ترتفع الأصوات بين الفينة والأخرى من كافة المؤسسات العالمية الدينية والهيئات القانونية والتوجهات العقلانية التجديدية للدعوة إلى طرح التسامح والحاجة إليه كمنهج وكمفهوم أخلاقي ينطلق من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة وبالفعل فقد كانت لهذه الدعوات والنداءات تفاعلات واستجابات خاصةً على الصعيد الكوسموبوليتي/الكوني الاجتماعي الذي يشكل الجوهر الأساس لتقويم الأمم والمجتمعات وترشيدها نحو التداخل مع بعضها البعض للانصهار في بوتقة المجتمع الكوني الواحد المتفاعل المتعدد في التوجهات والاتجاهات الايديولوجيه. لكن ما تشهده الساحة العالمية اليوم هو عكس ذلك المبتغى والمأمول فلم يعد لمثل هذه المفاهيم حضور حقيقي ذلك بسبب الأطماع والماديات التي تضرب بجذورها في كل بقعة من بقاع المعمورة وما الرأسمالية العالمية الاحتكارية إلا وهي المحرك الأساس لتقويض مثل تلك المفاهيم لجعلها تندرج تحت مفهوم اللامعقول .
وفي هذه المقالة سنحاول التركيز قدر الإمكان على شرح وطرح مفهوم التسامح من منظور تاريخي وفلسفي إلى مدلول ثقافي ومعرفي حتى يتسنى لنا الخروج من المأزق الماهوي الذي قد يحيط بنا من كل حدب وصوب ولمعرفة الكيفية الفلسفية التعاملية لتوظيف مثل تلك المفاهيم الخلاقة التي ما أن سعينا للتعامل بها تجاوزنا الكثير من الخلافات والاختلافات الاجتماعية التي قد تنشأ بسبب ما يروّّج له من مفاهيم ورؤى خاطئة تهدف إلى تقويض التواصل والأخلاق وإحلال اللاتوافق واللاتفاعل بحيث تنسجم مع المفهوم المادي المحض وما يسوّّق له العالم اليوم من ترويج للبضائع الفكرية والثقافية والمعلوماتية في الفضاء السايبرينتيني "المجالات المختلفة " لهي خير برهان على طغيان الروح الانوية وجعلها في منأى عن القضايا الإنسانية الأساسية التي تقوم ببناء الذات نحو تشكيل جهاز مفاهيمي يرمي بدوره إلى تقويم المنطلقات والمرتكزات الأخلاقية للأخلاق وإعادة بناء العلاقة الخلاقة التي ترمي إلى إنشاء شبكات ومؤسسات فعّّالة تواصلية في العمل الدؤوب من اجل النهوض وعدم النكوص والتمترس وراء المفاهيم الخاطئة .لقد تنامت الدعوة إلى التسامح، بمفهومه الاصطلاحي (Tolerance) في التاريخ الحديث على اثر ما شهدته أوربا في القرنين السادس عشر و السابع عشر من اشتداد موجة التعصب الديني العدواني و ما رافقه من لا تسامح ديني و حروب دينية ممتدة ومتشددة بين الطوائف المسيحية في أوربا. ويذكر انه في القرون الخمسة السابقة للقرنين المذكورين مباشرة أيضا كانت أوروبا ضالعة في حروب دينية ضد العالم الإسلامي تمثلت في ما عرف لاحقا بالحروب الصليبية و امتداداتها من المواجهات العسكرية. و مع أن تلك الحروب الصليبية، وإن مثلت قمة التعصب و اللاتسامح الديني الأوروبي تجاه المسلمين،انطوت- في نفس الوقت- على استمرار نوع مما كان قد بدأ قبل ذلك بعدة قرون من التفاعل الثقافي الأوربي- الإسلامي، لا تتوافر حتى الآن دراسات علمية كافية خاصة بالأثر المحتمل لذلك التفاعل الثقافي الأوربي - الإسلامي في تأثر الثقافة الغربية بحالة التسامح الديني في الثقافة العربية أو انتقال، كما يفيد البعض، بعض فكرة التسامح الديني إليها من الثقافة العربية. و لا يكفي لإثبات أن فكرة التسامح قد انتقلت من الثقافة العربية إلى الثقافة الغربية أو أن هذه الأخيرة قد تأثرت بما انطوت عليه الثقافة العربية من تسامح ثبوت انتقال بعض المضامين الثقافية بين الثقافتين العربية و الغربية و لا وجود عدة إشادات غربية بما كان يسود العالم الإسلامي من
تسامح ديني.
وتؤرخ كتابات معاصرة لظهور الدعوة إلى التسامح، بمفهومه الاصطلاحي، في العالم العربي في التاريخ الحديث بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين حيث تداعي بعض المثقفين، و خاصة من الأخوة
المسيحيين العرب، إلى الدعوة إليه. عالميا، كانت الدعوة إلى التسامح بدأت تأخذ بعدها العالمي الرسمي منذ أن بدأت المواثيق الدولية تذكرها أو تشير إليها في نصوصها ربما بدءا من ميثاق الأمم المتحدة ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. و أثمرت الجهود الدولية بشأن نشر ثقافة التسامح عن صدور " إعلان مبادئ التسامح" عن المؤتمر العام لليونسكو في عام 1995 و إعلان عام 1996 عاما دوليا للتسامح. و اكتسبت الدعوة الدولية للتسامح زخما ملحوظا على اثر التصاعد الأخير في أحداث العنف و الإرهاب و كراهية الأجانب واضطهاد/ سوء معاملة الأقليات و رواج بعض نظريات الصراع أو الصدام الثقافي/ الحضاري.
ذلك عن تجدد أو تنامي الدعوة إلى التسامح و ظهور مصطلح التسامح في التاريخ الحديث، بيد ان من المؤكد ان بداية الدعوة إلى التسامح في التاريخ البشري تعود إلى ما قبل التاريخ الحديث و ربما يصح التأريخ لبداياتها ببداية الرسالات السماوية و التي مثلت الدعوة الى التسامح، و إن بألفاظ مختلفة،بين البشر احد مضامينها الثابتة التي توالى الرسل، عليهم السلام، على دعوة البشر إليها. و يتوافر التراث الإسلامي الفقهي و الفلسفي على كثير من المرتكزات والأسس والأحكام التي من شأن تطويرها الإسهام في بلورة مفهوم أفضل و أوسع قبولا للتسامح وفي تأصيل و تكريس ثقافة التسامح.
وما دام المقترح في العنوان الآنف الذكر حول تناول هذا البحث من أوجهه التاريخي والفلسفي فإننا سننتقل إلى الشق الثاني من العنوان شرحاًً وتفكيكاًً وفهماًً ، فحري بنا التعرف على بعض القواعد والضوابط الأساسية لفن التخاطب وخلق تجاذب نحو الآخر بدراسة العناصر التي تكفل لنا توظيف مفهوم التسامح ضمن حياتنا اليومية، أما إذا لم يكن هنالك ثمة أدوات ومعدات ننطلق بها في بناء المفهوم فإننا لن نستطيع فصل الهوة القابعة المتموضعة في عقولنا وبالتالي تكون عقبة أمامنا في التحرك نحو معرفة ماهية القيم الأساسية لتقويم الحياة الإنسانية الهادفة للعيش الرغيد والهناء السعيد .
وبالرجوع إلى الدراسات الفلسفية والمنطقية منها نقتبس بعض المكونات والمحددات التقنية الرئيسة نذكر منها بإيجاز:
1- قاعدتا كم الخبر:
• لتكن إفادتك المخاطب على قدر حاجته.
• لا تجعل إفادتك تتعدى القدر المطلوب.
2- قاعدتا كيف الخبر:
• لا تقل ما تعلم انه ليس صادقاًً أو ما تعلم كذبة.
• لا تقل ما ليست لك عليه بينة أو دليل يثبت صدق قولك.
3- قاعدتا علاقة الخبر بمقتضى الحال:
• ليناسب مقالك مقامك، او مناسبة الكلام للسياق الاستعمالي.
4- قواعد جهة الخبر:
• لتحترز من الالتباس.
• لتحترز من الإجمال.
• للتكلم بإيجاز.
• لترتب كلامك.
5- قاعدة التعفف : او التأدب بالآداب العامة.
توجب هذه القاعدة على المخاطب إلا يستعمل من العبارات إلا بقدر ما يمكنه من حفظ المسافة بينه وبين المخاطب. وان لا يكون لك فرض على المخاطب.
6- قاعدة التودد:
وهذه القاعدة تنطلق من منطلق المعاملة بالمثل مستخدماًً بذلك الأساليب والصيغ التي تقوى من أواصر التضامن والمحبة والصداقة نحو الأخر.
إلى غير ذلك من الصيغ التي نستطيع توليدها وتوظيفها واكتسابها من خلال فن التواصل مع الأخر.
ولقد أريد بهذه القواعد أن ترتقي إلى جعل اللغة والأداة خلق ذريعة نحو كيفية التواصل الخلاق بين الذوات ، وترتكز بصورة خاصة على القواعد التبليغية في الخطاب أكثر من إيلائها للقواعد الأخلاقية الخاصة بالتعامل الأخلاقي والإنساني أهمية . والمراد من طرح هذه القواعد والنظريات والأسس إنما هو تأسيس لضبط مفاهيم الخطاب العقلاني في الواقع المعاش وحتى يحصل تبادل الرمز وإدارة أسلوب الحياة بالتفاهم والتسامح والتواصل البناء.
ننتقل إلى المحور الثالث وهو حول تحديد القضايا التي تفرض نفسها على الفكر الفلسفي في عصرنا الحالي نحاول في هذه الاطروحه بسطها وفضح أساليبها ونوعياتها الايديولوجيه التي تستفحل في كيان البنية العقلية الاحاديه المنضوية تحت عنوان اللاتسامح وهي كما يلي:
- التطرف والغلو في الدين أو بأسمه أو ضده...
- التطهير العرقي الذي يمارس جهاراًً في جهات ، وتحت هذا الغطاء أو ذاك في جهات أخرى .
- الفكر الأحادي الذي يريد فرض واقع اقتصادي فكري إيديولوجي على العالم كله.
- ما يسمى ب " صراع الحضارات " وهي نظرية تستهدف تطويق أمم وشعوب بعينها .
- التطرف والغلو في الدين أو بأسمه أو ضده...
- التطهير العرقي الذي يمارس جهاراًً في جهات ، وتحت هذا الغطاء أو ذاك في جهات أخرى .
- الفكر الأحادي الذي يريد فرض واقع اقتصادي فكري إيديولوجي على العالم كله.
- ما يسمى ب " صراع الحضارات " وهي نظرية تستهدف تطويق أمم وشعوب بعينها .
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن : هل يتسع مفهوم التسامح لكل المعاني الضرورية لمعالجة هذه القضايا ومواجهة أخطارها .؟ أن الجواب سيكون بالنفي إذا نحن تركنا هذا المفهوم كما هو عليه. أما إذا أردنا إعطاءه معنى عاماًَ شمولياً يرتفع به إلى مستوى المفاهيم الفلسفية ، المستوى الذي يجعله قادراًً على أداء الوظيفة التي تطلب منه اليوم، وظيفة إحراج التطرف، مهما كان نوعه، وفضح وسائل الهيمنة وأساليب خفاء صراع المصالح.
مصادر الدراسة:
1- تحولات الفكر الفلسفي المعاصر- أ. عبدالرزاق بلعقروز.
2- قضايا في الفكر المعاصر- الدكتور محمد عابد الجابري.
1- تحولات الفكر الفلسفي المعاصر- أ. عبدالرزاق بلعقروز.
2- قضايا في الفكر المعاصر- الدكتور محمد عابد الجابري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق