اللاقرار الفلسطيني/ نقولا ناصر

(التطورات الايجابية لصالح القضية الوطنية الفلسطينية على الصعيد الدولي ما زالت تفتقد قرارا فلسطينيا على الأرض يردفها ويطورها، لكن "اللاقرار" ما زال يحكم صانع القرار الفلسطيني)

في الخامس عشر من الشهر الجاري، قال وزير الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي موشى يعلون (إسرائيل هايوم) إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس "شريك لإدارة الصراع" وليس شريكا للسلام. والبيان الختامي للدورة العادية الرابعة عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح يوم الإثنين الماضي لا يترك للمراقب مجالا لغير الاستنتاج بأن يعلون لم يجانبه الصواب، إذ لم تتمخض ثلاثة أيام من انعقاد المجلس عن أي منعطف سياسي حقيقي، بل أكدت استمرارية استراتيجية يكاد يوجد إجماع وطني وشعبي على الإسراع في الافتراق عنها.

فخلاصة التفويض الذي منحه المجلس لعباس يفوضه عمليا بالاستمرار في "إدارة الصراع" مع الاحتلال، في ما يوصف بأنه "اشتباك سياسي" ساحته دولية، بينما ما يزال واقع استفحال الاحتلال على الأرض، وأرض القدس بخاصة، ينتظر قيادة تقود مقاومة الاحتلال لا إدارة الصراع معه بعيدا عن الأرض التي يدور فوقها الصراع الحقيقي.

و"اللاقرار" و"إدارة الصراع" ليسا ظاهرة فلسطينية فقط بل دولية كذلك، فمجلس الشيوخ الإيرلندي ومجلس العموم البريطاني والسويد وغيرهم "يعترفون" بدولة فلسطين لكنهم لا "يلزمون" دولهم بهذا الاعتراف ليظل اعترافهم مثل اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو فيها مجرد تطور ايجابي يمنح أملا خادعا للشعب الفلسطيني لا يغير شيئا في واقعه تحت الاحتلال أو في واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

فالتطورات الايجابية لصالح القضية الوطنية الفلسطينية على الصعيد الدولي ما زالت تفتقد قرارا فلسطينيا على الأرض يردفها ويطورها، لكن "اللاقرار" ما زال يحكم صانع القرار الفلسطيني.

ويستحيل اتهام عباس وقيادت فتح بأنهم لا يدركون هذا الواقع. فبيان المجلس الثوري صدر عن دورة عنوانها "شهداء العدوان"، وشعارها "حماية الأقصى" و"إنجاز الاستقلال" وكلاهما مهمة استراتيجية تقتضي المقاومة لا "إدارة الصراع".

ووصف البيان الاحتلال بارتكاب "العدوان الوحشي" و"القتل الجماعي" و"التدمير الشامل" و"الحرب الشاملة"، وبأنه "جاوز أي قيم بشرية"، و"يحاكي الطريقة النازية"، وقال إن دولة الاحتلال تواصل "مخططاتها على الأرض" التي "تتجاوز عملية السلام" عبر "آلية إدارة الصراع" من خلال مفاوضات يدفع "الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي ثمنا كبيرا لاستمرارها دون نتائج".

وهذه جميعها مقدمات تقتضي بالتأكيد قرارا استراتيجيا يختلف عما خرج به المجلس الثوري لحركة فتح من تأييد استمرار الرئيس عباس في خطته لطرق أبواب مجتمع دولي يعرفون جميعهم بأن أبوابه موصدة ومفتاحها موجود في يد أميركية لم يسعفهم الرهان عليها طيلة السنوات الماضية، قرار لم تتخذه فتح بعد، ب"ثورة" تمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه المشروع، قانونا وشرعا وأخلاقيا وإنسانيا وسياسيا، في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل والأشكال، على اتساع الوطن والشعب، لا في "إدارة الصراع" معه.

ولم ترد كلمة "المقاومة" في البيان إلا في سياق سلبي وصفي تقريري، عندما حيا "المقاومة الشعبية" في القدس، وكبر "السلوك الوطني" في "مقاومة العدوان" الأخير على قطاع غزة، وطالب الدول العربية والإسلامية ب"دعم قدرة الفلسطينيين على ... المقاومة" التي لا تتوقف فتح وقياداتها عن التعهد بعدم خروجها على شروط اتفاق أوسلو التي أفرغتها من مضمونها.

لكن هذه المقدمات لم تقد مجلس فتح "الثوري" إلى الخروج ببيان يعلن فيه الثورة على الاحتلال ومقاومته، بل ببيان يفوض اللجنة المركزية للحركة بالاستمرار في استراتيجية لا يمكن وصفها في أفضل الأحوال إلا بكونها استراتيجية ل"إدارة صراع" يدعي يعلون أن عباس "شريك" فيها، أي أن "اللاقرار" كان هو القرار الذي اتخذته فتح.

ولا يمكن كذلك اتهام عباس وقيادات فتح بالبعد عن النبض الوطني الشعبي. فبيانهم، على سبيل المثال، أشاد "بالتعاطي الشعبي إلى مقاطعة منتجات الاحتلال"، لكنه استنكف عن دعم هذا "التعاطي الشعبي" بدعوة قاطعة إلى إلغاء كل التوكيلات والتراخيص الممنوحة لهذا الغرض من حكومة ووزارات "السلطة الفلسطينية" لاستيراد تلك المنتجات وتوزيعها فلسطينيا.

ودعوة البيان إلى "تطوير هبة القدس" الشعبية "بكافة السبل الممكنة" مثال آخر، لكنها دعوة استنكفت عن دعوة السلطة إلى إصدار أوامر لأجهزتها الأمنية بالتوقف عن عرقلة التواصل الشعبي مع هذه "الهبة" في الضفة الغربية.

وبينما أعلن الرئيس في المجلس أن قيادته "بصدد اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة على الصعيد الدولي" لحماية المسجد الأقصى، وحذر المجلس في بيانه من أن أي إجراءات تتخذها دولة الاحتلال "لفرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى ... ستفجر المنطقة بكاملها"، فإن المجلس بدأ دورته وأنهاها من دون اتخاذ أي قرار ملموس في هذا الصدد.

لكن خير مثال ل"اللاقرار" الذي قرره المجلس الثوري لفتح يتمثل في "تفويض اللجنة المركزية للحركة اتخاذ قرار بالتحلل من اتفاق اوسلو" بما في ذلك "وقف أي علاقة رسمية نتجت عن اتفاق أوسلو وكافة الالتزامات المترتبة عليه".

لقد وصف عضو مركزية فتح نبيل شعث "هذا القرار" بأنه "قرار المواجهة مع الاحتلال"، وذلك سوف يكون صحيحا لو اتخذ مثل هذا القرار فعلا، لكنه ما يزال قرارا في علم الغيب، بالنسبة لحركة فتح في الأقل، ناهيك عن حقيقة أن "المواجهة مع الاحتلال" التي أشار شعث إليها تقتضي مسارا وطنيا مختلفا جذريا لا تبدو في الأفق أي استعدادات أو تحضيرات له أو مؤشرات إليه لا من فتح ولا من قياداتها ولا من فصائل منظمة التحرير المؤتلفة معها.

قال أمين سر المجلس أمين مقبول إن هذا "التفويض هو تفويض بالتوقيت فقط وليس على المبدأ". لكن الحقيقة المرة هي أن المجلس الثوري قد استشعر الرفض الشعبي لاتفاقيات أوسلو التي كانت فتح وقيادتها ملتزمة بها من جانب واحد منذ توقيعها عام 1993، لكنه لم يصدر قرارا ملزما "بالتحلل" منها.

وترك "توقيت" القرار للرئاسة لا يبشر بأي "تحلل" منها في أي مدى منظور، في ضوء استراتيجية "إدارة الصراع" التي ما زالت الرئاسة تمارسها، وفي ضوء "لا قرارات" مماثلة سابقة للمجلس الثوري تُرك القرار فيها للجنة المركزية ورئاستها.

فعلى سبيل المثال قرر المجلس في دورته السابقة ترك توقيت قرار الانضمام إلى المعاهدات والمنظمات الدولية للجنة المركزية ورئيسها، وهما لم يتخذا هذا القرار حتى الآن، ومع أن المجلس في بيان دورته الجديدة أكد أن هذا "قرار سيادي فلسطيني يتوجب الشروع  فيه واستكمال إجراءاته قبل نهاية العام الجاري"، لم يصدر عنه ما يفيد بتحويل الوصف التقريري لهذه الحقيقة إلى قرار ملزم لرئاسة الحركة.

ولا تقتصر تناقضات المجلس في بيانه على ما تقدم، فتحذيره "من أن عدم اضطلاع مجلس الأمن (الدولي) بواجباته تجاه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي سيفتح المجال أمام إعلان نهاية عملية السلام" يتجاهل حقيقة أن ما كان يجري طوال العقدين المنصرمين من الزمن لا يعدو كونه عملية سلام من جانب فلسطيني واحد، مع أن رقص "التانغو" يحتاج إلى راقصين كما يقول المثل الغربي، ناهيك عن حقيقة أن كل "عملية اللاقرار" التي تمارسها فتح وقياداتها إنما تفوض قيادتها بمواصلة رقصها المنفرد، وحقيقة أن كل المؤشرات الصادرة عن هذه القيادة تشير فقط إلى إصرارها على الاستمرار في هذه الرقصة القاتلة وطنيا.

إن الضربات "الجوية" التي يوجهها تحالف "دولي – عربي" بقيادة أميركية إلى "الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا والعراق لم تمنعها حتى الآن من استمرار التوسع والتجنيد والقتال، ولأنها ضربات "من الجو" فحسب توقع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن تستمر حرب التحالف عليها ثلاث سنوات وقال غيره إنها قد تمتد لثلاثين سنة.

والدرس واضح، فالحروب والمعارك تحسم على الأرض لا في الطائرات التي تحلق من محفل دولي إلى آخر، والمحافل الدولية لا تقرر إلا ما تعكسه موازين القوى على الأرض، وعلى الأرض الفلسطينية المحتلة ما زال الاحتلال وحده هو الذي يتخذ قرارات للتنفيذ، وما زال "اللاقرار الفلسطيني" يبحث "على الصعيد الدولي" عما يقرر حسما لن يتحقق على الأرض المحتلة من دون قرار فلسطيني بالعمل فوقها وتحتها وفي سمائها وعلى حدودها ومن جوارها أولا ... وأخيرا.

* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق