قال ابن حوشب لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا الشيعي - وقد كان هاجر إلى ابن حوشب -: يا أبا عبد الله، أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك. فبادر فإنها موطأة ممهدة لك! فخرج أبو عبد الله.
وكان أبناء عبد الله بن ميمون القداح لما قوي أمره وكثرت أمواله ومات ادعوا أنهم من ولد عقيل بن أبي طالب.. وهم مع هذا يستترون ويخفون أشخاصهم ويغيرون أماكنهم وأسماء دعاتهم. وكان لعبد الله بن ميمون القداح عدد من الأولاد فخلفه منهم أحمد. ومات أحمد فخلفه "محمد"، وكان لمحمد ولدان: أحمد والحسين. فمات أحمد، وهو الذي نفذ ابن حوشب وابن فضل إلى اليمن. وصار الحسين إلى سلمية من أرض حمص وله بها أموال من ودائع جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان وأتباع. وبقي ببغداد من أولاد القداح "أبو الشلعلع" وكان مؤدبا بآداب الملوك. وكان الذي بسلمية يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر دون بني القداح ويكاتب الدعاة.
واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية. فوضعوا امرأة رجل يهودي حداد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الجمال. فقال لبعض وكلائه: زوجني بها.
فقال: يا سيدي، هذه فقيرة ولها ولد.
فقال: ما علينا من الفقر! زوجني بها وأرغبها وأبذل لها ما شاءت.
فتزوجها الحسين وأحبها وحسن موقعها منه. وكان ابنها يماثلها في الجمال فأحبه وأدبه وعلمه وأقام له الخدم والأصحاب. فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية من ولد القداح مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو "عبيد الله" وعرفه أسرار الدعوة وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات، وتولى على الأعمال وتقدم إلى وكلائه بطاعته وأنه الإمام وزوجه ابنة عمه أبي الشلعلع محمد بن أحمد.
وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلوي "ذكره ابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة وقال إنه من أهل الدعوة" وغيره من العلماء بهذه الدعوة ورواة أهلها. ويتابع ابن شداد المؤرخ فيقول: فلما وصل المهدي إلى مصر في زي التجار كان عامل مصر "عيسى النوشري". فأتت الكتب إلى عيسى بأن يقبض عليه - وفيها حليته - من جهة الخليفة، وأنه ممن يطلب الأمر لنفسه. وكان المهدي قد خرج من مصر. فلما وصل الكتاب إلى النوشري فرق الرسل في طلبه وخرج بنفسه فلحقه، فلما رآه لم يشك فيه فقبض عليه وأنزله في بستان وأحضر طعاماً وسأله أن يأكل معه. فاعتذر بأنه صائم. فرق له ودعاه في خلوة وقال له: أصدقني على أمرك، فإني أتلطّف في خلاصك. فخوّفه المهدي من الله وقال له: اتق الله، فإنما أنا رجل تاجر ولست أعرف شيئاً مما تقولونه.
فخلى سبيله. ويقال إنه أعطاه مالاً أقر عينه. وأراد أن يرسل مع المهدي من يوصله إلى رفقته، فقال: لا حاجة لي إلى ذلك، ودعا له. فرجع بعض أصحاب النوشري عليه باللوم، فندم على إطلاقه وأراد إرسال الجيش ليردوه.
وكان المهدي لما لحق أصحابه رأى ابنه أبا القاسم قد ضيًع كلباً كان يصيد به، وهو يبكي عليه. فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه، فرجع المهدي بسبب الكلب حتى وصل البستان ومعه عبيده. فرآهم النوشري فقال: ما هؤلاء ؟
فقيل له: التاجر رجع.
فبعث فسألهم ما الذي ردهم، فقالوا: فقد ولد سيدنا كلبه، وهو عزيز على أبيه فرجع في طلبه. فقال النوشري لأصحابه: قبحكم الله! أردتم أن تحملوني على مثل هذا الرجل حتى آخذه. فلو كان يطلب ما يقال، أو كان مريباً لكان يطوي المراحل ويخفي نفسه، ولا كان رجع في طلب كلبه!!
المهدي في بلاد المغرب
انتهى المهدي وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرق من كان صحبته من التجار. وكان في صحبته أبو العباس محمد أخو أبي عبد الله الشيعي، فقدمه المهدي أمامه إلى القيروان وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العباس إلى القيروان، وجد الخبر قد سبقه، ووصلت الكتب من الخليفة إلى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب في أمر المهدي، فسأل عنه رفقته فأخبر أنه تخلف بطرابلس وأن صاحبه أبا العباس بالقيروان. فأخذ أبو العباس وقرر، فأنكر وقال: أنا رجل تاجر صحبت رجلاً في القفل، فحبسه.
وسمع المهدي فسار إلى قسطيلة. ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بصفته وطلبه، فسار المهدي إلى (سجلماسة) بعدما اجتمع بعامل طرابلس وأهدي إليه. فكتب العامل إلى زيادة الله بأنه قد سار ولم يدركه.
فأقام المهدي بسجلماسة، وقد أقيمت عليه الأرصاد وفي الطريق حتى عرفوا دخوله إلى سجلماسة فأهدى إلى صاحبها اليسع بن مدرار هدايا وواصله. فقرّبه اليسع وأحبه إلى أن ورد عليه كتاب زيادة الله يقول: هذا الرجل هو الذي يدعو إلى طاعته أبو عبد الله الشيعي. فقبض عليه حينئذ وحبسه.
وبعد أن تمكن أبو عبد الله من رقادة توجه إلى سجلماسة لينقذ المهدي من سجن اليسع. حتى قرب منها. فأرسل اليسع إلى المهدي فسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبي عبد الله؟ فحلف له المهدي أنه ما رأى أبا عبد الله ولا عرفه، وإنما أنا رجل تاجر.
فأغلظ له في القول فلم يحل عن كلامه فأمر به أن يعاد إلى الاعتقال وأفرد في دار وحده، وكذلك فعل بابنه أبي القاسم، وجعل عليهما حرس. وقرر أبا القاسم أيضاً فما حال عن كلام أبيه. وقرر رجالاً كانوا معه وضربهم فلم يقروا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك فشقَّ عليه وأرسل إلى اليسع كتاباً يتلطف به ويؤمنه. ووعده من نفسه بالجميل. فرمى الكتاب وقتل الرسول. فعاوده في الملاطفة خوفاً على المهدي وأعرض عن ذكره له أولاً وآخراً، فقتل الرسول ثانياً وتمادى على حاله، فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه وقاتله حتى الليل، فهرب اليسع ومن معه، وبات أبو عبد الله ومن معه في غم عظيم لا يدرون ما صنع بالمهدي وولده. فلما أصبح خرج إليهم أهل البلد وأعلموهم بهرب اليسع، فدخل بأصحابه البلد وأتوا المكان الذي فيه المهدي فاستخرجه منه وأخرج ولده. فقرّب عبد الله إلى المهدي وولده حصانين فركبا، وحفت العساكر بهما، ومشى أبو عبد الله ووجوه القبائل بين يدي المهدي، وأبو عبد الله يقول للناس: هذا مولاكم ومولاي ! وهو يبكي من شدة الفرح.
المهدي يقيم دولته ويقضى على الدول التي كانت تحكم أفريقيا
لما قرر المهدي دخول أفريقيا أمر بإحضار الأموال التي على أيدي الدعاة، فلما حضرت قبضها. وسار إلى "رقادة" فوصل يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة (297هـ/909م). وحضرت إليه الأموال من "إيكجان" فدخل بها معه إلى رقادة.
وزالت بدخول المهدي رقادة دولة بني الأغلب التي حكمت ما يقرب من "112" سنة، وكذلك ملك "بني مدرار" الذين كان آخرهم اليسع وكان لهم في الملك "130" سنة، وزال أيضاً ملك "بني رستم" الذي دام "160" سنة، وملك المهدي العبيدي كل ذلك في هذه السنة.
ونزل المهدي بقصر رقادة بعدما خرج إليه أهلها وأهل القيروان.. والداعية أبو عبد الله ورؤساء القبائل مشاة بين يديه وولده خلفه فسلموا عليه فرد عليهم رداً جميلاً وأمرهم بالانصراف.
فلما أصبح يوم الجمعة أمر الخطيب أن يذكره في الخطبة فيقول: أبو محمد عبد الله الإمام المهدي بالله أمير المؤمنين. فلما صعد الخطيب المنبر وانتهى إلى ذكر المهدي قام (جبلة بن حمود الصدفي) قائماً وكشف رأسه حتى رآه الناس ومشى من المنبر إلى آخر الجامع وهو يقول: قطعوها قطعهم الله! - يعني الخطبة لبني العباس - ويكررها. وقام الفقهاء ووجوه البلد معه فما حضر أحد من الأمثال.
وجلس رجل بعد الجمعة يعرّف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس بالعنف والشدة ودعوهم إلى مذهبهم، فأجابوا إلى ذلك إلا القليل. فأمر بهم فضربوا وحبسوا.
ونابذ طائفة من الفقهاء المهدي حتى إنه أدخل برجل على الوالي، فقال له الوالي: قل: لا إله إلا الله!
فقال له: أما من قولك، فلا. إني لا أدري ما تقول لي بعدها.
ودخل بآخر وبين يديه مصحف فقال له: أليس هو القرآن؟
فقال له: ما أعرف ما هو.
ووجد رجل من أصحاب المهدي المشارقة مقتولاً فأتوا إليه وقالوا: قتل رجل من الأولياء.
قال: واين هو؟
قالوا له: أكلوه ولم يبق إلا عظام ساقيه.
فقال المهدي: هذا بلد لا يحل أن يقام به.
وأمر بقتل المحبوسين إن لم يرجعوا عما هم عليه، فقتل منهم على ما قيل أربعة آلاف رجل في العذاب ما بين عابد وفقيه وصالح وزاهد. ولذلك قال "سهل" في قصيدته:
وأحل دار البحر في أغلاله … من كان ذا تقوى وذا صلوات
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق