فأنا وثائر إخوة في جوعنا للحرية والكرامة وبعدها سيبقى العقل سيّدًا وحكمًا ودائمًا سنتفق أو نختلف بالحرير وبالكلمة، التي كانت وستبقى هي الأحسن. ومع فخري قد نختلف لكننا عليه وعلى ما أعطانا لن نختلف.
عدتُ وقرأتُ بيان شجب استدعاء قوات الأمن الفلسطيني لثائر .هممتُ بالبكاء وقبل الدمعة الأولى، بدأت أقرأ بيانًا يشجب باسم "فتح" اعتقال ناشطين فتحاويين على أيدي قوات الأمن الفلسطيني في غزة!.
لم أبكِ. لم أصلّ. فأنا مع إخوتي فخري وثائر شهدنا يوم غاب الاحتلال عن بير زيت ويوم غابت فلسطين. ففي زمن نقرأ فيه بيانات شجب عمّا يفعله الفلسطيني بالفلسطيني وعن أمن يستدعي ثائرًا هنا في رام الله وهناك في غزة تخسر فلسطين ويكون الزمن زمن الضياع، زمن الزهايمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق