عام 1979 عندما قامت ثورة الخميني هلل كثير من المسلمين واستبشروا بهذه الثورة التي أطاحت بشاه إيران الذي كان حليفاً لعدونا إسرائيل وشرطياً نتناً بيد أمريكا وفزاعة يخوفنا بها الغرب كلما أردنا أن ننعتق من قمقمها، ولكن الخميني ما لبث أن كشّر عن أنيابه ونزع قفازيه عن مخالبه وخلع قناعه ليظهر على حقيقته دراكولا العصر وفرانكشتين الزمان وواحداً من أشرس مصاصي الدماء.
كنا نظن أن الغرب صنع دويلة إسرائيل لتكون سداً مانعاً يحول دون تقدم العرب ونمو بلدانهم واتحاد كلمتهم حتى أتانا عدواً من لون جديد تمثل في الثورة الخمينية التي رفعت شعارات (الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. ثورة على الاستكبار العالمي.. ثورة لنصرة المستضعفين والمهمشين في الأرض)، وانطلت هذه الشعارات الزائفة على كثير من شعوب المنطقة والعالم، وراح الكثيرون يخطبون ود الخميني والتقرب منه، وفي مقدمة هذه الشعوب.. الشعوب العربية التي كانت تتقلب على جمر حكام طغاة يسمونها سوء الضنك والفاقة والتخلف والعذاب، متطلعين إلى إيران الخميني؛ يحدوهم الأمل في أن تمد يد العون لهم للتخلص من حكامهم الجائرين، ولكن الثورة الخمينية كانت في واد والشعوب العربية في واد آخر.. هي تخطط ونحن نحلم.. هي تمكر ونحن نستبشر.. هي تنفث الحقد والشر ونحن نبتسم ونهلل.. هي تعد أجندة ومخططات ونحن نتفنن بتقديم باقات الورود والابتسامات!!
وتبين لنا في قابل الأيام أن مشروع ثورة الخميني يتجاوز في خطره المشروع الصهيوني بوصفه تهديدا يقيم معسكره في قلب الوجود الداخلي للأمة. ينازعها عناوينها وقضاياها، ويزاود عليها في أهدافها ومطالبها. وإذا كان المشروع الصهيوني قد استهدف منذ البداية وجود الأمة في بقعة محددة من أرضها؛ أرادها الغرب بؤرة سيطرة ونفوذ، فإن مشروع الثورة الخمينية يعتبر كل قرية أو مسجد على خطوط الطول الإسلامية وعرضها هدفا لمشروعه الذي يريد أن يستبيح من خلاله كل شيء، "التاريخ والجغرافيا والإنسان". حتى وصل الأمر بحسن نصر الله أحد أدواته التي زرعت بعناية في جسد الأمة أن يعترف في لحظة انفعال: أن معركتهم في سورية هي "معركة وجود وثأر" وتجلى كلامه هذا بشعارت أطلقتها مرتزقته التي بعث بها إلى سورية لإنقاذ الأسد وإطالة عمره، والمشاركة في قتل السوريين تحت شعار (يا لثارات الحسين.. لبيك يا زينب).
والمخيف والمرعب أنه لا يزال هناك الكثير من أبناء الأمة لا يريدون أن يسمعوا أو يعلموا ان المعركة الوجودية التي أشار إليها حسن نصر الله في سورية هي نفسها معركتهم في العراق ومعركتهم في لبنان ومعركتهم في البحرين ومعركتهم في اليمن ومعركتهم في ساحة الحرم عند الحجر الأسود ومعركتهم في قلب المسجد النبوي ومعركتهم في القاهرة ومعركتهم في الخرطوم ومعركتهم في تونس ومعركتهم في الجزائر وشنقيط والدار البيضاء وأندونيسيا وباكستان وأفغانستان وماليزيا وفي كل مكان يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد وترتفع فيه منارات التوحيد.
ونكتشف متأخرين حجم التغلغل الذي حققته ثورة الخميني على المستويات الدولية والإقليمية، وحجم النصر الذي أحرزته في الكثير من أقطار المسلمين ولاسيما في العراق ولبنان والشام والبحرين واليمن ولا تزال المسيرة في بدايتها وما زال الجاهلون في الحق يمارون ويكابرون.
ورثة الثورة الخمينية القائمون على الأمر اليوم في طهران كانوا تلاميذ نجباء للخميني بل تفوقوا عليه مكراً وحقداً وخديعة وغدرا، فقد كانوا كالأخطبوط لا حدود تحول دون الوصول إلى ما يريدون الوصول إليه، فكل عواصم العرب ميادين لقذاراتهم وأحقادهم يحركون بيادقهم التي زرعوها في جسد الأمة في غفلة من أصحابها ولهو وجهل ولا مبالاة من حكامها؛ ليعيثوا فيها فساداً وخرابا وتدميرا، ولعل ما يحدث في اليمن في هذه الأيام من تطاول وتحد للدولة وللمجتمع اليمني من قبل مجموعة الحوثي التي تربت في قم على الأحقاد والإفك والدسائس والمؤامرات، مستغلة حال اليمن الخارج للتو من براثن ديكتاتورية بغيضة لم يتمكن من استكمال الانعتاق من قمقمها؛ ليجد نفسه في مواجهة عصابة منظمة تديرها حفنة من أصحاب العقول التي تجيد الخداع والغدر والمراوغة، وقد غسل أدمغتها أهل العمائم السود في قم وجردوها من كل القيم والأخلاق التي عرفت عن أهل اليمن أصحاب الحكمة والبصيرة، وأعدها وجهزها أصحاب البساطير العسكرية في طهران بالعتاد والسلاح الذي مكنها من التفوق على بقايا الجيش اليمني المتفكك، حتى غدت صنعاء العاصمة أسيرة بيدهم بعد اجتياحها والسيطرة على كافة مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والسياسية والإعلامية فيها، وهذا ما دفع عضو البرلمان الإيراني علي رضا زاكاني؛ الذي لم يستطع كتم فرحته وتشفيه بكل الذي حصل بصنعاء قائلا: إن "ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الإسلامية"، مشيرا إلى أن صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية.
وتابع زاكاني بأنه قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان هناك تياران أساسيان يشكلان المحور الأمريكي في المنطقة، "هما الإسلام السعودي والعلمانية التركية، ولكن بعد نجاح الثورة الإيرانية تغيرت المعادلة السياسية في المنطقة لصالح إيران، ونحن اليوم في ذروة قوتنا نفرض إرادتنا ومصلحتنا الاستراتيجية على الجميع في المنطقة".
وأشار إلى أن منطقة الشرق الأوسط تتجه الآن إلى تشكيل قطبين أساسيين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من العرب، والثاني بقيادة إيران والدول التي انخرطت في مشروع الثورة الإيرانية.
وهكذا بات أهل الحكم في صنعاء في مرمى نيرانهم، وآل الأمر إلى فرضهم اتفاقاً مذلاً مع الحكومة اليمنية أرغم رئيسها على التوقيع على ما جاء في الاتفاق، الذي أعطى للحوثيين مكاسب تعلو على مكانة الدولة والحكومة والمجتمع اليمني، حتى بات الجميع أسيراً لما تريده هذه الجماعة الخارجة على إجماع أهل اليمن ومصالح اليمن السيادية، وفي الوقت نفسه لا نسمع من حكام العرب إلا جعجعة وتنديداً دون أي فعل على الأرض، يغير من المعادلة التي فرضتها إيران علينا، أو يوقف زحفها نحو عواصمهم؛ التي تنتظر دورها لتفعل فيها البندقية الإيرانية ما تفعله في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وقد أحسن التشخيص إبراهيم اليازجي عندما قال:
ألفتم الهون حتى صار عندكم .. طبعاً وبعض طباع المرء مكتسب
وفارقتكم لطول الذل نخوتكم .. فليس يؤلمكم خسف ولا عطب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق