الأختان البديعتان ريحان وفايا يونان تتوِّجان قلوبَ الأوطان بأصفى دموع الحنين/ صبري يوسف

ولدت فكرة أداء مجموعة أغاني للمبدعة ذات الصَّوت الملائكي السَّيدة فيروز، رسولة السَّلام في العالم، لدى كل من الصّحافية الرَّهيفة ريحان يونان وأختها المغنّية المتألِّقة فايا يونان، فخطَّطتا ببراعة فائقة على تنفيذ هذه الفكرة الحواريّة المدهشة لإخراجها بطريقة إنسيابيّة إلى النُّور، وقد تناولت الفكرة أشد المواضيع دقّة وأهمِّيّة في عالم الشَّرق المسترخي فوق أجيج النّار من كلِّ الجِّهات، كوارث متفاقمة ومترصرصة فوق رقاب البلاد والعباد، فلم تجد فايا وريحان أمام هذا الهول المستشري في بلادٍ معرَّشة في أوج الحضارات، أجدى من البحث عن مرامي السَّلام  والتَّحليق عالياً كأسراب الحمام فوق هامة هذه الأوطان المنكوبة من خلال مناجاة روح الوطن منبع الحرف الأوّل، والتَّشريع الأوَّل ومنبع أولى ملاحم الكون، عبر أربع أغانٍ من أغاني فيروز الَّتي غنَّتها للشام وبغداد وبيروت والقدس. 
اختارت الفنّانة البديعة فايا، "قرأتُ مجدك، بغداد، لبيروت، وزهرة المدائن!"، اختيارٌ موفَّق في الغناء وفي النّص الَّذي قدّمته ريحان، وتُعتبر هذه التَّجربة من التَّجارب الرَّائدة في تقديم نصٍّ تحليلي يعكس فهماً عميقاً لما يُحاك في هذه المدائن من خراب ودمارٍ وإقتتالٍ مريع من أطرافٍ متصارعة ومتحاربة من كل حدبٍ وصوب، فتمزّقت الأوطان إرباً من تفاقمِ تشظّيات جنون الصَّولجان، فراحت تركَّز فايا وريحان بشكلٍ  راقٍ على مواجهة كل هذا الدَّمار عبر أغانٍ جانحةٍ نحو أبجديات السَّلام على مساحات جغرافيّة المكان، السَّلام الَّذي أشتغل في رحابه منذ سنين، ممّا دعاني إلى تأسيس مجلّة السَّلام العالميّة، وأخاطب عبر مبدعيها والمشاركين فيها في رفع راية السَّلام عالياً في كلِّ بقاع الدُّنيا، فها أنا أرى فايا وريحان باقتا فرحٍ ترفرفان بكلِّ شموخٍ فوق أجنحة الوطن ترفعان راية السَّلام وأغصان الزّيتون تعانق هديل الحمام!
تألَّقت فايا وهم تغنّي "شآم"، بعد أنْ قدّمت ريحان تكثيفاً معبِّراً لما حلَّ بالوطن من دمارٍ مُشين على مدى سنوات، مذهولةٌ من كلِّ هذا الدَّمار الماحقِ في خاصراتِ الأوطان، وكأنَّ لغة الحكمة والحوار انقرضتا من أبجديات الحياة، زمنٌ مبرقعٌ بشراهاتِ خوضِ الحروب، فتهدّلت أخلاقيات قرونٍ من الزَّمان، حضور مدهش وتقديم أخّاذ يلخِّص جنون الشرق والغرب على حدٍّ سواء لما يُحاك من دمارٍ في أوطان من أعرق وأجمل الأوطان، سوريا مهد الحضارات وأم الإبداع، تزداد اشتعالاً وفتكاً وخراباً، شعرتُ وأنا أسمع كلَّ كلمةٍ تتلوها ريحان، كأنِّي أمام حالة إنسانيّة بديعة، قامة صحافيّة مضمّخة بحروف راقية في توجّهات أفكارها الخلاقة من خلال وقوفها مع فايا ذات الصَّوت الشّامخ في وجه كلّ هذا الدَّمار الَّذي خيّم على خدود الأوطان، ووقفتا بكلِّ صلابة وبهاء في وجه طغاة الكون وفي وجه كلّ الَّذين خرّبوا جمال وروعة الأوطان وحوَّلوها إلى خرائب تعشِّش فيها نعيق البوم ومخلّفات وحشة سوادِ الغُربان! 
فايا يونان، صوتٌ مبلسم بأشهى رحيق الإبداع، كأنّه مبلَّلٌ بأحلامِ طفولةٍ مخضّبةٍ باخضرارِ السَّنابل، مبهرة في بهائها وحضورها وصوتها الفيروزي المكتنز بإنسيابيّة دافئة، كأنّه شلال فرحٍ منبثقٍ من شموخِ الجِّبال المرتكزة على أسِّ الحضارات، عينان ناضحتان بحبور السَّلام والوئام، ممزوجتان بألمٍ وجراحٍ غائرة في أعماقِ مرافئ الرَّوح، توّاقتان لأغصان الزَّيتون المرفرفة في أوجِ بهاء زرقةِ السَّماء. 
تسمو فايا عالياً بصوتها المنساب ببهجة الإبتهال، وكأنَّها تناجي شموخ حضارة ساطعة هناك منذ آلاف السِّنين، ومذهولة بهذا الإنشراخِ المريعِ الّذي خلخل أجنحة الوطن من كلِّ الجِّهات. صوتٌ فيروزي معبّقٌ باخضرار سنابل الشَّمال، شمال الرُّوح والوطن المصلوب على مرآى من جفون العالم، فايا ابنة ديريك المجبولة بطين المحبّة، ابنة الأستاذ المهندس جان يونان، حيث طموحات عناق هلالات السَّماء تراوده منذ زمنٍ بعيد، ابنة الأستاذة ليلى جرجيس جمعة، رحلةٌ بحثٍ طويلة عن أريج هذه التَّجليات، جان وليلى يهديان لنا فايا غيمة مكلّلة بالمطر وريحان بيلسان معبّق بأغصان الزّيتون المرفرفة فوق جبين الوطن!
بغداد، تؤدّي فايا العنوان بألف ممدودة على مساحات الحنين، بصوتٍ ترتعش له الرُّوح، ثمَّ تبدأ ريحان بإستعراض جحيم البلاد المتحرّرة من أعتى الدِّيكتاتوريات، فلا تجد بعد التَّحرير سوى هولاً على هولٍ، وقمعاً وإقصاءاً وإنحداراً نحو مستنقعات لا تخطر على بال، تهجيرٌ وقتلٌ وإنقسامٌ وافتراسٌ أكثر وحشيّةً من أنيابٍ الضَّواري، مستهجنةً وقائع التّحرير لما آلت إليه الأوطان من دمارٍ ما بعده دمار، وكأنّها في إنتظار حمورابي أوِّل مشرّع منذ آلاف السّنين، كي يبثَّ روح تشريع أرقى القوانين في رحابِ بابل وآشور وسومر وأكّاد، متسائلةً، العراق بلد الحضارات، لماذا تغوص في دهاليزَ الجَّحيم، أين أنتَ يا سركون الأكّادي كي ترى ما أراه الآن؟!  
تتدفَّقُ فايا حضوراً ساطعاً كحنين خيوط الشَّمس وهي تناجي بغداد، كأنّها تتساءل في أعماقِ تجلِّياتها  أينَ أنتَ يا جلجامش كي تنقذ البلاد من جحيمِ الويلات، أين أنتَ كي تقدِّم لأمِّ الحضارات عشبة الخلاص في صباحٍ باكر مندَّى برحيق هلالاتِ نسيمِ الإنتعاش؟!
تزهو فايا وهي تغنِّي "لبيروت من قلبي سلام"، بكلِّ شموخٍ وفي أوجِ تجلِّياتها، بعد أن تستعرض ريحان جنون الحروب عبر عقودٍ من الزّمان، مندهشةً من استمراريّة جنون الحرب في أرض الجَّمال، في أرضٍ صدحَ فيها صوت فيروز مبدعة المبدعات على امتداد سنوات الحرب، كيف تتحمَّل بيروت كل هذه الجّراح المتهاطلة فوق هامات الجِّبال، فتدمع مآقي فيروز أسىً من تفاقمات جنون هذا الزَّمان؟! 
ينساب صوت مايا كأنّه تدفُّقاتُ حنينِ الرّوح لمناجاة أرواحنا المشرئبة في تشظِّيات الأنين، ألقٌ يزدادُ شموخاً كأشجار الأرز، صوتٌ مرسل من لدنِ زرقة السَّماء، يمنح قلوبَ الحزانى بَلْسماً شافٍ لإنعاش أنين القلب واشتعال الرُّوح من لظى هدير الطُّوفان، صوتٌ يتماهى مع آهاتٍ منبعثة من هياكل المعابد القديمة، كي تخفِّف من تفاقماتِ جراح الرُّوح، وتعيد بسمة الطُّفولة إلى ربوع لبنان في هذا الزَّمن الأحمق! 
فايا زهرة الزّهرات غنّت لزهرة المدائن، في منتهى الرَّوعة، وأدّتها بطريقة فيروزيّة راقية، بعد أن ولجت ريحان عميقاً في تلاشي جغرافيّة المكان، فأصبحت الأوطان هلاميّة الكيان، تشتعل ليل نهار، فتعبر فايا في قلب مدينة السَّلام صادحةً "عيوننا ترحل إليكِ كلّ يوم"، إنسجام بديع في توازي تجلِّيات صحفية بارعة مع صوتٍ يناجي براري الرُّوح العطشى لأجنحة اليمام. تراقصت روحي فرحاً وإنسابت عيناي دمعاً من بهجة شهقات الحنين، شعرتُ وأنا أسمعها كأنَّها تحلِّق في سماوات الوطن بجناحين مضمّخين بأرقى تجلِّيات الإبتهال، كأنّها تقول لكلِّ هؤلاء الَّذين أدّوا بالبلاد إلى كلِّ هذا الخراب وجنون العبور في أتون الحرب والاقتتال، لِمَ كل هذا الإنحدار نحو شراهات الدَّمار وإندلاعِ شفيرِ الغباءِ نحو أجيجِ النّارِ؟!
استهواني أن أتوقَّف مليَّاً عند هذه التّجربة الفنيّة الفكريّة الرَّائدة، لما تتضمّن من جنوحٍ كبير نحو هلالات السَّلام، هذا الجُّنوح الَّذي أشتغل عليه منذ سنوات وسنوات، فأحببت أن أرسم تقاطعات حنين الرُّوح إلى هكذا جنوح بديع نحو آفاق السَّلام والحبّ والفرح، لأنَّ الوطن يحتاج لهذا الجّنوح الخلاق نحو مرافئ السَّلام، ترفرف فوق ترابه كل الآمال والقلوب الجّانحة نحو بسمة الأطفال وهم يرفعون الحمائم كي ترفرف عالياً فوق قبّة الوطن!

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرِّر مجلّة السَّلام

هوامش:
لبلادي، أغاني فيروزيّة ونصوص مكثَّفة بتحليل دقيق، غنّتها الشَّابّة المبدعة في ألقها وتألّقها الفنّانة فايا يونان، وقدّمت التَّعليقات أختها الصّحافية الرّهيفة ريحان يونان في ستوديو الفنّان جورج هيرابيديان في ستوكهولم، وتمّ نشر العمل بنجاح كبير عبر اليوتيوب خلال ثماني دقائق وبضع ثوانٍ. 
شارك في العمل كل من:
فكرة وتنفيذ فايا يونان وريحان يونان.
نص وتقديم: ريحان يونان
غناء فايا يونان
عزف وتوزيع رنا طوراني
تصوير نادين جزار 
مونتاج سامر وسطين
مساعد عام فؤاد يغمور

الأغاني للفنانة المبدعة السيّدة فيروز رسولة السَّلام في العالم،
قرأت مجدك، كلمات سعد عقل، ألحان الأخوين الرّحباني. بغداد، كلمات وألحان الأخوين الرّحباني، لبيروت، كلمات جوزيف حرب، ألحان يواخين روديغو، زهرة المدائن، كلمات وألحان الأخوين الرّحباني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق