على خلاف كل شريكاتها في منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية (بإستثناء شريكاتها المسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا وبروناي وشريكاتها البوذيات الأقل نموا مثل كمبوديا ولاوس وميانمار) تواجه الفلبين معضلة تزايد عدد سكانها بصورة غير مسبوقة. حيث تشير التقديرات الخاصة بعام 2012 أن معدل نموها السكاني تجاوز نسبة الـ 1.9% مقابل 0.543 % في تايلاند، و1.542 % في ماليزيا مثلا، الأمر الذي يعني توقع وصول سكان الفلبين إلى ما فوق المئة مليون نسمة في عام 2014 . ولعل هذا ما دعا الامم المتحدة مؤخرا إلى قرع إجراس الإنذار وحث حكومة مانيلا وبرلمانها على إتخاذ إجراءات تشريعية سريعة لسن قانون حول تنظيم الأسرة كيلا تذهب كل المكاسب التنموية القليلة التي تحققت في البلاد خلال السنوات القليلة الماضية أدراج الرياح.
والمعروف أن إرتفاع معدلات النمو السكاني لئن كان له بعض الايجابيات في حالات ومجتمعات معينة كسنغافورة مثلا، حيث تمنح الدولة حوافز للأسر على الإنجاب بسبب رخائها الإقتصادي وحاجتها إلى المزيد من الأيدي العاملة الوطنية، فإن له جوانب سلبية خطيرة في المجتمعات التي تعاني من الفقر والبؤس والبطالة وضعف المرافق الحكومية وتقادم البنية التحتية كحال الفلبين التي ينتظر أن تشكل فيها الزيادات السكانية المتتابعة ضغوطا رهيبة على مرافق الدولة الصحية والتعليمية والاسكانية وشبكات النقل والمواصلات والكهرباء والطاقة والمياه.
وفي الحالة الفلبينية تبدو الحكومة عاجزة عن تقديم التشريعات المطلوبة لتنظيم الأسرة بسبب عدم إتفاق مكوناتها السياسية على مشروع القانون المعلق في البرلمان منذ 11 عاما من جهة، ثم بسبب تدخلات الكنيسة الكاثوليكية من جهة أخرى. فالكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها 80 بالمئة من سكان البلاد المقدرين اليوم بأكثر من 97 مليون نسمة والتي لها سطوة ونفوذا في هذه الدولة (رغم علمانيتها) بدليل الدور السياسي المعروف للكنيسة في الاطاحة بحكومات وأنظمة سابقة، ترى في عملية تنظيم الأسرة وما يتنضمنها من وسائل كإستخدام الواقي للحد من الإنجاب، وتحديد عدد أطفال كل زوجين، عملا مخالفا لتعاليم الدين المسيحي.
وطالما أننا فتحنا هذا الملف فإنه من المهم الخوض في المتغيرات الديموغرافية التي شهدتها الفلبين خلال العقود الماضية وصولا إلى وضعها الراهن. فحينما أجري أول إحصاء سكاني رسمي في عام 1877 كان عدد السكان لا يتجاوز خمسة ملايين ونصف المليون نسمة. هذا الرقم الضئيل ظل يرتفع تدريجيا. فمن 48 مليون في عام1980 إلى 66 في عام 1990 فإلى 77 في عام 2000 ، وصولا إلى 94 مليون نسمة في عام 2011 . وبهذا صارت الفلبين تحتل المرتبة الـثانية عشرة في قائمة الدول الأكثر إكتظاظا بالسكان في العالم، مع وضع يشبه إلى حد كبير وضع مصر، حيث تشير التقديرات بأن معدل النمو السكاني في هذا القطر العربي في عام 2012 قد وصل إلى 1.922 بالمئة.
ومن ضمن الحقائق الديموغرافية الأخرى أن معدل المواليد ناقصا معدل الوفيات في الفلبين هو 2.2 %. وهذا رقم مرتفع إذا ما قورن بمثيله الخاص بتايلاند (0.8%) وسنغافورة (1.9%) مثلا، ووجود نحو 70 بالمئة من الفلبينيين ضمن الفئة العمرية من 15 إلى 64 عاما، ووجود 57 بالمئة منهم في سن العشرين، وإرتفاع معدلال الحياة إلى نحو 72 سنة، وإرتفاع الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع الواحد من 160 فرد في عام 1980 إلى 220 فرد في عام 1990. هذا ناهيك عما ورد مؤخرا في تقرير إخباري بعنوان "الإنفجار السكاني في الفلبين"، والذي تضمن أن ثلاثة آلاف طفل فلبيني يولدون كل ساعة، ومائة ألف يولدون كل شهر، ومليون طفل يولد كل سنة.
وبسبب الضغوط الإقتصادية والمعيشية الناجمة عن إرتفاع معدلات النمو السكاني إضطر الملايين من الفلبينيين إلى الهجرة إلى الخارج للعمل في مختلف التخصصات. حيث تفيد الإحصائيات الرسمية أن معدل عدد المهاجرين اليومي هو 2500 فرد، وأن الفلبين، بسبب هذا النزوح، صارت تنافس الدولة الأكثر تصديرا للمهاجرين في العالم وهي المكسيك، وأن نحو 11 مليون فلبيني قد هاجر إلى الخارج، معظمهم إلى الولايات المتحدة الإمريكية، و أن من بين هؤلاء مليوني نسمة يعملون في دول الشرق الأوسط وخاصة المملكة العربية السعودية التي تستضيف وحدها مليونا منهم. إضافة إلى هذه الظاهرة، وللأسباب نفسها، زادت منذ سبعينات القرن الماضي معدلات الهجرة من الأرياف البعيدة والجزر النائية إلى المدن والحواضر مسببة ضغوطا هائلة على المرافق والبنى التحتية. فمثلا إرتفع عدد المدن التي يسكنها مائة ألف نسمة فأكثر من 21 مدينة في السبعينات إلى 30 مدينة في أوائل الثمانينات. أما العاصمة مانيلا وضواحيها التي تبلغ مساحتها الاجمالية 640 كيلومتر مربع فقد راح عدد سكانها يرتفع بنسبة 3.6 بالمئة (أعلى بكثير من المعدل السنوي العالمي المتعارف عليه وهو 2.5 بالمئة) كل عام حتى وصل طبقا لإحصائيات عام 2010 إلى نحو 12 مليون نسمة، علما بأن العدد كان في عام 1975 لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة فقط.
وإزاء هذه المتغيرات الديموغرافية، معطوفة على إكتظاظ المدن والحواضر بالمتدفقين عليها من الأسر الريفية الفقيرة ذات الأعداد الكبيرة من الأطفال، قرعت بعض التنظيمات المحلية أجراس الإنذار مبكرا، الأمر الذي قابلته الحكومة في عام 1985 بتشكيل لجنة بهدف ضبط الزيادة السكانية. وقد وضعت هذه اللجنة في بداية تحركها خطة لخفض معدلات النمو السكاني إلى 1 بالمئة بحلول عام 2000 عبر وسائل مثل حث الأسر على عدم إنجاب أكثر من طفلين، وحثها على ترك ثلاث سنوات ما بين إنجاب الطفل الأول والثاني، وتشجيع الإناث على عدم الإرتباط قبل بلوغ سن الثالثة والعشرين، وتشجيع الذكور على عدم التفكير في الزواج قبل سن الخامسة والعشرين. وقتها كان هناك شيء من التجاوب والتعاون ما بين هذه اللجنة وقساوسة الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما إختفى بمجرد سقوط نظام فرديناند ماركوس الديكتاتوري. ذلك أن سقوط الأخير، وتعاظم دور الكنيسة على خلفية دورها في الحدث، والتفاؤل الذي ساد البلاد وقتذاك بإمكانية تحسن مستويات المعيشة وتحقيق نهضة إقتصادية في ظل الديمقراطية الجديدة، كانت كلها عوامل ساهمت في تصلب موقف الكنيسة وإنسحاب ممثليها من اللجنة آنفة الذكر، مع إعتراضها على أية خطة لتحديد عدد الأطفال، وتحذيرها من مغبة النص في الدستور الجديد على ذلك. وبهذا تسببت الكنيسة، ليس فقط في قطع الطريق على الجهود المخلصة لسن تشريعات خاصة بتنظيم الأسرة، وإنما تسببت أيضا في تعطيل محاولات التخفيف من حدة الفقر في البلاد، بدليل أنه في عام 2000 كان ثلث الشعب الفلبيني (أو نحو27 مليون نسمة) يفتقر إلى مبلغ الحد الأدنى لمواجهة إحتياجاته الغذائية ومتطلباته الأساسية اليومية بسبب كبر حجم الأسر وأعداد الأطفال. وبطبيعة الحال ساهمت الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والأعاصير وموجات المد البحري في إفقار الفلبيين أكثر فأكثر.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: ديسمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق