التصوف بين الليالي الصامتة والليالي الناطقة: الشعراء العرب بين الإنسان والطبيعة/ كريم مرزة الاسدي

أوسمت مقالي  الحاضر والماضي  بجزأيه (الشعراء العرب بين الإنسان والطبيعة ) , كتبت في الحلقة الأولى عن علاقة الأنسان الشاعر  بذاته , وبث أحاسيسه ومشاعره , وما يختلج بنفسه  من آلام وأشجان وتفاؤل وتشاؤم ... , وعلاقته بالإنسان الآخر  وما يتركه من آثار وأطلال , بل مشاعره حول المجتمع بنوعه الإنساني , والعلاقات متشابكة كتشابك  عروق الإنسان وأوعيته , ولا يمكن فصلها, ولكن في لحظات يغلب أحدهما على الآخر بمدى بعيد , والإنسان ليس سواءً على كل حال , وأردت أن أعرج عن علاقة الشاعر بالطبيعة بحيواناتها المألوفة , و الناطقة الصداحة , والصامتة  الخلابة التي خلقها الله وأبدع فيها أيّما إبداع  , ولمّّّاًً رمت التعريج على الشطر الثاني ( الطبيعة ) ,  وجدت نفسي أمام الشعر الصوفي كي أتحدث عنه لامحاً ,لأنه يمثل العلاقة الرابعة  للشاعر, و ليس من موضوعنا المدرج في مقالي , وما أنا بقاصده ,  , وأعني علاقته   بالذات الإلهية من حيث التصوف , لا من باب المناسبات الدينية الاجتماعية المألوفة أو الزهد , و التصوف متعدد المسارب , متنوع المقاصد , غامض الغايات , مبهم البواعث , يجب أن تـُدرس كل حالة لوحدها بتأمل وتمعن شديدين وتتبع جذورها وآثارها ودوافعها وظروفها الموضوعية والذاتية منذ مرحلة الجنين , بل أبعد من ذلك للموضوعية منها , وإن تبدو المدارس  متشابهة ظاهرياً , مثلا هل هذا المتصوف المسكين سئم تكاليف الحياة , ونفاق البشر , فلجأ إلى بارئه مستغيثاً به ,لائذاً إليه , هاربا من شرور الدنيا وأهلها مسكيناَ مستكيناََ ؟! أم أنـه وجد الحياة لا تستحق الحياة , فلبسه متفلسفاَ بها مستنكفاً منها , وجودياً فيها  بأتجاه الرب ؟!  !
هذا جناه أبي عليّ       وما جنيت على أحد
ولو أنني أشك بأبي العلاء كان يكره الدنيا , بل عاشقاً لها  زاهداً فيها , أم أن هذا المتصوف الرفيع كان يرى نفسه أعلى مقاماً من جبلة البشر , وتصارعهم المذموم للملذات الدنيويية  النتنة , فيسعى للكمال الأخلاقي الإنساني السامي , فقرر الذوبان بالذات الإلهية  عشقاً و سلوكاً وفعلاً بتفلسف مقصود  , لا دراسة وقولاً  بنصٍّ مكتوب فقط , سيان إن كان هذا الأمر طبعاَ أم تطبعاَ  أو كلا الأمرين ؟! - ولو أن  السلوك الطبيعي للإنسان العادي هي  طبيعة خلق الله و سنة مخلوقاته , والناس أجناس  - مهما يكن من أمر   يقول حسين بن منصور الحلاج  (قتل 309هـ / 922م ):
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي إنّ في قتـْلي حياتـــي
و مماتـي في حياتـي و حياتي في مماتـي
أنّ عنـدي محْو ذاتـي من أجّل المكرمـات
و بقائـي في صفاتـي من قبيح السّيّئــات
سَئِمَتْ نفسـي حياتـي في الرسوم الباليـات (1)
إقتلوني ففي قتلي الحياة  الأبدية مع الذات الإلهية , فالحياة خدعة مليئة بالصفات السيئات ,والرسوم الباليات , هكذا يقول  بينما الإسلام , يحرم قتل النفس البشرية , و يحث على العمل والسعي والرزق  "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون " (الجمعة 10) , ويقول الإمام علي (ع)  , وهو إمام الزاهدين الأول في الإسلام  :إذارأيت رجلاً سألت عن عمله , فإن قيل بلا عمل سقط من عيني ... أم لأبراز الذات , والحظوة بالتبجيل  والأحترام , وامتصاص نهم الأنام , لكلّ ما يهمُّ إليه الهمام  لنيل الصعب المرام ؟! لذلك اختلف الناس حول متصوفيهم  ما بين مقدس ومكفر لهم , هذه مجرد خواطر عابرة مرّت ببالي  , وقد خُصصتْ  درسات ومؤلفات عن التصوف والشعر الصوفي ,  ولله الأمر  من قبلُ ومن بعدُ .
نرجع للطبيعة ومع الطبيعة الإنسان الآخر! وإلا لِما قالوا (الجنة بلا ناس ما تنداس ) , وقالوا (ثلاثة -أشياء- يذهبن الحزن الماء والخضراء والوجه الحسن) ,ولكن في  العصر الجاهلي لم يكن الترف والبذخ , والقصور الشامخة بأشجارها الباسفة , وإنما الصحراء والخيل والليل  والحيونات  والنوق , والأمطار, والبرق , والرياح , والفصول وبعض الأشجار , و يتكىء الشاعر  على الأستعارة و التشبيه لوصف الموصوف بصدق وبساطة وعفوية وواقعية حسية مليئة بالحركة   , يقول الدكتور  (سيد نوفل ) موجزاً الطبيعة لدى الجاهليين  " الحب للطبيعة فمنها المواد والألوان , والصدق فلا مبالغة ولا إحالة , والبساطة فلا تكلف ولا  تصنع في الألفاظ والمعاني , و الإيجاز فلا حشو ولا فصول , والدقة فلا كلمة نابية ولا أخيلة غير مطابقة , وإنما جوٌّ محكم يسود الوصف كلـّه " (2) , فإذا أردنا وصف الطبيعة الصامتة بجاهليتها , وليس بصخبها ومجونها , وعبثها وسمرها  , ,ومرجها وهرجها  ,  فاجلى مظاهر الطبيعة ليلها البهيم الذي يحتل نصف حياة الشاعر , وأروع ما قيل فيه ليل امرىءالقيس (توفي 540م) :
وليل ٍ كموج ِالبحر ِ أرخى سدولهُ         عليَّّّّ بأنــــواع ِالهمـــوم ِليبتلي
فقلتُ لـــهُ لمّــــــا تمطـّى بصُلبهِ           وأردفَ أعجازاً ونــــاءَ بكلكل ِ 
ألا أيّها الليلُ الطويـلُ ألا أنجلي           بصبح ٍ وما الإصباح ِمنك بأمثل ِ
تأمل في الشعر تراه بلمح سريع  ,يوجز كيف تتراكم الهموم عليه  ليلاً كأمواج البحرالعاتية المتتالية , مسنعيراً السدول ليزيد ليله ظلاماً على ظلام كأنما هذا الزائر الثقيل يريد أن  يختبر صبره  وعزمه , فيمازج بين الصورتين السمعية والبصرية  , ثم يحسبه هذا البعير الجاثم على أرضه جاثماً على قلبه , فيقول له : تزحزح عني يرحمك الله , وأثقل من البعير  البعير ! يتمطى بظهره  ,ويتلوى بعجزه , ويثقل بصدره , ثم ينزاح ليأتي الصباح ...آتى الصباح  !! ثم ماذا؟ و الإصباح ليس  بأفضل من ليله , كما يقول أبو العلاء , وأبو العلاء يفرح  لهذا التململ والتضجر من الدنيا :
تعبٌ كلـّها الحياة فما أعـــــجب إلا من راغبٍ في ازديادِ
لا تتخيل أنّ تعب الحياة , والسأم من تكاليفها  - كما زعم هذا أبو العلاء , وذاك ابن أبي سلمى - يصيبان الإنسان وحده . ولا الهموم بأنواعها في الليالي الطوال قد خبرن امرأ القيس الأسبق منهما , - وإنّما الطبيعة الصامتة نفسها ضجرت قبلهم , وملّت أضعاف مللهم , بل دع شاعر الطبيعة الأندلسي الأول ابن خفاجة (إبراهيم بن أبي الفتح ت 533هـ - 1138م), يتخيل كما يشاء  لوصف جبل هرم شامخ , مرّت به العصور الغابرة , أكثر مما مرّت على ( أبي الهول) عابرة ! :
وأرعنَ طمّاح ِ الــــذؤابةِ باذخ ٍ         يطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ
يسدُّ مهبََّ الريح ِ عن كلِّ وجهةٍ          ويزحمُ ليلاً شهبهُ بالمناكبِ
وقور ٍعلى ظهر ِالفـــلاةِ كأنـّهُ           طوالَ الليالي مفكرٌ بالعواقبِ
ألا تذكرك هذه الأستعارة المكنية  التشخيصية (وقور) بالجبل الشامخ  ( الملك الضليل) في فلاته, وهو يعاني من (أنواع الهموم ليبتلي) !!
   ولكن ما هكذا  كان ليل معظم الشعراء  الأندلسيين والعباسيين وحتى العصر الحاضر , فمثلاً أبو فراس الحمداني (ت 357هـ /968م) يوظف الليل  لمعللته بالوصل - أو ذهب مذهب الأولين بإطلالة النسيب -  تارة :
بلى أنا  مشتاقٌ  وعنديَ  لوعةٌ        ولكنَّ مثلي لا يذاعُ  لهُ   سرّ ُ
أذا الليلً أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً من خلائقهِ الكبرُ
هنا أراد الليل بشحمه ولحمه , يعني بهدوئه وصمته وسكونه وغسقه وسحره بدليل إذلال دموعه في وقت لا من درى , ولا من رأى , وطوراً - وفي القصيدة نفسها - يستخدم  كلمة الليل جسرا للعبور إلى الفخر مشبهاً نفسه ضمنياً بالبدر في بيته :
سيذكرني قومي إذا جدَََّ جِدّهم    وفي الليلة ِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ
وبشار بن برد ( ت 168هـ / 784م) يلجأ إلى الليل بكواكبه المتهاوية في  بيته الرائع - وهو الأعمى - لوصف معركة حامية الوطيس , جعل نهارها ليلاً بـ (كأنّ ) التشبيهية لمثار نقاعها , وسيوفهم  اللامعة تتهاوى كالكواكب المضيئة فوق رؤوس  أعدائهم بتشبيهيَن تخييلييَن  :
كأنَّ مثار  النقع ِ فوقَ رؤوسهمْ           وأسيافنا ليلً تهاوى كواكبهْ
أمّا ليالي الأندلس , فحكايتها حكاية, وأشهر ما قيل فيها , بما لا يقبل الجدال والنقاش , قول الضرير  أبي الحسن علي بن عبد الغني  الحصري القيرواني (420 هـ - 488 هـ / 1029م - 1095م) (3) , ولد في القيروان , وهاجر منها بعد نكبتها على يد بني هلال إلى بلاد الأندلس صال وجال شعرا ومدحاً ورثاءً , ورجع إلى طنجة , فمات فيها أراك عرفتني إلى أين أريد  الوصول , لقد وصلت إلى هذا الحصري ( نسبة إلى بيع الحصر), وهو يمدح أمير مرسيه (عبد الرحمن بن طاهر ) بقصيدة من تسعة وتسعين بيتاً ,  مطلعها ثلاثة وعشرون بيتاً في الغزل  :
يا ليلُ  الصبّ ُ متى غدُهُ        أقيامً الساعةٍ موعدُهُ (4)
رقدَ السّمّـــــــــارُ فأرّقهً          أســفٌ للبين ِ يردّدٌهُ
فبكاهُ  النجمُ ورقَّ  لــــهُ          مما يرعاهُ ويرصدُهُ
كلفً بغزال ً ذي هيـــفٍ         خوفُ الواشينَ يشرّدٌهُ
نصبتْ عينايَ لهُ شركاً          في النــوم ِ فعزَّ تصيّدُهُ
مما سبق يتضح لنا بجلاء أن أبيات امرىء القيس الوحيدة التي تصف الليل بطبيعته الصامته , وما عدا ذلك كلها ارتبطت بالإنسان فخرا أو غزلاً , ولكن قصيدة الحصري الضرير القيرواني التي عارضها ثلاثة وتسعون شاعراً كبيرا فعجزوا عن مجاراتها , ربّما  أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته ( مضناك جفاه مرقده ) : مُضْنــــاك جفـــاهُ مَرْقَـــدُه         وبَكــــاه ورَحَّــــمَ عُـــوَّدُهُ
حــــيرانُ القلــــبِ مُعَذَّبُـــهُ      مَقْــــروحُ الجَـــفْنِ مُســـهَّدُهُ
أَودَى حَرَقًـــــا إِلا رَمَقًـــــا        يُبقيــــه عليــــك وتُنْفِــــدُهُ
يســــتهوي الـــوُرْقَ تأَوُّهـــه    ويُــــذيب الصَّخْـــرَ تَنهُّـــدُهُ
ويُنــــاجي النجـــمَ ويُتعبُـــه        ويُقيــــمُ الليــــلَ ويُقْعِـــدُهُ
 كاد أنْ يصل إلى روعتها لولا هذا ( الليل )  في " يا ليلُُ الصّبّ ُمتى غدُهُ " بنداء تحسره وتوجعه  ,  وما أردفه من مفردات تلازمه  ..الصبُّ..الغد..رقد السمار ..الأرق..البين ..النجم ...كلف بغزال .. بعد أن عجز عن هذا كله استسلم للبين والنوم  , والبين لم يرضَ به  , وفي شرك النوم عزّ تصيّدُهُ , أي إيحاء تخييلي أصاب هذا الرجل الضرير ..ولا تتخيل الإيحاء يثنيني أن أحسب   القيرواني  كان كلفاً بحبّْ واقعي  بدليل قوله : ( خوف الواشين يشرّدُهُ) , فهذه  جملة إخبارية  ليس فيها مسحة تخيلية , و إنما تجربة واقعية ! , و بداياتها ليست مجرد مطلع لقصيدة مدح , وإلا لعبرها الزمان , ولم تتلاقفها الألسن جيلاً بعد جيل , هائمة بها , مغنية لها !  نعم  فيها أحاسيس صادقة , ومشاعر مصدقة برسم العشق ,  بينما قصيدة شوقي منحوتة من صخر التقليد ! لا تقل لي كان السيد ضريراً , الضرير تكون  الغريزة الجنسية عنده أقوى من السالمين الأصحاء لسبيبين , الأول للتعويض عن النقصان العضوي , وهذه قضية فسيولوجية , والثاني الحرمان وهذه إشكالية بيئيه  , ألم يصرخ بشار الأعمى الماجن الصريح :
ياقوم أذني لبعض الحيِّ عاشقة ٌ       والأذنُ تعشقُ قبلَ الـــــعينِ أحيانا
قالوا بمن لا ترى تُهذي فقلتُ لهم      الأذنُ كالعين ِتوفي القلبَ ما كانا
ثم يندب حظه العاثر , ولو أنني في شك كبير من هذا البرد أن يكون حظه عاثرا , ولكن نقبل منه قوله :
لمْ يطلْ ليلي ولكن لمْ أنمْ     ونفى عني الكرى طيفٌ ألمْ
وإذا  قلتُ لها جودي لنا    خرجتْ بالصمتِ عن لا ونعمْ
كلا يا صاحبي الليل طويل , وإنْ لم يطل ليل بشار   ...! فهو   ظاهرة طبيعية  صامتة طويلة على من داهمته هموم الملك الضليل  , لذا أطلنا  الشوط معه , وأنا متحسر على خيبة القيرواني   , نودعكم  بالخيبة على أمل اللقاء بالرجاء.... !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قراءة في ديوان الحلاج : نهاد خياطة - مجلة ( الموقف الأدبي )  - اتحاد الكتاب  العرب - دمشق  - العدد 307 - 1996م تشرين الثاني (الشعر فقط) .
(2) شعر الطبيعة في الأدب العربي : د. سيد نوفل ص 28 - القاهرة - 1945م الى ص 50 يتناول الموضوع
(3) أبو الحسن الصرير المذكور في المتن غير ابن خالته - وقيل خاله - الناقد أبي أسحاق إبراهيم بن علي القيرواني ( ت 413 هـ) , صاحب ( زهر الأداب ) المتوفي في القيروان
 (4) تذهب كتب كثيرة , ومعها مواقع  أكثر ’ إما عدم تحريك الكلمات تخلصا  من إشكالية الإعراب , أو بحركات ضعيفة التأويل نحوياً أو بلاغيا ,فمثلاً بعضها يذهب إلى : (يا ليلَ الصبِّ متى غذُهُ)  هنا ( الصبِّ )مضاف إليه لـ (ليلَ) المخاطب . فالمفترض يقال : ( يا ليلَ الصبِّ متى غدُك) ,   والكاف تعود على الليل , لأن العرب لا تمثل المضاف إليه يضمبر  إلا في حالة الركاكة اللغوية  , أمّا إذا أردت استخدام ضمير ,الهاء , فأنت تخاطب الليل , وتسأل عن غد ( الصب)  الغائب , فيكون الإعراب أقوى نحوياَ ولغوية  , وآخرون يجعلونه ( ياليلي الصّبُُّ ُ متى غدُهُ ) , البحر من ( المتدارك : فَعَلُنْ أربع مرات في الشطر , ومن جوازاته فعْلنْ )  , فيجب أولاً تخفيف الياء الأخيرة من (ليلي) إلى الكسر لتكون التفعيلة الثانية للصدر (فعْلنْ) , ليس في هذه النقطة المشكلة  , ولكن في (يا ليلي ) ياء المتكلم فيها خصوصية , أما في ( ياليلُ) , الليل بشكله المطلق ,   شتان بين الصيغتين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق