الحُرّيّة والإغتراب/ أسعد البصري

نحن ننتمي إلى الثقافة العراقية ، وتطور اللغة والفكر والوجدان في العراق . لكننا لا ننتمي للعراق كمواطنين ، لا نعيش فيه ، ولا نحمل أوراقه الثبوتية ، ولا نتأثر بشكل مباشر بظروفه و طقوسه . نحن نعانيه بصفته جزءا من تكويننا ككتاب مغتربين ، جزءا من عذابنا و جوهر ذاكرتنا الرمزية والجمالية كمثقفين فقط . ربما نكون قارب نجاة الحقيقة ، والصدق ، حين تكون الظروف هناك ، لا تسمح بالفكرة الشجاعة بسبب القمع . ربما نحن كريات الدم البيض المتبقية في جسد العراق المريض الهالك . نمتلك اغترابا برجوازيا ، وكآبة فقراء ، و نعاني أوجاعاً فلسفية لا يمكن تفسيرها بلا طفولة ، و لا عراق و لا لغة عربية .ربما بدافع الوجود ، والحنين ، والإبداع الفني نمارس هذه القدرة الخلاقة العجيبة ، التي هي الإبداع والتفكير الحر الوطني و الكتابة . لا هدف لنا سوى جوهر الكتابة نفسها . الغربة منحتنا الإنعتاق من الجاذبية ، و فيزياء الواقع ، نعيش حرية و خيالا باستمرار . قد تعصف ببلادي حرب أهلية ، وقد يسقط عليها نيزك أسود ، قد يبتسم الله يوما بوجهها فيبرد التاريخ ، ويمتليء دم العراق بالأمل والأوكسجين النقي ، قد يولد المستقبل بين ذراعيّ امرأة عراقية يوما . هذا كله لا يُغَيّر من مصيري ككاتب . لأن هدفي الوحيد هو الموت حتى الكتابة ، والكتابة حتى الموت . ربما مشكلتي ، لا علاقة لها بما يحدث اليوم في العراق ، ربما هي متعلقة بإبادة الخوارج ، أو بالدعوة الصفوية ، أو بأخوان الصفا والمعتزلة . إن الزمن الذي نتذكره هو موضوع الكتابة ، حتى لو كان في حالة لا وعي مطلقة . ومهما كان الواقع جميلا ، يبقى حلم الإبداع في صناعة واقع آخر ، في حرية كبيرة تجعلنا كالآلهة ، بمعنى كتاباً حقيقيين . حتى الله العظيم ، لم يتجاهل الأبجدية ، بل كتب كتابا . الغريب حقاً ، ونحن نعيش عالما بعيدا جدا ، ومختلفا منذ عقود ، مع هذا ، تجد مَن يتوقع منك الرضوخ في كتابتك لقوانين المجتمع الأبوي ، والمقدس والحرام ، والقمع الشعبي أو الحكومي في بلداننا . رغم أن لائحة العقوبات البدائية لا تشملنا ، ولسنا جزءا منها ولا من منطقها . نمارس على أنفسنا موتا حقيقيا ، بحيث لا يظهر من وجودنا العدمي ، تحت الشمس ، سوى الكتابة واللغة . أنا مجرد كتابة ، لأنني كشخص غير موجود ، كل يوم أُشعل قبري بحرارة الجحيم و أكتب . كما قال السياب : 
(( مِنْ قاعِ قَبْرِيْ أَصِيْحْ 

حَتّى تَئِنَّ القبور

مِنْ رَجْعِ صَوْتِيْ وَهْوَ رَمْلٌ و ريحْ

مِنْ عالَمٍ في حُفْرَتِيْ يَسْتَرٍيْحْ 

مَرْكومَةٌ في جانِبَيْهِ القصور

و فِيْهِ ما في سِواهْ 

إِلّا دَبِيْبُ الحياةْ 

حتى الأغاني فيهِ حتى الزّهورْ

و الشَّمْسُ إلا أنها لا تدورْ

و الدّود نَخّارٌ بها في ضريحْ

من عالَمٍ في قاع قبري أصيحْ ))
الموتى لا يكذبون ، ولا يكتبون مقابل دولارات ، ولا يريدون شيئا بكتابتهم الجنائزية ، سوى تمجيد الحياة ، والنور ، والحرية . الكاتب ليس جزءا من صراع الحياة ، بل هو حقاً جزء من تمزق الذاكرة الثقافية ، جزء من المستقبل الذي هو الفناء الأخير في الله أو الطبيعة .
......................................
للأمانة والدقة سعدي يوسف يرى أن هذه الحالة من الإغتراب والإنعتاق من الواقع تشمل الشاعر والفنان العراقي الذي يعيش في العراق أيضا . لأنه مختلف و مسافر دائماً عن ما حوله . وفي هذا تحديدا قال أبو الطيب المتنبي 
أَهِمُّ بِشَيْءٍ واللّياليْ كَأَنَّها 
تُطارِدُنِيْ عَنْ كَوْنِهِ و أُطارِدُ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق