ندوةٌ ثقافيّةٌ للأديب أحمد رفيق عوض بحيفا/ آمال عوّاد رضوان




أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا ندوة أدبيّة، احتفاءً بالأديب د. أحمد رفيق عوض، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3 بحيفا، بتاريخ 13-2-2014، وإلقاء الضوء على إنتاجه الأدبيّ والنقديّ، وسط حضور من شعراء وأدباء ومثقفين من حيفا والمنطقة وسائر الجليل، وقد تولّى عرافة الأمسية أميرة ناصر حايين مديرة مدرسة حوار، وشارك في الأمسية كلٌّ من الشاعر رشدي الماضي، والإعلاميّ نايف خوري حول مسرحيّة "المستوطنة السعيدة، ود. جوني بقراءة سريعة في رواية أحمد رفيق عوض "عكا والملوك"، ثمّ ختم الأديب د. أحمد رفيق عوض بكلمة شكر لكل الحضور وللمشاركين، ومن ثمّ تمّ التقاط الصّور التذكاريّة.
جاء في كلمة العريفة أميرة حايين عن الكاتب د. أحمد رفيق عوض: برؤيته الأدبيّة العميقة التي استمدّها من قساوة ظروف الحياة وواقعه الاجتماعي، بنبض أدبه وفكره وجرأته، وبحثًا عن الحقيقة والإبداع، وتتويجًا لموهبةٍ تمكنّ من إعلانها على الملأ، تمكّن الروائيّ والقاصّ د. أحمد رفيق عوض من السموّ والارتقاء بما أنتجه، ليُثري طلبته ومجتمعه ونفسه بنتاجاته وتجاربه، وهو من الكُتّاب الفلسطينيّين الّذين أثرَوا الواقعَ الثقافيّ الفلسطينيّ، وحاصل على عدّة جوائز، كانت آخرها جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع، وتُرجمت رواياته "الملك تشرتشل، وبلاد البحر" للغة الإيطاليّة، وهو محاضرٌ في معهد الإعلام العصريّ بجامعة القدس، وأحد الإعلاميّين الذين أسهموا بتأسيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّ. وُلد في العاشر من آذار سنة 1960 في بلدة يعبد، وشهد تفتُّح الوعي المبكّر للشاب الذي سيغدو في عقده الثاني من أهمّ قصّاصي الأرض المحتلة. واضحًا ومميّزًا في نهجه، كاتبًا للقصّة والمسرحيّة، جريئًا في طرْحه الاجتماعيّ والسياسيّ على عكس كثيرين حوله.
قال النقاد عن الأديب د أحمد رفيق عوض، أنّه يملك طاقة تعبيريّة هائجة متعجّلة مقتدرة على الرؤية، ومتمالكة مقوّمات بقائها وأدائها، فرواياته ما انفكت تحمل في بواطنها محفّزات، تحثّ أجهزة مناعاتنا على اليقظة والحذر والمواجهة. كتاباته محمّلة بجنين يولد ومولود يموت، يعبُر قطاره غربة الغربة، حيث تذوب حدود الحدود، وحيث الرواية عند أحمد رفيق عوض انصهار الاجتماع والإنسان والنفس والتاريخ والجغرافيا واللغة في بوتقة الإيحاء والذاكرة.
أديبنا د. أحمد رفيق عوض أعطى الوطن أكثر ممّا أخذ منه، وأعتقد أنّه لو كان في بلد آخر، لاحتفى به السياسيّون في كلّ واجد، لكنّه يعيش حالة التقشّف السرمديّة، ويبرع في كشف أهواء النفس البشريّة وهندستها المعقّدة. إنّ الروائيّ الفلسطينيّ الكبير أحمد رفيق عوض، نجح في اجتاز جدار الأمر الواقع، ووصل بأدبه وخياله إلى مستوى استقراء المستقبل، هذا ما نلاحظه في كتاباته المسرحيّة.
إنه متميّز مختلف، خارجٌ من عتمة الزوايا، مشغول بهموم البحث عن خبز الكفاف الذي خاض الكثير من المجالات، فأعطِي أكثر ممّا حصد عن طيب خاطر، قناعة عابدٍ وطموحَ نبيّ، بتقاليد القرويّ الذي حفظ وصايا أمّه الأرض. عمل مُدرّسا في المدارس الرسميّة والخاصّة، ومدير الأخبار في إذاعة فلسطين، وعضو مؤسّس لبيت الشعر الفلسطينيّ، وعضو تحرير لجريدة دفاتر فلسطينيّة الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينيّة، ورأس تحرير أكثر من مجلة متخصّصة. وفي المجال الأكاديميّ عمل محاضِرًا في قسم الإعلام، في جامعتيْ بير زيت والقدس، بالإضافة إلى مساهماته الصحافيّة في الفكر والنقد الأدبيّ. إنه خارجٌ من عتمة الزوايا، حاملًا إرثَ الأمس وشوقَ الغد، لا يطرف له رمش أمام الحقيقة، ولا يَصمت عن إعلانها مهما كانت قاسية، منذ ألقى في درب الرواية العربية متفجرته الأولى العذراء والقرية، التي بشّرت برواية فلسطينيه وعربية جديدة، وقدّمت روائيّا يمتلك سِحر القصّ، وجرأة تقديم رأسه للمقصلة، وأكّد ذلك فيما تلا من روايات قدرون ومقامات العشاق والتجار، وآخر القرن والقرمطي وعكا والملوك، ومساهماته في مجال الكتابة للمسرح في مسرحية الملك تشرشل، ومسرحية الأمريكي، وكتاباته عن عقل الآخر، في كتاب حوار مع إسرائيلي، وكتاب دعامة عرش الرب عن العلاقة بين الدين والسياسي في إسرائيل. 
هو المذهول المصدوم من مرارة الواقع، وهو القابض على بيت الداء، تصطرع فيه ملكة العقل المتفتح الطافح بالرؤى، وجذوة الإبداع هبة من الله، يقف أمام سؤال الحقيقة كلما أوغلت من حوله العتمة، فيخوض مخاضات جديدة، فنراه المتميز في كتاب نصوص السينما، مثل فيلم نابلس، وفيلم في بيت الله، وفيلم السامري الطيب، ويخرج أفلام الجريمة والصمت، وقصة موت صحفي، أربع أمهات وقميص واحد، وهو المبادر دائمًا، من خلال المشاركة الكثير من الفعاليات الفلسطينية والعربية والدولية، مثل المؤتمر الدولي للكتاب عام 1995، ومهرجان أيام عمان المسرحية عام 1997، ومهرجان القاهرة التجريبي عام 1998، ومهرجان الكتابة المسرحية الدولية- لندن عام 2000، هذا هو اليافع ابن الخمسين الذي يختزن طاقة الفارس ورؤية الحكيم، عاش تفاصيل واقع الحال حتى النخاع، وهو خير من يتعامل مع المشهد الثقافي الفلسطيني، في هذه المرحلة التي تتطلب منا ترتيب جمع الأوراق من جديد.
وفي تقديمها للأستاذ رشدي الماضي قالت: زغردت حيفا بهجة لشعره، وجثا شاطؤها إجلالًا لمعانيه، فهو شاعر الماضي والحاضر والمستقبل، كلماته حفنة من درر، أمّا اليوم وفي هذه الأمسية أدعوه للتحدث عن أهمّية التواصل الحقيقيّ،  وضرورته بين أشطار الشعب العربي الفلسطينيّ، هنا في البلاد وفي المناطق والشتات، أدعو الشاعر الأستاذ رشدي الماضي، ليشعّ بكلماته طريق التواصل.
وجاء في كلمة الشاعر رشدي الماضي جاء: بيدر من نادي حيفا الثقافي لدوري الكلمة، لحيفا أن تحمل لكم الليلة أكثر من فرح، وأكثر من مسرّة، وأكثر من عسل وقهوة. كيف لا وقد فتحت من فرط شبابها النوافذ والأبواب سهرًا يُغني، كي لا ينعس الفنار. حيفا العروس رأت حروفه مشهديّة كلمات، تتقدّم قوارب قبضت على الزرقة المفقودة، قبضت عليها نورسًا كان تائهًا ضائعًا، نورسًا عاد يتلو صلاة الموج، شهادة تكشف بوح سفينة راجعة، سفينة جاءت تحمله زيتونة تحنّت بالوصول، مبايعة للشتاء، وشدوًا للمطر. حيفا رأتك تلمّ أطرافك التصاقا بين أناك والمكان، فأعلنت: لم أعد أرضًا مسافرة، ولا بيتًا لا متسع فيه للبقاء. هنيئًا لنا بأنك اقتنصتَ اللحظة، ولبّيتَ النداء وأتيت واقفا إلى دارك. نعم وصلتَ واقفا إلى حيفا، شاكرًا سرب القطا الذي أعارك جناحه، ومُردّدًا بعد المعذرة من النجفيّ: يا عودة للدار ما أحلاها، أسمع الآن حيفا وأراها أخي ومبدعي الأحمد والحامد والمحمود أحمد، لو لم نكن أنا وأنت حيفا، لسعَينا أن نكونها. اُنظر ترَها الليلة ساقية من سحجة جفرا، ومدينة صارت بدخولك كونا.
أخي، حيفا هي الأرض، والأرض هي الأقوى، وفي هذا الزمن الذي فسد فيه الملح، علا منه صوت يرفض أن ينثرها شارعًا شارعًا، وحيًّا حيًّا، وعنوانًا عنوانًا، صوتٌ أبى إلّا أن يوحّد جغرافيا مدينة كرمل الله خميرة لعشق الأرض، عند أهلها الذين هم نبض النضال الذي يحرس الشفق، كي يأتي شراع غائب قبل الغسق. نعم يا أخي، هي أسرة بصمت المكان في عروقها، اسمها نادي حيفا الثقافي، الذي يسيّجه برعايته الوفية المجلس الملي الأرثوذكسيّ الوطني، ابن هذه المدينة الطاهرة، أسرة لم تعد تبحث عن الوطن، ولو أنه ما زال هاربا في تلافيف الذكريات وتضاريس كتب التاريخ، ولا في زمن البكاء الشعريّ، وقد أصابه ما أصابه من أوجاع تشتت مقيمة في المكان، تلطم الحلم بالحلم، والأمل بأخيه، تلطمه تمزقا للهوية وفقدانا للحياة والوجود، والبقاء على رحيل بلا هدف أو مأوى أو طريق رحيل، يريدنا مشتتين مشرّدين نحمل أمتعتنا الصغيرة، باحثين عن خيمة تحتضننا، أو إنسانية تئنّ لحالنا، لا لذنب أو جريمة، سوى إصرار الواحد منا أن يبقى قلبا مشاغبا، أبت عليه شقاوته إلا أن يواصل تعذبه بمحبة هذه المدينة الشقية. 
ضيفنا الكبير، نادي حيفا الثقافي بكمشة حبق ألوان نشاطه، كسر عزلة التشرنق في الذات، وفسخ تصاهر المقدس بالمدنس، ويكتب بالممحاة مدائح الخروج والهروب، لأنها ليست من أقوال الله تعالى، لينهض من رماد هذا الزمن المعطوب فينيقا، اسمه مفردة خضراء في مسيرة حركتنا الثقافية الفلسطينية، مفردة تؤمن أن الحياة والثقافة صنوان متلاحمان. ولأن القائمين على هذه الدار الثقافية العامرة لا يريدون أن يبصروا رئاتهم، وقد سوّدتها الشعارات الساخنة ولا قاماتهم، وقد حدّبتها خطى العابرين إلى الأوسمة، والمُتسكعين على أرصفة الكلام، لذلك تأبطوا من خلال ناديهم وراعي مشروعهم الوطني، لجمع أشطار البرتقالة الفلسطينية من شمال وجنوب وشرق وغرب، وها هو قدومك يا أخي أحمد باحثا ومبدعا، يُجسّد ما تريده أسرة النادي حقيقة ملموسة على أرض الواقع، اللّهمّ لجميعهم العافية الدائمة، والسلام عليك يا مبدعنا، وقد أتيت اليوم صوتا يحمل إصرار القضية، والسلام عليك يوم علقت إبداعك أيقونة رائية على صدر روايتنا، والسلام عليك الليلة، ليلة جئت فيها طائر رعد لنا ولفلسطين خاصة وقيامة.
وجاء في تقديم العريفة أميرة حانين للإعلامي نايف خوري: كتاب "المستوطنة السعيدة" هو مسرحية، وضعها المؤلف عن واقع الحياة في فلسطين، وخاصة المستوطنات المجاورة للقرى الفلسطينية والمضايقات التي تعاني منها السكان الفلسطينيون، والمعايير غير العادلة التي تنظر بواسطتها سلطات الاحتلال لهذا الواقع، وتحديدا، وقعت مشاكل معينة ومذابح، كما ورد في المسرحية. أدعو الكاتب والإعلامي نايف خوري، ليلقي الضوء على هذه المسرحية من جوانبها المتعددة، علمًا بأنه مارس الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج والنقد المسرحيّ، إلى جانب كتاباته في مجالات أخرى. 
 جاء في مداخلة الإعلامي نايف خوري حول مسرحية المستوطنة السعيدة: ما أسعدها من مستوطنة، وما أجملها من مستوطنة، وما أرقى سكانها وأهلها، والحقيقة أنّ هذه قمّة من قمم الساتيرا التي يكتب بها أي كاتب مسرحيّ، والفرق بين الساتيرا والفاسا، أي ما بين الموقف الساخر والكلام الساخر، أنّ الموقف الساخر يضع الكاتب فيه مواقف معينة لشخصيّاته، ويرسم بها المواقف والأحداث التي تجري في المسرحية، وبالتالي يعرضها موقفا كاملًا متكاملًا، ونستنتج نحن كمشاهدين الفكرة من وراء هذا النقد اللاذع، أو هذا النقد الساخر الذي يريده الكاتب. 
أما الفارسا فهي باتجاه آخر، فالكاتب يتلاعب بالألفاظ ويرسم صورًا كاريكاتيرية فقط، لكي ترهجنا وتثير البهجة والرهجة وحتى السخرية. ولكن نحن هنا أمام موقف يتحدّى بالساتيرا وليس بالفاسا، وهذه المواقف التي يعرضها الكاتب، هي عبارة عن مجموعة من الأحداث التي صاغها بما نسميه بالمسرح. بين المسرح الذهني والمسرح الواقعي، فالمسرح الذهني تناوله الكاتب المعروف توفيق الحكيم في مسرحياته، وكان يهدف من وراء هذه المسرحيات القراءة والمواعظ، من خلال القراءة أي الفكر الذهني، أما هنا فما ذهب بين الذهنية والواقعية، لأنّ المستوطنات والمستعمرات هي واقع أليم، لا يمكن أن نتغاضى عنه أو نتجاهله، أو أن نراه فقط بذهننا وأفكارنا. 
في إحدى مسرحيات الكاتب الساخر اليوناني المعروف أرسطوفانيس بعنوان السحب أو الغيوم، يسخر من كبير الفلاسفة سقراط، لأن سقراط يُعلّم ويُلقن المبادئ والعلوم لأحد طلابه ومريديه، وهذا الطالب مُستلقٍ على كنبة مليئة بالبراغيث والحشرات والموبقات، ويتململ متضايقا متبرّمًا، فيقول أرسطوفانيس: أبعِد عنه هذه الموبقات أوّلًا، ثم حدّثه في السماويات والعلويات والنظريات التي تشاء. لذلك يأتي كاتبنا ويقول: نحن لا نريد التنظير والنظر الى الذهن فقط، بل نريد أن ننظر إلى الواقع الأليم الذي يعيشه الفلسطينيّ المحتل والمنكوب والمُهجّر، والذي لا يمكن أن يتغاضى عن هذا الواقع الأليم، ولكن لا يجد آذانا صاغية، بل يجد أن هذا الواقع يصطدم بتحقيقات مشروطة، بأننا نريد أن نصل إلى الحقيقة دون محاكمة المسؤول عنها، ودون أن نحاسبه، لذلك تبقى المسألة تنظيرا في الحل الذي يمكن أن يكون مطروحًا أمام هذا القارئ. 
ومن ناحية أخرى تتحدث المسرحية عن مجزرة، بل مذبحة جرت في تلك القرية المجاورة لهذه المستوطنة السعيدة، لماذا؟ هذا الأسلوب أيضًا يوناني في الكتابة المسرحية، حيث أن المسرح اليوناني امتاز خاصّة في مسرحية الملك أوديب، بأن أحداث مؤلمة من فقء عينيه وقتل أبيه، جرت خارج خشبة المسرح، ولكن كان هناك من يشير إلى هول وعظمة هذا الحدث. 
أما في المسرح الروماني الذي كان بعد المسرح اليوناني، فكنا نشاهد ونعلم بأن المسرحية الرومانية كانت تمثل أمام الجمهور في المدرجات، وعندما يحين مشهد فيه دم وقتل، كان الممثل يبتعد جانبا، ويأتون بشخص محكوم عليه بالإعدام، أو أي أحد من العبيد، لأن العبيد لا قيمة لهم آنذاك، ويُنفذون حُكم الإعدام فيه مباشرة أمام الجمهور، ودماؤه تسيل والجمهور يهلل ويصفق. 
هنا تحاشى كاتبنا هذه المجزرة بوصفها مباشرة، لكن كيف وصفها وتحدّث عنها؟ بواسطة الأشخاص. إن المسرحية عادة تتألف من فصول ومشاهد، وما يَقسم هذه المشاهد هو دخول وخروج الشخصيات، فكاتبنا وضع هه المشاهد على اعتبار تسلسل أحداث، وليس تسلسلا بالمواقف، كي يُبرز الحدث وليس الشخصية، والأشخاص هم نماذج للأحداث التي جرت، وما وقع أمامنا من أحداث. مثلا هذه شخصيات من حيث الكتابة المسرحية، إذا كانت موضوعة بقوالب متكاملة الوجود والكيان، وخرجت من الكتاب ومن الورق، فيجب أن تكون عائشة وحية منتمية ومرتبطة، وهي ذات صلات واستقلال تام، بكامل قواها ومبناها، لذلك هو لم يعتمد على إخراج هذه الشخصيات من الورق، بل أدخلنا نحن كقراء إلى داخل هذا الحدث، من خلال هذه الشخصيات التي تتوالى بظهورها، واصفة هول ما جرى. 
نحن أمام مسرحية اعتقد بأنها جديرة بأن يقرأها كل إنسان، ويبلور فيها الكاتب جمالية الموقف، حتى لو كان من الناحية الساخرة، والسخرية فيها لاذعة، ولا بد للإنسان ان يشعر بالألم، ومرارة الموقف الذي يعرضه أمامنا الكاتب. نحن نرى بأن شخصيات المسرحية تتحدّث من خلال صفاتها الإنسانية. هذا الفلسطيني الذي يعيش في قريته منكوبًا ومتضايقا، وقد ضيقوا عليه الخناق، وذلك المستوطن الذي يظهر لنا بأنه هو المتضايق من الفلسطينيين، لأنه أخذ أرضهم، ولأنه حجب عنهم الشارع والطريق، ومنع عنهم مياه الشرب، وحجب عنهم الزراعة والمأكولات. هذا التساؤل هو قمّة السخرية في هذه المسرحية، وأنا واحد من الاشخاص المُهجّرين المشردين من إقرث في ذلك الحين، ونحن اليوم لا زلنا نتحدث عن هذا الموضوع في كل مشاكلنا، ولذلك كان لي التعاطف الكامل والتام مع الكاتب الذي شدّني في مسرحيته هذه، وقال لي بأني أنا وأنت واحد في خندق واحد.     
وجاء في تقديم العريفة أميرة حانين لد. جوني منصور جاء: عندما نتحدّث عن تاريخ هذا البلد العريق، يلمع اسمه كلؤلؤة باهظة الثمن، فهو المؤرخ والمحاضر، وهو مصدر في موضوع التاريخ، ناشط اجتماعيّ وسياسيّ في أُطر عدّة في البلاد عامّة وحيفا خاصّة، فأضاف لحيفا قيمةً وعلاوة، إذ بات مؤرّخًا مفتخرًا لبلاد الشرق أجمعين. تعامل مع القضيّة الفلسطينيّة بالبحث عن الجذور، فأصدر العديد من الكتب في مجاله، كما واهتمّ في نشر أفكاره وفلسفته المستمدة من قصّة شعب، إذ يكتب أسبوعيًّا، ويطرح مواضيع تاريخيّة ومواضيع الساعة، ليتحِفَ الناس بفكره وفلسفته. إنه د. جوني منصور، يلقي كلمته في سياق القضيّة الفلسطينيّة.
جاء في كلمة د.جوني منصور: عند حافة بحر عكا، قراءة سريعة في رواية أحمد رفيق عوض "عكا والملوك"، بدوري أرحب بالأخ الغالي د. أحمد عوض وأقول له: أنت في بيتك وبين أهلك وربعك. وحضورك في هذا اليوم تأكيد أننا معا، أقوى من أي حاجز مادّيّ سيزول حتمًا، ونتابع مسيرتنا نحو الأفضل والأجمل.
الواقع انني في قراءتي لرواية "عكا والملوك" اطلعت على الكثير من المعلومات والمعطيات والأحداث، التي أثارت فيّ الفضول وحب الاستزادة عن تلك الفترة، التي يطلق عليها بعض المؤرخين "الحملات / الحروب الصليبية"، وبعضهم يحاول ألا يصبغها بعلاقة مع المسيحية، فيطلق عليها تخفيفا "حملات الفرنجة". ولكن التسميات كثيرة والحدث واحد. كان وطننا ولا يزال مستهدفا من أطراف كثيرة، وعلى وجه الخصوص الغرب . ومع كل هذا نحن صامدون وباقون على أرضنا بالرغم من كل المستحيلات والحواجز والعقبات والعراقيل التي تضعها مشاريع السيطرة والهيمنة اليوم، أسوة بالأمس القريب والبعيد، وسأتطرق في مداخلتي إلى عدد من المحاور، مبتعدا عن رواية الرواية او تلخيصها، لأحثكم على قراءتها والاستفادة منها ،وكسب لحظات من الفرح والسعادة بما أنجزه أبناء شعبنا تاريخيا، خدمة لقضيتهم ووجودهم (عيسى العوّام الأسطورة مثال على ذلك، وبعضكم سمع عنه وعن بطولاته في عكا، وإذا لم يسمع فاسألوا العكيين).
النص التاريخي العام للحدث الذي تتطرق إليه الرواية، يرتبط بفلسطين من كافة وجوه الحدث السياسي والعسكري والديني والاقتصادي والاجتماعي. صحيح أنّ هناك علاقات وطيدة بين فلسطين، كمنطقة جغرافية وسائر مناطق البلاد السورية التي شكلت قطرًا واحدا، إلا أن لفلسطين نكهة خاصة ومكانة خاصة لدى كاتب الرواية، ولدينا نحن بدون أدنى شك. والسؤال المركزي الذي يشغلني من مدة طويلة، من منطلق كوني أكتب نصوصا تاريخية: هل يمكن أن تكون الرواية بديلاً للنص التاريخي؟ وهل يمكن للرواية أن تساهم في إعادة بناء الذات والجماعة العربية، بعد مسلسلات الهزائم والنكبسات (النكبة والنكسة)، التي حلت على وطننا والعالم العربي في القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين؟ لماذا الرواية التاريخية؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة. 
في العودة إلى التاريخ والبحث عن أجوبة لأسئلة الحاضر، نحن نبحث في عصرنا/ في أيامنا عن صلاح الدين الأيوبي البطل. نريد صلاح دين جديد ينقذنا من الجحيم الذي نحن فيه، هل تُنبت لنا أرضُنا الطيبة صلاح الدين جديدًا؟ لاحظت من خلال قراءتي، أنّ الكاتب الروائي يميل في مواقع عدة، لأنّ يكون مؤرّخا أو كاتبا لمشاهد تاريخية بأدوات مؤرخ، وليس راويا لرواية. وأنا برأيي أن هذا لا يُنقص من أهمية النص، إنما يرفده بمزيد من الحقائق. قد يقول آخرون إنّ النص الروائي يجب أن يكون منزّهًا عن النص التاريخي ويبتعد عنه. وهذا تيار آخر جدير بالاحترام.
في سياق آخر مرتبط بالأماكن المذكورة في الرواية وهي كثيرة، ولكني أحببت الربط بين القاهرة وعكا. هذا الربط يعطي للمكان الفلسطيني أهمية وامتدادا طبيعيا في العالم العربي والإسلامي. أين عكا من القاهرة؟ تبلغ عكا من العمر حوالي خمسة آلاف سنة، في حين أن القاهرة تبلغ ألف عام ونيف. ولكن الجمع بينهما يقوّي ويُعزز تلك العلاقة التي تتجاوز الزمن والأعمار. ونحن كفلسطينيين نحب الأمكنة  ونتمسك بها، لأننا عشنا خبرات اقتلاعية عن أمكنتنا التي نحب، وإن كانت الأحداث بعيدة زمنيا، لكنها حاضرة في كل لحظة نعيشها ونتعايش معها.
لفتت نظري في الرواية الطريقة التي تم فيها عرض شخصية قراقوش وأحكامه الغريبة والعجيبة، حتى صار مضرب الأمثال إلى يومنا هذا. ونوادر قراقوش كثيرة، وعلاقة قراقوش مع عكا، وحبّ أهل عكا له بعكس أهل القاهرة الذين رأوا فيه حاكمًا ظالما. صورة أهل عكا الذين أظهروا استعدادًا كبيرًا لتنفيذ كل ما طلبه منهم قراقوش، وهذه صفة يتحلى بها العكيون وكافة أبناء شعبنا. يا اخي نحن نحب الصبر وعقدنا معه تحالفا إلى الأبد.
يتطرق الروائي إلى مسألة لفتت نظري وهي لقاء الحضارات، خصوصا وأن موضوع الرواية يرتبط بالفترة التي غزت فيها جحافل الفرنجة وطننا العربي، وبخاصة أرضنا الطيبة فلسطين.  لقاء حضارات  وثقافات مثل حكام صقلية ومدن الأندلس والعرب والمسلمين، يميز تلك الفترة في هندسة الواقع والتطلع نحو المستقبل. نحن تاريخيا لسنا شعب جزيرة أو منعزلات. نحن شعب يحب الحياة والانفتاح، وليس صدفة أن يستفيض الروائي في مغازلة البحر، وما يحمله من أسرار وغيبيات وشوق وحنين وحلم لدى الروائي، وأبناء شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية القريب من البحر كلمسة اليد، ولكنه محروم بفعل غطرسة وهيمنة ظالم يعتقد أن البحر له، ولكن البحرَ لنا منذ فجر التاريخ. وهنا يبرز دور عكا في ثقافة البحر الغنية بالأمثال الشعبية، "يا خوف عكا من هدير البحر"، والأغاني (لو باعوا البحر ما ببيعك يا عكا...)، والصيد والمصطلحات التي لا يعرفها إلا أبناء البحر، يحلفون بغربتهم إذا تركوا عكا. عكا عالم قائم بذاته. عكا: مشهد صمود وسقوط. هذه المدينة مستهدفة على الدوام. لماذا جاء نابليون ليحتلها في 1799؟ انتقامًا لما أوقعه العكيون وجيوش العرب والمسلمين بالفرنجة من هزيمة، بل هزائم قبل قرون طويلة... لكن عكا صامدة وستصمد وتقهر كل الغزاة.
يوفر لنا د. عوض تفاصيل كثيرة ومتشعبة عن عكا وساحلها، ومشهدية القتال بين العرب والمسلمين من جهة، وبين الفرنجة الغزاة من جهة أخرى، حتى ليعتقد القارئ أنه يعيش شريطا مصوّرا، تم تصويره في بث حي في ذاك الزمن. وأنا أفهم وأثمن هذا الانحياز "العوضي" لعكا، أليست عكا محبوبتنا نحن؟ أليست لهذه المدينة نكهة خاصة لدينا؟ أليست فيها رائحة جاذبة؟ شوق عوض هو شوقنا إلى المدينة الفلسطينية التي تم تدميرها في 1948، عام النحس والنكبة الذي خسرنا فيه يافا الجميلة عطر الليمون، وحيفا الكرملية عطر الصنوبر وعروس الكرمل والبحر، وصفد الشامخة، وطبريا العجائب، والرملة الأموية، وبيسان الذكريات. بقيت لنا عكا، فلنتمسك بها ونمنع أي صفقة بيع فيها كما حصل قبل أسابيع في محاولات بيع خان العمدان، وعدد من بيوت ومباني عكا التاريخية.
وأخيرًا، أنا على الصعيد الشخصي استمتعت بقراءة الرواية، إنها رواية تتكلم معي ومع احتياجاتي كإنسان أولا وفلسطيني ثانيا، وأتعامل مع النصوص التاريخية. أشكر لأحمد عوض ما قدمه ويقدمه من أعمال أدبية وإعلامية وتضحيات، تنصبّ كلها في خدمة قضية إنسانية، هي قضية شعب وأرض  وكرامة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق