رسالة عن أبي حنين أحمد قطامش/ جواد بولس

قبل أيام نشر على لسان رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، "أشير غرونيس"، تصريح أدلى به معقبًا ومنتقدًا دور الإعلام الإسرائيلي في النشر الكاذب وفي اختلاق القصص والروايات. جاءت أقواله بعد أن تبين أن خبرًا كاذبًا أفاد أن قضاة محكمة القدس المركزية أجبروا مشتكية في قضية اغتصاب أن تمثل الفعلة أمامهم في القاعة.
 وفقًا للتحقيق ألذي أجري تبين أن ما نشر كان عاريًا عن الصحة وتسبب بإحراج وإلصاق تهم باطلة لثلاثة قضاة نشرت صورهم مع ذلك النبأ.
على إثر ذلك قررت أن أكتب هذه الرسالة، وهي غير موجهة لرئيس المحكمة لسببين: فقبل أكثر من عامين كتبت رسالة مفتوحة لمن سبقته رئيسة للمحكمة (القاضية دوريت بينيش)،ولم ألحظ أن ما كتبته أثار التفاتة أو غيّر ما هو سائد بينهم، وثانيًا، لظني بأن محكمة العدل العليا الإسرائيلية صمتت طيلة عقود، وشاركت أحيانًا بما قام به الإعلام الإسرائيلي من تحريض على العرب والفلسطينيين، من جهة، وشاركت في تغييب الصوت العربي من جهة أخرى.
 تصريح الرئيس جاء اليوم بعد ان وصلتهم نيران التحريض.
إذن فرسالتي إلى من كانوا هم الضحايا ولمن سيكونون:  
اسمي أحمد سليمان قطامش، ينادونني "أبو حنين" من سكّان البيرة.  لست ناشطًا في إطار تنظيم "الجبهة الشعبية"، سجنت إداريًا لخمسة أعوام ونصف (١٩٩٢-١٩٩٨).  لكوني مفكرًا فإن  لدي مواقف، وأحمل آراء أنشرها وأكتبها على الملأ. 
هكذا باقتضاب مؤثر أجاب الأسير الإداري أحمد قطامش المحقق الذي استحصل إفادته في سجون الاحتلال قبل أكثر من عامين. قصة أحمد تشبه، ربما، قصص فلسطينيين كثر، وتبقى كما تكون قصص الورد؛ تعبق برائحة صاحبها الخاصة كعبق اللذة ووخزها. 
لن أحدّثكم عن تلك الأعوام التي قضاها أحمد سجينًا بدون تهمة ولا بيّنة، ولا عمّا سبقها من حكايات نسجتها سيرة طارت وصارت كالحلم، فعلى تراب فلسطين تكدّست منذ ذلك الزمن أضغاث حسرات وشاخ القمر. 
في نيسان قبل أكثر من عامين وبعد أن كبرت "حنينه" وصارت ضمة من فل، أخذوه وسلبوه كنزه/حرّيته. فمنذ عامين وأحمد لا يبكي إلّا كعاشق على زند زنبقة. في كل مرّة قابلته أحسست بالندى يقطر من رمشي، وفي كل مرّة تركته رفعت يديّ إلى فوق فأحسستهما تمتدان لتصيرا شاعوبًا يخترق جبال غيم أسود، أحار كورقة سقطت من أمها الشجرة، ولكن لا يسيل لعاب عينها. أبتعد عن سجنه، وأعرف كم يحتقر مثله مهلك الليك. 
منذ عامين أحاول أن أقنع قضاة الاحتلال أن لا بدّ من نهاية لهذا الليل، في كل مرّة أعود مثخنًا بخسارة، ويعود أحمد لزنزانته عاشقًا لا يبكي إلّا من شوق لحنين، وغفوة على كبش فلة.    بعد عامين أحضر أحمد أمام قاض عسكري لينظر في تمديد توقيفه لأربعة شهور أخرى، حيث من المفروض أن  ينتهي  توقيفه في الثامن والعشرين من آب.  قرأ القاضي كل ما قدّم له من ملفات سرية. لم يقتنع بالرواية وقرر أن يفرج عن أحمد مع نهاية مدة الأمر القائم. جاء قراره مهنيًا  واضحًا ومسندًا بشكل مقنع. لم يقتنع بأن أحمد قطامش ما زال يشكّل خطرًا على أمن وسلامة الجمهور.  للحقيقة فقد كان هذا القرار من السوابق النادرة، فنحن معتادون على قرارات قضاة تكون بمثابة أختام لطلبات النيابة والمخابرات.    
شمّرت النيابة عن حقدها. للقضية فصول وصلنا بها إلى "محكمة العدل العليا الإسرائيلية ". منذ اللحظة الأولى شعرت كم لا تستلطفني هيئة المحكمة التي كان رئيسها يتوسط قاضيتين. أحلتهم إلى ما كتبه القاضي العسكري، وسردت لهم مأساة النرجس الفلسطيني، وحدّثتهم عن ملهاة الفضة حين تذلّها بساطير جند الغزاة. سمعوني على قرف، هكذا شعرت، ولم أبال.  كشوكة انتصبت،أرفع يديَّ إلى فوق، أحسّهما هذه المرة كقوس طويلة تعزف على آلة الصدأ نشيد نصري والعرق.  
في القاعة التي تذكرني بقاعات دفن أثرية، برودة.  ثلاثة قضاة أشعر أن أحدهم قد يتقيّأ في كل لحظة، وأنا وبجانبي ممثل عن النيابة العامة للدولة وموظفو من جهاز المخابرات العامة. صاحب الشأن غير موجود لأنه مريض لا يحتمل النقل من سجن النقب الصحراوي، وعائلته ممنوعة من دخول القدس.
وحدي أقارع هناك على "أولمب" صهيون.  وحدي أنادي.  السماء ضاجة، الملائكة تحاول أن تدرأ أنهر الدم في مصر وسوريا وبابل، وحدي ويوشع الذي يجدد العهد وينفخ بالقرن لتسقط أريحا. كم مثل يوشع يعرف من أين كانت البداية والوجع؛ أريحا أولًا وغزة ثانيًا؟!
"إلى ذلك وبما أننا نتكلم عن أسير محتجز في المعتقل منذ فترة طويلة، فعلى كل قرار تمديد لتوقيفه أن يصدر عن مسؤول عالي المرتبة. أُعلمنا أن قرار تمديد اعتقاله الأخير صدر عن رئيس جهاز المخابرات، وعند انتهاء مدة هذا الأمر سيعرض موضوعه أمام رئيس جهاز المخابرات مجددًا، لهذا نرفض الالتماس". 
هكذا ببساطة لسعة هسهسة رفض القضاة الثلاثة التماسي للإفراج عن أحمد قطامش الذي ما زال  بعد أكثر من عامين يحترف الحنين والانتظار. 
نخ العدل مجدّدًا. قرأ رئيس المحكمة قراره بصوت خفيض، لا من أدب، بل، هكذا أحسست، من شماتة وترفّع. 
 أشحت سمعي وانشغلت بشاشة الهاتف. يجب أن لا تنتصر شماتتهم. أخذت أنفاسًا عميقةً، فشممت عطر النرجس الذي ما زال ينمو على تلك الجبال شاهدًا على مأساة وسقوط مملكة العدل والخسارة. 
ليست لكم هذه الرسالة، لأن الذي يهون يسهل الهوان عليه.
 فيا سادتي:  "أكلت يوم أكل الثور الأبيض، كانت من القصص الشعبية الموروثة في ثقافتنا والتي رددتها، أحيانًا، في مرافعاتي القانونية أمامكم، وستبقى هذه حكمة ضحيّةٍ لضحيّة المستقبل. 
 هكذا كتبت لكم قبل عامين ونصف، وأعود هنا لأذكّر عساها تنفع الذكرى. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق