جامعة تكريت، العراق
للفضاء المكاني أهمية كبيرة (( في تشكُّل الفرد وأحاسيسه وانفعالاته منذ مراحله المبكرة. ومن هذا الارتباط يبرز الوعي والإحساس عند الفرد بالانتماء إلى الفضاء المحدَّد)) (1) ، ذلك أن الفرد يتحرّك ضمن فضاء مكاني خاص به ، يفرض في كثير من الأحيان هيمنته وسيطرته عليه من خلال إشغاله أولاً ، والتغييرات التي يحدثها عليه ثانياً ، لذا فهو ينتمي إلى الفضاء الذي يعنيه هو ويتواءم معه بصورة أو بأخرى .
وتمثِّل المدينةُ في منظور هذا الفرد، وفي المنظور القصصي السردي عموماً، البؤرةَ المركزية التي يستند إليها الفرد في الحركة ، إذ تمثِّل نقطة الصراع الحيوية والغاية الأساسية منه. لهذا يرتبط الإنسان بالمدينة ارتباطا وثيقا. ويعدُّ هذا الارتباط المِفْصل الأساس لازدهار العلاقة ونموها.
ونتيجة لهذا الارتباط الحميمي بين الإنسان والمدينة ، فقد عمل الإنسان على انسنة المدينة وبث روح الحركة فيها، (( فكان لكل مدينة شخصيتها وروحها المميزة لها عن غيرها من المدن الأخرى، تبعا لتمييز عادات وتقاليد وحاجيات ساكنيها ونشاطاتهم، حتى موقعها الطبيعي انغلاقا أو انفتاحا )) (2).
إننا في قراءتنا السردية هذه نطمح إلى أن نُكوِّن أطروحة سردية خاصة بالمدينة، ودرجة تفاعلها مع الذات الإنسانية، وتفاعل هذه الذات معها، لاسيما إذا ما ارتبط الاثنان بعلاقة حميمية تنشد الأمن والأمان فـ(( كثيراً ما يحدث التشابه بين الإنسان والمكان الذي يسكنه.)) (3).
لذا لا يمكننا، بأي حالٍ من الأحوال، فصل المدينة – بوصفها فضاء مكانيا بامتياز – عن العناصر السردية التي تجسّد بؤرة النظرية السردية. وتظهر المدينة في النص الروائي ((بصورتها السردية، مرتبطة بالعناصر الأخرى، فلا أثر لوجود مدينة / بوصفها إطاراً مكانياً خاصاً ، من دون وجود شخصيات تتفاعل في زمان معين وتتعرض لحوادث معينة في سياق حكائي تجسد منظور الراوي . )) (4).
يعدُّ (( فضاء المدينة وأفقها القصصي، وبؤرتها التي تلتقي فيها الحركة، تتجمع وتتفرق،
يتسع باتساعها، ويضيق بضيقها، ينغلق بانغلاقها، وينفتح بانفتاحها، يمثِّل بما فيه من بشر .. غادين رائحين، مقبلين مدبرين، حالّين راحلين، وبما فيه من أمكنة اللقاء والحوار، والمناقشات التي تطرح ويدلي بها .. البُعدَ الحضاري لمجتمع المدينة في ثلاثة مستويات متقابلة: مستوى الثبات والتحول، مستوى الاستقرار وعدمه، مستوى الزمان والمكان.)) (5).
وتتحدَّد أطروحتنا السردية هذه أولاً بالتعايش مع أفق الفضاء المرتبط بالشخصيات ارتباطا كلياً، ومنسجماً معها انسجاما تاما ، هذا الفضاء الذي يحرص على استبقاء الشخصيات ضمن الحيز الخاص بها ، والمرسوم لها ، مشكِّلاً ما أطلق عليه المكان الأليف ، فالمكان الأليف – من وجهة نظر خاصة بنا – يتحدَّد حالما تحس الشخصيات بنوع من التجاذب السحري تجاهه بحيث يغدو من المستحيل عليها استبدال هذا المكان بآخر، انه إحساس بالانتماء والاستقرار والأمان. وإذا ما انعدم شرط من هذه الشروط أو تلاشى يتحوَّل هذا المكان إلى نقيضه المغاير أي إلى مكان معادي .
ثم تتحدد هذه الأطروحة ثانياً بالانقياد التام نحو فضاء روائي اكتمل بناؤه السردي، إلا انه لم يكتمل مشروعه الطباعي. فالنص الذي وقفنا عنده في مقاربتنا السردية هذه نص مخطوط وهو نص روائي بعنوان " مرافيء الحب السبعة " لعلي القاسمي، لم يصل إلى يد القارئ بعد، وبالتالي فإن دراستنا هذه ستتحدد بأنها استجابة نوعية لمفهومنا الخاص في التعامل مع نص لم يقرأ بعد ولم ينقد بعد. من هنا سيأخذ عملنا طابع الجدّة والموضوعية، وسيُلزِمنا باتخاذ مقترحات سردية قد تفتح الطريق أمام دراسات أخرى أكثر جدية حالما يكتمل النص طباعيا كما اكتمل بنائيا.
تذهب الدراسات النقدية إلى أنَّ الرواية المغربية عمّقت اتجاهاتها القرائية نحو توسيع رقعة القراءة المدينية / نسبة إلى المدينة، حتى إننا لا نكاد نعثر على رواية لم تمس مدينة من مدن المغرب مساً مباشراً من قريب أو بعيد إذ ((ارتبطت الرواية المغربية، في جلِّ نصوصها، وعلى امتداد عقودها الزمنية السابقة، بالفضاء الحضري المديني تحديدا. واحتفاء الرواية المغربية بالمدينة لا يمكن فهمه وتلقيه، على مستوى العديد من نصوصها المتلاحقة عقدا بعد آخر، فقط مجرد ارتباط تقني بعنصر يعتبره المنظرون والنقاد أهم مكون في الآلة السردية، بقدر ما يتعين ملامسته، أيضا، كارتباط بالمدينة بوصفها فضاء إشكاليا في الرواية، أي باعتباره سؤالا يؤطِّر، في الآن ذاته، سؤال التخييل والكتابة الروائية ككل، حيث نجد أن سؤال المدينة في الرواية المغربية قد شغل الروائيين المغاربة على الأقل منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بمعنى أن الوعي باستثمار المدينة كفضاء إشكالي في الرواية قد ارتبط في العمق بنضج الوعي بالكتابة الروائية في المشهد الأدبي/ الروائي بالمغرب، أي بعــد أن أضحت الرواية تستند في انكتابها العام إلى وعي كُتّابها الاستطيقي، الأمر الذي يستوجب هنا مقاربة طبيعة العلاقة القائمة بين المدينة والرواية، من منطلق تصور كلي وجدلي يستلزم مبدئيا خرق مسألة التصنيف الزمني ليغلب سؤال الامتداد بين نص ومدينة، وبين تجربة روائية ومرحلة زمنية..)) (6).
لقد حرص الروائيون على اتخاذ المدينة فضاء سرديا يؤسِّس اشكاليتها من خلال تواجدها الفعلي في النص، وأصبح لزاما على الروائي أن يتخذ موقفا حاسما يثير أسئلة عدة في مقتطفات بارزة، لاسيما تلك التي تلح أسئلتها في صياغة تاريخية للوجود المديني، فمحمد عز الدين التازي– على سبيل المثال- يخرق قوانين اللعبة السردية وأنظمتها، ويدفع بالفضاء المديني دفعا يستثير من خلاله جوهر هذه اللعبة، وتصبح ( فاس ) المدينة الأكثر تشعبا وتشظيا واستقبالا في هيكلية الحاضرة المغربية، فعلى مدار ثلاثة عقود من الزمن – استنادا إلى أول رواية كتبها وهي "أبراج المدينة" عام 1978- تفاعلت خلالها هذه المدينة في نصوصه الروائية تفاعلا قويا، حتى عُرف التازي بمدينة فاس، وعُرفت فاس بروائيها التازي، ولعل ثلاثيته: " زهرة الآس " تشي بعمق أسطوري لهذه المدينة، كما نجد ذلك أيضا في روايته " حكاية غراب " حيث المدينة / الحلم والرمز والأسطورة، وكلها تتداخل في شبكة نسيجية تقوي آصرة هذه المدينة وعلاقتها بالشخصيات، وعلاقة هؤلاء بها، في أجواء حكائية تستمد من الموروث عمقها وسردنتها وحيويتها .
علاقة القاسمي بالمدينة علاقة حميمة تتجسد في حضورها الأزلي في اغلب كتابته، ففي رواية " مرافئ الحب السبعة " تتحرّك المدينة بتنوعاتها المختلفة لتشكل نقطة جذب تتآلف معها الشخصية الرئيسة/ الهاشمي تآلفا حميما، وتصبح هذه العملية السردية المدار الأهم لرسم البؤرة الهندسية المحيطة بالمدينة.
تطرح الرواية العديد من الأسئلة التي تشي بنصيب وافر من تواجد المدينة فيها لاسيما
أن المدينة، هنا، رمزٌ للوطن المفقود، فالقاسمي في مشروعه الروائي هذا يبحث عن وطن أضاعه منذ عقود ثلاثة، على الرغم من أنه موجود فعلاً وواقعاً وتاريخاً وحضارة، إذ تتجسد تلك الأسئلة في علاقة الإنسان بالوطن / الحلم، علاقته بالوطن الآخر / المغترب، طبيعة هذه العلاقة بين قطبيْن متضاديْن يسكنان مدينة واحدة، تربطهما قيم وعادات وتقاليد مختلفة ؟
لابد من الإشارة بدءاً إلى أن هذه الرواية تمثل صراعا بين مدن غربية / أوروبية، وأخرى شرقية/ عربية، إذ إنها تمثل استجابة نوعية لمنطق التفاعل الحكائي المتمثل بالمرور السردي للمدن التي جابها وعاش فيها الهاشمي ردحا من الزمن، ولابد من الإشارة ثانية إلى إن هذه الاستجابة تشكِّل نوعاً من السيرة الذاتية لحياة القاسمي في هذه المدن .
فقراءة سردية فاحصة سيجد القارئ هناك : القسم الأول: بغداد ـ بيروت / القسم الثاني:نيويورك ـ أوستن، تكساس / القسم الثالث: الرباط ـ الرياض ، وفي كل قسم من هذه الأقسام ثمة حكاية يصوغها الراوي بإتقان، حكاية حبٍّ تظل ملامحه مرسومة في القلب والذاكرة، ويستحيل على شخصية مثل الهاشمي أن يتجاوب مع النسيان بكل تلك السهولة ويخرق تلك الحميمية التي دعته يوما إلى الاستكانة، حتى إننا نقف عند شخصية يجعل من الحبِّ المطمح الأول والأخير، وربما كانت النظرة السردية التي يُطلقها الراوي / الشخصية أوضح تجسيد لهذه الأزمة التي سيبقى يعاني منها طوال حياته ، حينما يقول :
(( ستمضي حياتي موشومةً بثلاث نسوة: امرأة أرادتني وأردتها، ولكن القدر لم
يُرِدنا معاً؛ وامرأة أرادتني ولم أُرِدها فكسرتُ قلبها، وظلَّ ضميري مصلوباً على خيبة أملها؛ وامرأة أردتُها، ولكنّها لفظتني ولم أستطِع نسيانها. وأنت المرأة الأخيرة، يا أثيرة.)) (7).
ليضع من خلالها تجربته المريرة التي انتهت بفشل الهاشمي في حياته العملية كما فشل في حياته العاطفية، إذ يتعثّر في العمل ويعيش بذاكرة مشرّدة ، متجاهلة ، غير مستوعبة لما يدور حولها .
بدءا من العنوان، يضعنا القاسمي في متاهات المدن السبعة، التي يسميها المرافئ، والمرفأ في مفهومنا اللغوي يشير إلى محطات للاستراحة والتنقل من مكان إلى آخر، أو فلنقل من حال إلى أخرى، وجمعها مرافئ، والى هذا الجمع حدَّد القاسمي عنوان روايته، ذلك أن سبعة مدن تشكل مرافئ للهاشمي/ بطل الرواية وهو يجوب الأرض بحثاً عن ملاذ آمن، بدءا من بغداد المغترب السردي الهارب منه الهاشمي انتهاء بالرياض الذي يشكل بياضا في ذاكرته، ليعود بعدها إلى المغرب بتضاريسها المتشعبة من الرباط وفاس ومدن أخرى .
تقسَّم الرواية على ثلاثة أقسام، كل قسم يتحدد بمدينتين، الأولى ، المدينة التي تركها ، والثانية التي لجأ إليها ، فمن بغداد إلى بيروت، ومن نيويورك إلى أوستن ، والعودة بعد ذلك إلى مدن عربية تربط الرباط بالرياض لينتهي أخيرا بعودة الهاشمي إلى المغرب وهو في حالة لا تسمح له بالقيام بأي عمل لما يعانيه من شرود ونسيان وتكاسل يُفصَل بسببه من العمل .
لقد مثلّت المدينة بمختلف أقطابها وتوجُّهاتها الحلم الكبير للهاشمي لاسيما وهو الهارب من مدينته الأزلية / بغداد، الباقية دوما في الذاكرة، والحاضرة أبدا في الروح والجسد، يحمل معالمها وذكرياتها أينما توجَّهَ، حينما يقول عنها :
(( أتوضأ بالدمع وبالسُّهد، أيممُ وجهي شطر بغداد، أصلي ركعتَين للعشق وثالثةً للوجد، تتطاير في عينَيّ فراشات بيض وصفر وزرق، تحمل على أجنحتها الشوق، أحترق بالحنين، تطمسني ظلال الرؤى، وأغيب في صلاة ودعاء. طوبى للنخيل المتشبثة جذورُه بأرض النخيل، المجد للإنسان الراسخ الأصيل. )) (8).
فيما تتجسَّد الأخرى في نظره غريبة عنه على الرغم من لجوئه إليها، فهو يقول عن أوستن :
((ينظر إلى شوارع المدينة وأبنيتها، فيجدها غريبة العمارة، لا تلقى منه إلا الاستغراب بل الاستهجان. وأخذ يتساءل ما إذا كان الجمال موضوعيّاً يكمن في خصائص الشيء الذي نراه، أم أنّه ذاتي يعتمد على ذات الشخص الذي ينظر إلى ذلك الشيء. وهل يتغيّر حُكم الفرد على الموضوع نفسه بتغيّر الظروف والمكان والزمان. فعند وصوله إلى هذه المدينة أوَّل مرَّة، كان يجدها جذاّبة فاتنة تزدان شوارعها بالأشجار المورقة التي تتقافز عليها السناجب الصغيرة، وبالمارّة الذين تطفح وجوههم بالبشر والبسمة. أمّا اليوم فلم يعُد بشعر بالارتياح إلى الفضاء وما يؤطِّره من أشجار وحيوان وإنسان. حتّى السناجب الصغيرة التي كانت قد أثارت انتباهه وإعجابه عندما وصل أوّل مرَّةٍ إلى أوستن، وهي تقطع الشوارع بخفَّةٍ وتتسلق الأشجار بسرعةٍ، أخذت تزعجه وتثير أعصابه. )) (9).
من المؤكَّد أن لهذه الغربة دوافع دفعت الهاشمي إلى هذا الإحساس ، فموت أُمّه وهو بعيد عنها ، وحصوله على شهادة الدكتوراه من دون أن يشاركه احد من أهله فرحة الحصول عليها عمّقت لديه الشعور بالغربة، مما دفعه إلى اتخاذ قرار بعدم قبول عرض الأستاذ هايدي بوجود كرسي الأستاذية شاغراً ويمكنه إشغاله .
فيما تبدو الرباط فضاءً سردياً جديداً يلجأ إليه تعويضاً عن خسارة وطنه ، والإحساس الذي انتابه في البلاد الأوروبية لم يكن له وجود، ذلك أن الرباط مدينة عربية ، وجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدته ، من هنا نجد ذلك الارتباط النفسي والجسدي والانتماء إليها نتيجة طبيعية ، يقول الراوي :
((وصلتُ إلى الرباط، مدينة جديدة كلَّ الجِّدَّة عليّ. لم أَرَها من قبل، ولم أَخْبُر دروبها، ولم أعرف أزقّتها، بل من السهل أن تضيع خطواتي فيها. ولكنَّ شيئاً في هذه المدينة جعلني أشعر بأنَّها ليست غريبة. فوجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدتي. وصوامع جوامعها ينطلق منها ذات الأذان الذي كنتُ أسمعه في منزلي منذ طفولتي، وأزياء أهلها قريبة من أزياء أعمامي وأخوالي. أليس هذا ما كنتُ أبحث عنه بلسماً لمرض الحنين إلى الوطن الذي أصابني في أمريكا؟)) (10).
إذن فثمة موازنة سردية أنتجتها المخيلة الروائية، لوضع شخصياته في موضع انتماء، حنين، شوق، شعور بالألفة والطمأنينة، وسؤال يجسِّد كياناً عربياً موحداً في أن كل المدن العربية واحدة، وأنها تحتضن أبنائها بغض النظر عن موطنهم الأصلي ولغاتهم وهوياتهم الدينية والعرقية وتوجهاتهم الفكرية، طالما أن هذا الإنسان ينتمي إلى هذه المدينة بعد أن يلجأ إليها فبإمكانها احتضانه .
إن القاسمي يحرك شخوصه في مدار سردي تلتقي فيه بشخصيات أخرى، فأغلبها لاسيما الهاشمي/ البديل السردي للقاسمي، يتحرّك في مدن، يشهد أحداثا وتطورات سردية مهمة، يتعرض لمواقف ونكبات يجابهها بالصبر تارة وبالهروب تارة أخرى، وكل خرق في هذه المواقف يفسح المجال أمامه للمغادرة والانضمام إلى مدينة أخرى أكثر أمنا وبراءة من سابقتها .
إن ما يهمنا هنا هي تلك العلاقة التي تتجسّد بين الإنسان والمكان / المدينة لاسيما في قسمه الثالث : الرباط – الرياض ، فبعد أن جاب الهاشمي الأقطار وانتقل من مكان إلى آخر ، استقر في المغرب ، بوصفه أستاذا في إحدى الجامعات ، تتوطّد العلاقة بينه وبين إحدى طالباته ، تتحوّل فيما بعد إلى علاقة حب، وبفعل هذه العلاقة ينتقل من الرباط حيث يعيش إلى فاس المدينة التي قدمت منها هذه الطالبة / أثيرة بعد أن تدعوه للزيارة ، لذا فان أول خيط سردي يربط الشخصية بفاس يتحدّد من خلال هذه العلاقة ، يقول الراوي :
(( ولكي أشجِّعكِ على الكلام، سألتكِ:
ـ هل أنتِ من الرباط؟
ـ لا، فاس..
ـ. لا توجد جامعة في فاس، ولهذا فأنتِ بعيدةٌ عن الأهل.
هززتِ رأسكِ موافقة.
ـ هل يؤثّر ذلك على دراستكِ أو استيعابك الدروس؟
وظللتِ صامتةً، يا أثيرة. فقلتُ محاولاً مواصلة الحديث:
ـ لا شكٌّ في أنَّكِ تحنّين إلى الأهل في فاس وإلى مدينة فاس، فقد سمعتُ أنّها مدينة عريقة، جميلة بأهلها وبمعاهدها العلمية الشهيرة.)) (11).
كما أن التأكيد على الخيط السردي يتم عن طريق السماع ، فالهاشمي سمع بهذه المدينة، وهي حيلة مراوغة لجذب الشخصية إلى هذا القطب المديني الحي ، يتفاعل بعدها ويندمج معها على اثر مشاهدته لها ، إذ يقول :
(( الشمس مشرقة، والهواء منعش، والطريق إلى فاس يترنّح ثملاً بالجمال، بين السهول والتلال، والوهاد والجبال، والوديان المتخمة بالمياه المتدفِّقة. وأشجار الصفصاف السامقة تنتصب مرفوعة الرأس على جانبَي الطريق، كما لو كانت تحيِّينا، ترحِّب بنا، ترافقنا، تزفُّنا إلى فاس. والمروج المترامية على مدى البصر تزدان بالخضرة المزركشة بألوان الزهور البيضاء والصفراء والحمراء، كأنَّها في مهرجان يرحِّب بالربيع القادم بعد بضعة أسابيع. واللافتات على الطريق تحمل أسماء القرى والمناطق: المغاوير، بلاد الدندون، غابة المعمورة. حتّى الأسماء تنم عن حضارةٍ عريقةٍ وذائقةٍ فنِّيَّةٍ متميِّزة.
التفتُ إليكِ وقلتُ:
ـ بلادكم جميلة رائعة، أثيرة.
أجبتِ بنبرةٍ حزينة:
ـ ولكنَّ الأغنياء والسيّاح الأجانب فقط هم الذين يستمتعون بها. أمّا معظم الناس فيعانون الفقر، ويرزحون تحت وطأة الجهل والمرض. )) (12).
الصورة السردية التي يعتمدها الراوي في نقل مشاهداته هي صورة نابضة بالحركة والحيوية ، تنهض فيها الصورة البصرية على قدر كبير من الفاعلية ، الإطار الذي يتحرّك خلاله الهاشمي إطار يعتمد على تناوب الطبيعة مع الألوان .
يتحدَّد النص بالزمن السردي الذي يعود به في نقطة استرجاعية إلى الماضي ، فالذاكرة بوصفها (( المركب الذي يحقق حضورا للماضي ، ويجعله ممتدا إلى حاضرنا ، فكأنهما يتجاوران في فضائها ليكونا زمنا واحدا غير منقطع ، مما يؤهِّل الذاكرة – وبامتياز- لتسمى جوهر وجود الإنسان ، بما تحققه من ضمان سيلان الزمن وتدفقه بحاضره وماضيه. )) (13)، تعمل بأقصى توجه سردي وفاعلية ، والماضي حاضر في ذهن هذه الشخصية بكل ملابساته وديمومته ، وهو الماضي الناصع / الجميل / الذي لا ينسى ولا يمكن أن يشطَب من الذاكرة ، وإذا كان هذا النص يتحدد بعلاقة الهاشمي بهذه المدينة ويشخصها عبر تحديد هويتها التاريخية ، وموقعها وحاراتها إذ يشير الراوي إليها بقوله :
((في اليوم الثاني أخذتِني في جولةٍ في مدينة فاس القديمة. وهي مدينة رائعة حصينة تقع على نهر يُسمّى اليوم " وادي فاس " .... دخلنا من باب أبي الجلود أو أبي الجنود وسرنا في أسواق متخصّصة مثل سوق الصناعات الجلديّة والأحذية، وسوق الأقمشة والملابس التقليديَّة، وسوق الجزّارين، وسوق الحدّادين، وما إلى ذلك. وكان لكلِّ حارةٍ من حاراتها مسجدها الذي يُستخدَم في الوقت ذاته ملتقىً للدرس والتعلُّم، فالمساجد كلُّها توظَّف كتاتيبَ يتعلّم فيها صغار الأطفال، ومن هنا يسمى الكُتّاب في المغرب " مَسيد" (أي مسجد). وذكرتِ لي أنَّ السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين جعل التعليم إلزاميّاً لجميع الأطفال، فحينما دخل فاس قبل حوالي ألف عام، ألزم أهل كلِّ حارةٍ ببناء مسجدٍ يتعلَّم فيه أبناؤهم.
ودخلنا مدرسةً قديمةً رائعةَ المعمار، مزيَّنة البناء، محكمة الترتيب بحيث أُفرِدت غرفٌ لإدارة المدرسة، وغرفٌ للأساتذة والدرس، وغرفٌ لسكنى الطلاب. وقلت لي إنَّ السلطان أبو عنان المريني ، قبل أن يقدِم على بناء المدرسة، بعث بالعلامة ابن خلدون، صاحب "المقدّمة" الشهيرة ومعه معماريّون إلى بغداد، للاطلاع على الجامعة المستنصريَّة، والوقوف على هندستها وتصميمها، للإفادة منها في بناء مدرسته تلك.
ثمَّ وصلنا إلى جامع القرويِّين، الذي يُعدّ أقدم جامعةٍ في العالم. وقلتِ لي إنَّ رجلا من أهل القيروان في تونس اسمه محمد بن عبد الله الفهري قدِم إلى المغرب أيامَ الأدارسة، واستقرَّ في فاس رفقة زوجته وابنتيه فاطمة ومريم. وبعد وفاته ورثت منه ابنتاه ثروةً كبيرة، وكانتا من المُحسِنات الصالحات، فأنفقت فاطمة من مالها الخاصّ لبناء مسجدٍ كبيرٍ رائعِ البناء على أرض فسيحة في محلَّة العالية على الضفة اليسرى لوادي فاس. وقد استُخدِم هذا المسجد للعبادة والعِلم، وسُمِّي باسم نسبها " جامع القرويين"( أي القيروانيِّين). وبنَت أختها مريم مسجداً أصغر منه على الضفة الأخرى من الوادي حيث يسكن الأندلسيّون... )) (14).
فإن النص – على طوله- يكشف تاريخية هذه المدينة وواقعها الجغرافي عبر مخيلة روائية تستقدم المعلومات والأحداث من مكمنها، ويصبح الهاشمي جزءا من هذه المدينة حين يستوعب وجودها، ويثير أسئلة وجوده تحديداً من خلال هذا المدار الكوني الشامل .
لقد برزت فاس في ذاكرة الهاشمي مدينة تاريخية لها أهميتها، وانتماء الإنسان إليها إنما هو انتماء صميمي نابع من طبيعة المدينة التي تستقطب الناس إليها من كل حدب وصوب، إلا أن انتماء الهاشمي يعود لأسباب عدة منها أنها موطن أثيرة، ولعل خير دليل على ذلك هو أنه حالما تنقطع الصلة بينه وبين أثيرة لا تعود المدينة موجودة في ذاكرة الهاشمي أو مرتبطة به .
لقد حرص القاسمي على أن يقدَّم رواية تستلهم المدينة – بمختلف أقطابها وتوجهاتها - تُفعِّل منطق الوجود الذاتي، وتثير العديد من الأسئلة والبحث عن روافد الإجابة عبر منظور تاريخي، واقعي.
وإذا كان الخطاب الروائي يستند في أساسه وبنائه الفعلي على منظور متعدِّد ، بين سرد موضوعي – في اغلب الأحيان – وذاتي يشير إلى الأنا الساردة، وهي تحكي حكايتها بأسى وحزن وذاكرة متقدة تعود بالبطل / الهاشمي إلى الزمن البعيد ، إذ الذاكرة هنا تتحدَّد بمُدد زمنية مختلفة بين مدىً طويل حيث الطفولة وأيام الصبا والقرية والأم والنخلة والنهر والأصحاب والمدرسة ونصائح الأب وعلاقته مع الآخرين لاسيما مع كاكا يارة التي تربطهما علاقة وثيقة تنقطع الصلة بينهما على اثر ترحيله لكنه يبقى في ذاكرة الأب والابن لا يبارحها ، ومدىً زمني قصير حيث الرباط والجامعة وفاس وأثيرة والألم المتصدع في القلب بعد أن أعلنت أثيرة حملها منه وإصرارها على إجهاض الجنين، وهو إجهاض لحلم الهاشمي في الاستقرار والأمان في وطن آخر غير وطنه الحقيقي .
لقد جاءت المدينة رمزاً معبراً عن طموح الهاشمي، فالقرية التي جعلها القاسمي مجهولة التسمية إنما هي رمز لبغداد، الباقية في الذاكرة والوجدان، وبغداد رمز للعراق الغائب عنه جسدا والحاضر أبداً ودوماً، روحا ووجدان وذاكرة وفعلا وواقعا، يقول الراوي :
(( كيف أنسى يا أبي تربةَ أهلي، وماء الفرات، ونخلة أُمّي؟ فقد تشرَّبتْ بها روحي، وسرت في دمي، ونبضَ بها قلبي. وهل يحيا المرء بلا قلب؟ كيف أنسى يا أبي وطني؟ ليتني كنت أستطيع ذلك لحظةً واحدة، فهو يسكن كياني، ويملأ أحلامي.
إنَّك لا تدري، يا أبي، أنَّني منذ ذلك الفجر الذي احترفتُ فيه الرحيل، والشمس تشرق كلَّ صباح في عيني من العراق، وتغيب كلَّ أصيل في العراق، وأنَّ ساعتي أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهبتُ، لأنَّ هذه الساعة التي أهديتَها إليّ ذات يوم، تعمل بالنبض،نبض قلبي الذي تجسّه في معصمي. وقلبي ينبض بحبِّ العراق.
تقول، يا أبي، إنَّني قد أنسى وطني حينما أعبر إلى الضفة الأُخرى، وأنتَ على يقينٍ، يا أبي، أنَّني في أيِّ المحيطات أبحرتُ، وفي أيِّ البحار نشرتُ أشرعتي، فإنَّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماً نحو منائر وطني، وأنَّ ساريتي ستظلُّ أبداً ملفّعة بشال أُمّي وضفائر أُختي. وسأستنشق عبير بستاننا في نسيم البحر. وسوف يغتسل طيف بلادي في مجرى مركبي، وأرى خيال أعناق نخلاتنا في الغمائم فوق السفن، وسيجري ماء الفرات على الدوام في عروقي وأوردتي وشراييني ودمعي. وسأظلّ صادياً ظمآنَ لن أرتوي إلا ببضع قطرات من ماء الفرات الفرات. )) (15).
لقد جاءت المدينة لتفتح المخيلة الروائية على اتساعها ولتشرع في بناء فضاء روائي قائم على تعددية مدينية واضحة. ومن خلال هذه التعددية تثير أسئلتها الوجودية، عبر مجموعة سردية تشكّل النسيج الجامع لهذه التعددية.
لقد جاءت المدينة هنا رمزاً معبراً عن الوطن الضائع لدى القاسمي، فبغداد أو القرية التي جعلها القاسمي مجهولة التسمية هي رمز لبغداد، وبغداد رمز للعراق، ولعل قول الراوي خير ما يمثل هذا المرتكز السردي المعبر بوجدان ذاتي يفيد من ضمير المتكلّم/ الأنا في الانشداد والركون والاستسلام إلى ذلك القدر الذي فرقّه عن الوطن جسداً لكنه حاضر فيه روحاً وضميراً وأخلاقاً، أثارت الكثير من الأسئلة وحتّمت على متلقّيها الإجابة عنها ذاتيا، حرصاً من الروائي على استيعاب كافة الممكنات الوجودية للنصِّ السردي .
وتمثِّل المدينةُ في منظور هذا الفرد، وفي المنظور القصصي السردي عموماً، البؤرةَ المركزية التي يستند إليها الفرد في الحركة ، إذ تمثِّل نقطة الصراع الحيوية والغاية الأساسية منه. لهذا يرتبط الإنسان بالمدينة ارتباطا وثيقا. ويعدُّ هذا الارتباط المِفْصل الأساس لازدهار العلاقة ونموها.
ونتيجة لهذا الارتباط الحميمي بين الإنسان والمدينة ، فقد عمل الإنسان على انسنة المدينة وبث روح الحركة فيها، (( فكان لكل مدينة شخصيتها وروحها المميزة لها عن غيرها من المدن الأخرى، تبعا لتمييز عادات وتقاليد وحاجيات ساكنيها ونشاطاتهم، حتى موقعها الطبيعي انغلاقا أو انفتاحا )) (2).
إننا في قراءتنا السردية هذه نطمح إلى أن نُكوِّن أطروحة سردية خاصة بالمدينة، ودرجة تفاعلها مع الذات الإنسانية، وتفاعل هذه الذات معها، لاسيما إذا ما ارتبط الاثنان بعلاقة حميمية تنشد الأمن والأمان فـ(( كثيراً ما يحدث التشابه بين الإنسان والمكان الذي يسكنه.)) (3).
لذا لا يمكننا، بأي حالٍ من الأحوال، فصل المدينة – بوصفها فضاء مكانيا بامتياز – عن العناصر السردية التي تجسّد بؤرة النظرية السردية. وتظهر المدينة في النص الروائي ((بصورتها السردية، مرتبطة بالعناصر الأخرى، فلا أثر لوجود مدينة / بوصفها إطاراً مكانياً خاصاً ، من دون وجود شخصيات تتفاعل في زمان معين وتتعرض لحوادث معينة في سياق حكائي تجسد منظور الراوي . )) (4).
يعدُّ (( فضاء المدينة وأفقها القصصي، وبؤرتها التي تلتقي فيها الحركة، تتجمع وتتفرق،
يتسع باتساعها، ويضيق بضيقها، ينغلق بانغلاقها، وينفتح بانفتاحها، يمثِّل بما فيه من بشر .. غادين رائحين، مقبلين مدبرين، حالّين راحلين، وبما فيه من أمكنة اللقاء والحوار، والمناقشات التي تطرح ويدلي بها .. البُعدَ الحضاري لمجتمع المدينة في ثلاثة مستويات متقابلة: مستوى الثبات والتحول، مستوى الاستقرار وعدمه، مستوى الزمان والمكان.)) (5).
وتتحدَّد أطروحتنا السردية هذه أولاً بالتعايش مع أفق الفضاء المرتبط بالشخصيات ارتباطا كلياً، ومنسجماً معها انسجاما تاما ، هذا الفضاء الذي يحرص على استبقاء الشخصيات ضمن الحيز الخاص بها ، والمرسوم لها ، مشكِّلاً ما أطلق عليه المكان الأليف ، فالمكان الأليف – من وجهة نظر خاصة بنا – يتحدَّد حالما تحس الشخصيات بنوع من التجاذب السحري تجاهه بحيث يغدو من المستحيل عليها استبدال هذا المكان بآخر، انه إحساس بالانتماء والاستقرار والأمان. وإذا ما انعدم شرط من هذه الشروط أو تلاشى يتحوَّل هذا المكان إلى نقيضه المغاير أي إلى مكان معادي .
ثم تتحدد هذه الأطروحة ثانياً بالانقياد التام نحو فضاء روائي اكتمل بناؤه السردي، إلا انه لم يكتمل مشروعه الطباعي. فالنص الذي وقفنا عنده في مقاربتنا السردية هذه نص مخطوط وهو نص روائي بعنوان " مرافيء الحب السبعة " لعلي القاسمي، لم يصل إلى يد القارئ بعد، وبالتالي فإن دراستنا هذه ستتحدد بأنها استجابة نوعية لمفهومنا الخاص في التعامل مع نص لم يقرأ بعد ولم ينقد بعد. من هنا سيأخذ عملنا طابع الجدّة والموضوعية، وسيُلزِمنا باتخاذ مقترحات سردية قد تفتح الطريق أمام دراسات أخرى أكثر جدية حالما يكتمل النص طباعيا كما اكتمل بنائيا.
تذهب الدراسات النقدية إلى أنَّ الرواية المغربية عمّقت اتجاهاتها القرائية نحو توسيع رقعة القراءة المدينية / نسبة إلى المدينة، حتى إننا لا نكاد نعثر على رواية لم تمس مدينة من مدن المغرب مساً مباشراً من قريب أو بعيد إذ ((ارتبطت الرواية المغربية، في جلِّ نصوصها، وعلى امتداد عقودها الزمنية السابقة، بالفضاء الحضري المديني تحديدا. واحتفاء الرواية المغربية بالمدينة لا يمكن فهمه وتلقيه، على مستوى العديد من نصوصها المتلاحقة عقدا بعد آخر، فقط مجرد ارتباط تقني بعنصر يعتبره المنظرون والنقاد أهم مكون في الآلة السردية، بقدر ما يتعين ملامسته، أيضا، كارتباط بالمدينة بوصفها فضاء إشكاليا في الرواية، أي باعتباره سؤالا يؤطِّر، في الآن ذاته، سؤال التخييل والكتابة الروائية ككل، حيث نجد أن سؤال المدينة في الرواية المغربية قد شغل الروائيين المغاربة على الأقل منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بمعنى أن الوعي باستثمار المدينة كفضاء إشكالي في الرواية قد ارتبط في العمق بنضج الوعي بالكتابة الروائية في المشهد الأدبي/ الروائي بالمغرب، أي بعــد أن أضحت الرواية تستند في انكتابها العام إلى وعي كُتّابها الاستطيقي، الأمر الذي يستوجب هنا مقاربة طبيعة العلاقة القائمة بين المدينة والرواية، من منطلق تصور كلي وجدلي يستلزم مبدئيا خرق مسألة التصنيف الزمني ليغلب سؤال الامتداد بين نص ومدينة، وبين تجربة روائية ومرحلة زمنية..)) (6).
لقد حرص الروائيون على اتخاذ المدينة فضاء سرديا يؤسِّس اشكاليتها من خلال تواجدها الفعلي في النص، وأصبح لزاما على الروائي أن يتخذ موقفا حاسما يثير أسئلة عدة في مقتطفات بارزة، لاسيما تلك التي تلح أسئلتها في صياغة تاريخية للوجود المديني، فمحمد عز الدين التازي– على سبيل المثال- يخرق قوانين اللعبة السردية وأنظمتها، ويدفع بالفضاء المديني دفعا يستثير من خلاله جوهر هذه اللعبة، وتصبح ( فاس ) المدينة الأكثر تشعبا وتشظيا واستقبالا في هيكلية الحاضرة المغربية، فعلى مدار ثلاثة عقود من الزمن – استنادا إلى أول رواية كتبها وهي "أبراج المدينة" عام 1978- تفاعلت خلالها هذه المدينة في نصوصه الروائية تفاعلا قويا، حتى عُرف التازي بمدينة فاس، وعُرفت فاس بروائيها التازي، ولعل ثلاثيته: " زهرة الآس " تشي بعمق أسطوري لهذه المدينة، كما نجد ذلك أيضا في روايته " حكاية غراب " حيث المدينة / الحلم والرمز والأسطورة، وكلها تتداخل في شبكة نسيجية تقوي آصرة هذه المدينة وعلاقتها بالشخصيات، وعلاقة هؤلاء بها، في أجواء حكائية تستمد من الموروث عمقها وسردنتها وحيويتها .
علاقة القاسمي بالمدينة علاقة حميمة تتجسد في حضورها الأزلي في اغلب كتابته، ففي رواية " مرافئ الحب السبعة " تتحرّك المدينة بتنوعاتها المختلفة لتشكل نقطة جذب تتآلف معها الشخصية الرئيسة/ الهاشمي تآلفا حميما، وتصبح هذه العملية السردية المدار الأهم لرسم البؤرة الهندسية المحيطة بالمدينة.
تطرح الرواية العديد من الأسئلة التي تشي بنصيب وافر من تواجد المدينة فيها لاسيما
أن المدينة، هنا، رمزٌ للوطن المفقود، فالقاسمي في مشروعه الروائي هذا يبحث عن وطن أضاعه منذ عقود ثلاثة، على الرغم من أنه موجود فعلاً وواقعاً وتاريخاً وحضارة، إذ تتجسد تلك الأسئلة في علاقة الإنسان بالوطن / الحلم، علاقته بالوطن الآخر / المغترب، طبيعة هذه العلاقة بين قطبيْن متضاديْن يسكنان مدينة واحدة، تربطهما قيم وعادات وتقاليد مختلفة ؟
لابد من الإشارة بدءاً إلى أن هذه الرواية تمثل صراعا بين مدن غربية / أوروبية، وأخرى شرقية/ عربية، إذ إنها تمثل استجابة نوعية لمنطق التفاعل الحكائي المتمثل بالمرور السردي للمدن التي جابها وعاش فيها الهاشمي ردحا من الزمن، ولابد من الإشارة ثانية إلى إن هذه الاستجابة تشكِّل نوعاً من السيرة الذاتية لحياة القاسمي في هذه المدن .
فقراءة سردية فاحصة سيجد القارئ هناك : القسم الأول: بغداد ـ بيروت / القسم الثاني:نيويورك ـ أوستن، تكساس / القسم الثالث: الرباط ـ الرياض ، وفي كل قسم من هذه الأقسام ثمة حكاية يصوغها الراوي بإتقان، حكاية حبٍّ تظل ملامحه مرسومة في القلب والذاكرة، ويستحيل على شخصية مثل الهاشمي أن يتجاوب مع النسيان بكل تلك السهولة ويخرق تلك الحميمية التي دعته يوما إلى الاستكانة، حتى إننا نقف عند شخصية يجعل من الحبِّ المطمح الأول والأخير، وربما كانت النظرة السردية التي يُطلقها الراوي / الشخصية أوضح تجسيد لهذه الأزمة التي سيبقى يعاني منها طوال حياته ، حينما يقول :
(( ستمضي حياتي موشومةً بثلاث نسوة: امرأة أرادتني وأردتها، ولكن القدر لم
يُرِدنا معاً؛ وامرأة أرادتني ولم أُرِدها فكسرتُ قلبها، وظلَّ ضميري مصلوباً على خيبة أملها؛ وامرأة أردتُها، ولكنّها لفظتني ولم أستطِع نسيانها. وأنت المرأة الأخيرة، يا أثيرة.)) (7).
ليضع من خلالها تجربته المريرة التي انتهت بفشل الهاشمي في حياته العملية كما فشل في حياته العاطفية، إذ يتعثّر في العمل ويعيش بذاكرة مشرّدة ، متجاهلة ، غير مستوعبة لما يدور حولها .
بدءا من العنوان، يضعنا القاسمي في متاهات المدن السبعة، التي يسميها المرافئ، والمرفأ في مفهومنا اللغوي يشير إلى محطات للاستراحة والتنقل من مكان إلى آخر، أو فلنقل من حال إلى أخرى، وجمعها مرافئ، والى هذا الجمع حدَّد القاسمي عنوان روايته، ذلك أن سبعة مدن تشكل مرافئ للهاشمي/ بطل الرواية وهو يجوب الأرض بحثاً عن ملاذ آمن، بدءا من بغداد المغترب السردي الهارب منه الهاشمي انتهاء بالرياض الذي يشكل بياضا في ذاكرته، ليعود بعدها إلى المغرب بتضاريسها المتشعبة من الرباط وفاس ومدن أخرى .
تقسَّم الرواية على ثلاثة أقسام، كل قسم يتحدد بمدينتين، الأولى ، المدينة التي تركها ، والثانية التي لجأ إليها ، فمن بغداد إلى بيروت، ومن نيويورك إلى أوستن ، والعودة بعد ذلك إلى مدن عربية تربط الرباط بالرياض لينتهي أخيرا بعودة الهاشمي إلى المغرب وهو في حالة لا تسمح له بالقيام بأي عمل لما يعانيه من شرود ونسيان وتكاسل يُفصَل بسببه من العمل .
لقد مثلّت المدينة بمختلف أقطابها وتوجُّهاتها الحلم الكبير للهاشمي لاسيما وهو الهارب من مدينته الأزلية / بغداد، الباقية دوما في الذاكرة، والحاضرة أبدا في الروح والجسد، يحمل معالمها وذكرياتها أينما توجَّهَ، حينما يقول عنها :
(( أتوضأ بالدمع وبالسُّهد، أيممُ وجهي شطر بغداد، أصلي ركعتَين للعشق وثالثةً للوجد، تتطاير في عينَيّ فراشات بيض وصفر وزرق، تحمل على أجنحتها الشوق، أحترق بالحنين، تطمسني ظلال الرؤى، وأغيب في صلاة ودعاء. طوبى للنخيل المتشبثة جذورُه بأرض النخيل، المجد للإنسان الراسخ الأصيل. )) (8).
فيما تتجسَّد الأخرى في نظره غريبة عنه على الرغم من لجوئه إليها، فهو يقول عن أوستن :
((ينظر إلى شوارع المدينة وأبنيتها، فيجدها غريبة العمارة، لا تلقى منه إلا الاستغراب بل الاستهجان. وأخذ يتساءل ما إذا كان الجمال موضوعيّاً يكمن في خصائص الشيء الذي نراه، أم أنّه ذاتي يعتمد على ذات الشخص الذي ينظر إلى ذلك الشيء. وهل يتغيّر حُكم الفرد على الموضوع نفسه بتغيّر الظروف والمكان والزمان. فعند وصوله إلى هذه المدينة أوَّل مرَّة، كان يجدها جذاّبة فاتنة تزدان شوارعها بالأشجار المورقة التي تتقافز عليها السناجب الصغيرة، وبالمارّة الذين تطفح وجوههم بالبشر والبسمة. أمّا اليوم فلم يعُد بشعر بالارتياح إلى الفضاء وما يؤطِّره من أشجار وحيوان وإنسان. حتّى السناجب الصغيرة التي كانت قد أثارت انتباهه وإعجابه عندما وصل أوّل مرَّةٍ إلى أوستن، وهي تقطع الشوارع بخفَّةٍ وتتسلق الأشجار بسرعةٍ، أخذت تزعجه وتثير أعصابه. )) (9).
من المؤكَّد أن لهذه الغربة دوافع دفعت الهاشمي إلى هذا الإحساس ، فموت أُمّه وهو بعيد عنها ، وحصوله على شهادة الدكتوراه من دون أن يشاركه احد من أهله فرحة الحصول عليها عمّقت لديه الشعور بالغربة، مما دفعه إلى اتخاذ قرار بعدم قبول عرض الأستاذ هايدي بوجود كرسي الأستاذية شاغراً ويمكنه إشغاله .
فيما تبدو الرباط فضاءً سردياً جديداً يلجأ إليه تعويضاً عن خسارة وطنه ، والإحساس الذي انتابه في البلاد الأوروبية لم يكن له وجود، ذلك أن الرباط مدينة عربية ، وجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدته ، من هنا نجد ذلك الارتباط النفسي والجسدي والانتماء إليها نتيجة طبيعية ، يقول الراوي :
((وصلتُ إلى الرباط، مدينة جديدة كلَّ الجِّدَّة عليّ. لم أَرَها من قبل، ولم أَخْبُر دروبها، ولم أعرف أزقّتها، بل من السهل أن تضيع خطواتي فيها. ولكنَّ شيئاً في هذه المدينة جعلني أشعر بأنَّها ليست غريبة. فوجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدتي. وصوامع جوامعها ينطلق منها ذات الأذان الذي كنتُ أسمعه في منزلي منذ طفولتي، وأزياء أهلها قريبة من أزياء أعمامي وأخوالي. أليس هذا ما كنتُ أبحث عنه بلسماً لمرض الحنين إلى الوطن الذي أصابني في أمريكا؟)) (10).
إذن فثمة موازنة سردية أنتجتها المخيلة الروائية، لوضع شخصياته في موضع انتماء، حنين، شوق، شعور بالألفة والطمأنينة، وسؤال يجسِّد كياناً عربياً موحداً في أن كل المدن العربية واحدة، وأنها تحتضن أبنائها بغض النظر عن موطنهم الأصلي ولغاتهم وهوياتهم الدينية والعرقية وتوجهاتهم الفكرية، طالما أن هذا الإنسان ينتمي إلى هذه المدينة بعد أن يلجأ إليها فبإمكانها احتضانه .
إن القاسمي يحرك شخوصه في مدار سردي تلتقي فيه بشخصيات أخرى، فأغلبها لاسيما الهاشمي/ البديل السردي للقاسمي، يتحرّك في مدن، يشهد أحداثا وتطورات سردية مهمة، يتعرض لمواقف ونكبات يجابهها بالصبر تارة وبالهروب تارة أخرى، وكل خرق في هذه المواقف يفسح المجال أمامه للمغادرة والانضمام إلى مدينة أخرى أكثر أمنا وبراءة من سابقتها .
إن ما يهمنا هنا هي تلك العلاقة التي تتجسّد بين الإنسان والمكان / المدينة لاسيما في قسمه الثالث : الرباط – الرياض ، فبعد أن جاب الهاشمي الأقطار وانتقل من مكان إلى آخر ، استقر في المغرب ، بوصفه أستاذا في إحدى الجامعات ، تتوطّد العلاقة بينه وبين إحدى طالباته ، تتحوّل فيما بعد إلى علاقة حب، وبفعل هذه العلاقة ينتقل من الرباط حيث يعيش إلى فاس المدينة التي قدمت منها هذه الطالبة / أثيرة بعد أن تدعوه للزيارة ، لذا فان أول خيط سردي يربط الشخصية بفاس يتحدّد من خلال هذه العلاقة ، يقول الراوي :
(( ولكي أشجِّعكِ على الكلام، سألتكِ:
ـ هل أنتِ من الرباط؟
ـ لا، فاس..
ـ. لا توجد جامعة في فاس، ولهذا فأنتِ بعيدةٌ عن الأهل.
هززتِ رأسكِ موافقة.
ـ هل يؤثّر ذلك على دراستكِ أو استيعابك الدروس؟
وظللتِ صامتةً، يا أثيرة. فقلتُ محاولاً مواصلة الحديث:
ـ لا شكٌّ في أنَّكِ تحنّين إلى الأهل في فاس وإلى مدينة فاس، فقد سمعتُ أنّها مدينة عريقة، جميلة بأهلها وبمعاهدها العلمية الشهيرة.)) (11).
كما أن التأكيد على الخيط السردي يتم عن طريق السماع ، فالهاشمي سمع بهذه المدينة، وهي حيلة مراوغة لجذب الشخصية إلى هذا القطب المديني الحي ، يتفاعل بعدها ويندمج معها على اثر مشاهدته لها ، إذ يقول :
(( الشمس مشرقة، والهواء منعش، والطريق إلى فاس يترنّح ثملاً بالجمال، بين السهول والتلال، والوهاد والجبال، والوديان المتخمة بالمياه المتدفِّقة. وأشجار الصفصاف السامقة تنتصب مرفوعة الرأس على جانبَي الطريق، كما لو كانت تحيِّينا، ترحِّب بنا، ترافقنا، تزفُّنا إلى فاس. والمروج المترامية على مدى البصر تزدان بالخضرة المزركشة بألوان الزهور البيضاء والصفراء والحمراء، كأنَّها في مهرجان يرحِّب بالربيع القادم بعد بضعة أسابيع. واللافتات على الطريق تحمل أسماء القرى والمناطق: المغاوير، بلاد الدندون، غابة المعمورة. حتّى الأسماء تنم عن حضارةٍ عريقةٍ وذائقةٍ فنِّيَّةٍ متميِّزة.
التفتُ إليكِ وقلتُ:
ـ بلادكم جميلة رائعة، أثيرة.
أجبتِ بنبرةٍ حزينة:
ـ ولكنَّ الأغنياء والسيّاح الأجانب فقط هم الذين يستمتعون بها. أمّا معظم الناس فيعانون الفقر، ويرزحون تحت وطأة الجهل والمرض. )) (12).
الصورة السردية التي يعتمدها الراوي في نقل مشاهداته هي صورة نابضة بالحركة والحيوية ، تنهض فيها الصورة البصرية على قدر كبير من الفاعلية ، الإطار الذي يتحرّك خلاله الهاشمي إطار يعتمد على تناوب الطبيعة مع الألوان .
يتحدَّد النص بالزمن السردي الذي يعود به في نقطة استرجاعية إلى الماضي ، فالذاكرة بوصفها (( المركب الذي يحقق حضورا للماضي ، ويجعله ممتدا إلى حاضرنا ، فكأنهما يتجاوران في فضائها ليكونا زمنا واحدا غير منقطع ، مما يؤهِّل الذاكرة – وبامتياز- لتسمى جوهر وجود الإنسان ، بما تحققه من ضمان سيلان الزمن وتدفقه بحاضره وماضيه. )) (13)، تعمل بأقصى توجه سردي وفاعلية ، والماضي حاضر في ذهن هذه الشخصية بكل ملابساته وديمومته ، وهو الماضي الناصع / الجميل / الذي لا ينسى ولا يمكن أن يشطَب من الذاكرة ، وإذا كان هذا النص يتحدد بعلاقة الهاشمي بهذه المدينة ويشخصها عبر تحديد هويتها التاريخية ، وموقعها وحاراتها إذ يشير الراوي إليها بقوله :
((في اليوم الثاني أخذتِني في جولةٍ في مدينة فاس القديمة. وهي مدينة رائعة حصينة تقع على نهر يُسمّى اليوم " وادي فاس " .... دخلنا من باب أبي الجلود أو أبي الجنود وسرنا في أسواق متخصّصة مثل سوق الصناعات الجلديّة والأحذية، وسوق الأقمشة والملابس التقليديَّة، وسوق الجزّارين، وسوق الحدّادين، وما إلى ذلك. وكان لكلِّ حارةٍ من حاراتها مسجدها الذي يُستخدَم في الوقت ذاته ملتقىً للدرس والتعلُّم، فالمساجد كلُّها توظَّف كتاتيبَ يتعلّم فيها صغار الأطفال، ومن هنا يسمى الكُتّاب في المغرب " مَسيد" (أي مسجد). وذكرتِ لي أنَّ السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين جعل التعليم إلزاميّاً لجميع الأطفال، فحينما دخل فاس قبل حوالي ألف عام، ألزم أهل كلِّ حارةٍ ببناء مسجدٍ يتعلَّم فيه أبناؤهم.
ودخلنا مدرسةً قديمةً رائعةَ المعمار، مزيَّنة البناء، محكمة الترتيب بحيث أُفرِدت غرفٌ لإدارة المدرسة، وغرفٌ للأساتذة والدرس، وغرفٌ لسكنى الطلاب. وقلت لي إنَّ السلطان أبو عنان المريني ، قبل أن يقدِم على بناء المدرسة، بعث بالعلامة ابن خلدون، صاحب "المقدّمة" الشهيرة ومعه معماريّون إلى بغداد، للاطلاع على الجامعة المستنصريَّة، والوقوف على هندستها وتصميمها، للإفادة منها في بناء مدرسته تلك.
ثمَّ وصلنا إلى جامع القرويِّين، الذي يُعدّ أقدم جامعةٍ في العالم. وقلتِ لي إنَّ رجلا من أهل القيروان في تونس اسمه محمد بن عبد الله الفهري قدِم إلى المغرب أيامَ الأدارسة، واستقرَّ في فاس رفقة زوجته وابنتيه فاطمة ومريم. وبعد وفاته ورثت منه ابنتاه ثروةً كبيرة، وكانتا من المُحسِنات الصالحات، فأنفقت فاطمة من مالها الخاصّ لبناء مسجدٍ كبيرٍ رائعِ البناء على أرض فسيحة في محلَّة العالية على الضفة اليسرى لوادي فاس. وقد استُخدِم هذا المسجد للعبادة والعِلم، وسُمِّي باسم نسبها " جامع القرويين"( أي القيروانيِّين). وبنَت أختها مريم مسجداً أصغر منه على الضفة الأخرى من الوادي حيث يسكن الأندلسيّون... )) (14).
فإن النص – على طوله- يكشف تاريخية هذه المدينة وواقعها الجغرافي عبر مخيلة روائية تستقدم المعلومات والأحداث من مكمنها، ويصبح الهاشمي جزءا من هذه المدينة حين يستوعب وجودها، ويثير أسئلة وجوده تحديداً من خلال هذا المدار الكوني الشامل .
لقد برزت فاس في ذاكرة الهاشمي مدينة تاريخية لها أهميتها، وانتماء الإنسان إليها إنما هو انتماء صميمي نابع من طبيعة المدينة التي تستقطب الناس إليها من كل حدب وصوب، إلا أن انتماء الهاشمي يعود لأسباب عدة منها أنها موطن أثيرة، ولعل خير دليل على ذلك هو أنه حالما تنقطع الصلة بينه وبين أثيرة لا تعود المدينة موجودة في ذاكرة الهاشمي أو مرتبطة به .
لقد حرص القاسمي على أن يقدَّم رواية تستلهم المدينة – بمختلف أقطابها وتوجهاتها - تُفعِّل منطق الوجود الذاتي، وتثير العديد من الأسئلة والبحث عن روافد الإجابة عبر منظور تاريخي، واقعي.
وإذا كان الخطاب الروائي يستند في أساسه وبنائه الفعلي على منظور متعدِّد ، بين سرد موضوعي – في اغلب الأحيان – وذاتي يشير إلى الأنا الساردة، وهي تحكي حكايتها بأسى وحزن وذاكرة متقدة تعود بالبطل / الهاشمي إلى الزمن البعيد ، إذ الذاكرة هنا تتحدَّد بمُدد زمنية مختلفة بين مدىً طويل حيث الطفولة وأيام الصبا والقرية والأم والنخلة والنهر والأصحاب والمدرسة ونصائح الأب وعلاقته مع الآخرين لاسيما مع كاكا يارة التي تربطهما علاقة وثيقة تنقطع الصلة بينهما على اثر ترحيله لكنه يبقى في ذاكرة الأب والابن لا يبارحها ، ومدىً زمني قصير حيث الرباط والجامعة وفاس وأثيرة والألم المتصدع في القلب بعد أن أعلنت أثيرة حملها منه وإصرارها على إجهاض الجنين، وهو إجهاض لحلم الهاشمي في الاستقرار والأمان في وطن آخر غير وطنه الحقيقي .
لقد جاءت المدينة رمزاً معبراً عن طموح الهاشمي، فالقرية التي جعلها القاسمي مجهولة التسمية إنما هي رمز لبغداد، الباقية في الذاكرة والوجدان، وبغداد رمز للعراق الغائب عنه جسدا والحاضر أبداً ودوماً، روحا ووجدان وذاكرة وفعلا وواقعا، يقول الراوي :
(( كيف أنسى يا أبي تربةَ أهلي، وماء الفرات، ونخلة أُمّي؟ فقد تشرَّبتْ بها روحي، وسرت في دمي، ونبضَ بها قلبي. وهل يحيا المرء بلا قلب؟ كيف أنسى يا أبي وطني؟ ليتني كنت أستطيع ذلك لحظةً واحدة، فهو يسكن كياني، ويملأ أحلامي.
إنَّك لا تدري، يا أبي، أنَّني منذ ذلك الفجر الذي احترفتُ فيه الرحيل، والشمس تشرق كلَّ صباح في عيني من العراق، وتغيب كلَّ أصيل في العراق، وأنَّ ساعتي أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهبتُ، لأنَّ هذه الساعة التي أهديتَها إليّ ذات يوم، تعمل بالنبض،نبض قلبي الذي تجسّه في معصمي. وقلبي ينبض بحبِّ العراق.
تقول، يا أبي، إنَّني قد أنسى وطني حينما أعبر إلى الضفة الأُخرى، وأنتَ على يقينٍ، يا أبي، أنَّني في أيِّ المحيطات أبحرتُ، وفي أيِّ البحار نشرتُ أشرعتي، فإنَّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماً نحو منائر وطني، وأنَّ ساريتي ستظلُّ أبداً ملفّعة بشال أُمّي وضفائر أُختي. وسأستنشق عبير بستاننا في نسيم البحر. وسوف يغتسل طيف بلادي في مجرى مركبي، وأرى خيال أعناق نخلاتنا في الغمائم فوق السفن، وسيجري ماء الفرات على الدوام في عروقي وأوردتي وشراييني ودمعي. وسأظلّ صادياً ظمآنَ لن أرتوي إلا ببضع قطرات من ماء الفرات الفرات. )) (15).
لقد جاءت المدينة لتفتح المخيلة الروائية على اتساعها ولتشرع في بناء فضاء روائي قائم على تعددية مدينية واضحة. ومن خلال هذه التعددية تثير أسئلتها الوجودية، عبر مجموعة سردية تشكّل النسيج الجامع لهذه التعددية.
لقد جاءت المدينة هنا رمزاً معبراً عن الوطن الضائع لدى القاسمي، فبغداد أو القرية التي جعلها القاسمي مجهولة التسمية هي رمز لبغداد، وبغداد رمز للعراق، ولعل قول الراوي خير ما يمثل هذا المرتكز السردي المعبر بوجدان ذاتي يفيد من ضمير المتكلّم/ الأنا في الانشداد والركون والاستسلام إلى ذلك القدر الذي فرقّه عن الوطن جسداً لكنه حاضر فيه روحاً وضميراً وأخلاقاً، أثارت الكثير من الأسئلة وحتّمت على متلقّيها الإجابة عنها ذاتيا، حرصاً من الروائي على استيعاب كافة الممكنات الوجودية للنصِّ السردي .
الهوامش والإحالات :
(*) للدكتورة سوسن البياتي أعمال نقدية عديدة منها كتابها "
ــ بنية النص القصصي: رؤية سردية في مجموعة " دوائر الأحزان" لعلي القاسمي (القاهرة: دار رؤية، 2013)
(*) للدكتورة سوسن البياتي أعمال نقدية عديدة منها كتابها "
ــ بنية النص القصصي: رؤية سردية في مجموعة " دوائر الأحزان" لعلي القاسمي (القاهرة: دار رؤية، 2013)
(*) كتبت الدكتورة سوسن البياتي دراستها النقدية قبل صدور الرواية عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء وبيروت بتاريخ 12/6/2012.
1. قال الراوي ، البنيات الحكائية في السيرة الشعبية ، سعيد يقطين ، ط1، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 1992 . 241 .
2. دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر ،– دراسة في إشكالية التلقي الجمالي للمكان ، قادة عقاق ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ،2001 .، 19 .
3. الإنسان والمدينة في العالم المعاصر ،مجموعة مؤلفين ، تر: كمال خوري ، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي ، دمشق ، 1977، 5 .
4. جماليات التشكيل الروائي ، دراسة في الملحمة الروائية "مدارات الشرق " ،محمد صابر عبيد وسوسن البياتي ،ط1، دار الحوار ، دمشق ، 2008، 189 .
5. أطياف الوجه الواحد ، دراسة نقدية في النظرية والتطبيق، نعيم اليافي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995 ، 266 .
6. المدينة فضاء إشكاليا في الرواية المغربية .
7. الرواية ، 47 .
8. الرواية ، 184 .
9. الرواية ، 180 .
10. الرواية ، 201 .
11. الرواية ، 209 .
12. الرواية ، 234 .
13. سرد الذات – فن السيرة الذاتية ،عمر منيب ادلبي ، ط1، دائرة الثقافة والاعلام ، الشارقة ، 2008، 202 .
14. الرواية ، 238 .
15. الرواية ، 78 .
1. قال الراوي ، البنيات الحكائية في السيرة الشعبية ، سعيد يقطين ، ط1، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 1992 . 241 .
2. دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر ،– دراسة في إشكالية التلقي الجمالي للمكان ، قادة عقاق ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ،2001 .، 19 .
3. الإنسان والمدينة في العالم المعاصر ،مجموعة مؤلفين ، تر: كمال خوري ، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي ، دمشق ، 1977، 5 .
4. جماليات التشكيل الروائي ، دراسة في الملحمة الروائية "مدارات الشرق " ،محمد صابر عبيد وسوسن البياتي ،ط1، دار الحوار ، دمشق ، 2008، 189 .
5. أطياف الوجه الواحد ، دراسة نقدية في النظرية والتطبيق، نعيم اليافي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995 ، 266 .
6. المدينة فضاء إشكاليا في الرواية المغربية .
7. الرواية ، 47 .
8. الرواية ، 184 .
9. الرواية ، 180 .
10. الرواية ، 201 .
11. الرواية ، 209 .
12. الرواية ، 234 .
13. سرد الذات – فن السيرة الذاتية ،عمر منيب ادلبي ، ط1، دائرة الثقافة والاعلام ، الشارقة ، 2008، 202 .
14. الرواية ، 238 .
15. الرواية ، 78 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق