انظروا الى هذا الشرق، فماذا ترون؟ ترون أولاً دولة اسرائيل رابضة على ارض فلسطين. وتقول الاسطورة انه قبل وعد بلفور، ومن آلاف السنين، كان الله قد وعد اليهود بهذه الأرض، وقال لهم هذه أرضكم، لكم وحدكم. فأصبحت أرض الميعاد. وتقول الاسطورة أيضاً إن الله قد اختارهم من بين شعوب الارض كلها ليكونوا شعبه الخاص. وعاشت الاسطورة، وصدّقها العالم. وكأن الله يوزع الارض بين الناس! وكأن "إله موسى" ليس إلهنا "الذي يحب جميع البشر"؛ بل إله آخر يحب البعض ولا يحب البعض الآخر. ها قد اغتصبت الصهيونية العالمية العقل في الغرب قبل ان تغتصب الارض في الشرق. وها هي اسرائيل اليوم تستمد قوتها ليس من احتلال الارض في فلسطين بل من احتلال العقل عند صانعي القرار في العالم.
وترون على المقلب الثاني من هذا الشرق صحارى من الفكر المجمّد، وأنظمة يمتلكها حكامها، وعلى مد النظر احزاباً وجبهات وحركات اسلامية متطرفة تقتل الانسان والحضارة باسم الله، وتعتدي على الاسلام. فتظن، للوهلة الاولى، ان الله قد مات وورثته آلهة من الجن، آلهة الكره والقتل والدمار. والقتل بإسم الله ليس حكراً على المسلمين وحدهم. من زمان جاء مسيحيون من الغرب بجيوشهم الى هذا الشرق فقتلوا ودمروا من أجل "استرجاع مملكة الله". وهل للّه مملكة على الارض؟ ألم يقل الله "إن مملكتي ليست من هذا العالم"؟ ولماذا وحده في هذا الشرق من بين بقاع الارض كلها، تقوم دول، ويسحق الانسان ويقتل، باسم الله؟
تعالوا نسأل الله. ولماذا صامت أنت أيها الله؟ لماذا لا تصرخ في وجوه هؤلاء الذين يعتدون عليك ويستعملونك أداة للوصول الى أهدافهم و"درعاً" لحمايتهم من اعدائهم؟ ولماذا "لا تطردهم من الهيكل"؟ ألم تقل "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"؟ "سورة المائدة: الآية 32"
ثلاث عشرة سنة قد مضت منذ الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك. ها قد اصبح عمر الحرب على الارهاب ثلاث عشرة سنة. فماذا حققت هذه الحرب؟ قتلوا بن لادن، فقام "بن لادنيون". وها هي "القاعدة" لا تزال تتربع على عرشها. ضربوا "طالبان"، فأصبحت قوة أكبر. دمروا العراق، فجاء "داعش" وقامت "جبهة النصرة" وظهرت "خراسان". لقد صار للإرهاب دولة. ها قد اصبح الارهاب اكبر تحد للحضارة وللعالم. لقد فشلت استراتيجية الحرب التي اعتمدها الغرب ضد الارهاب فشلاً ذريعاً. ونحن اليوم في حاجة الى استراتيجية ذكية ورؤيا جديدة. رؤيا تغوص في فهم جذور الارهاب ومنابعه، واستراتيجية تحول دون تراكم العوامل والاسباب التي تحوّل هذا الطفل البريء الى انسان متوحش. استراتيجية ذكية تعرف ان القوة العسكرية قد تكون قادرة على تحرير أراض محتلة ولكنها ليست قادرة على تحرير عقول محتلة. وتعرف أيضاً أن الارهاب هو حالة احتلال للعقل قبل ان يكون حالة عنف وعداء. ولذا نحتاج اليوم الى انشاء منظمة خاصة في اشراف الأمم المتحدة لدراسة هذه الظاهرة بعمق لكي نبني هذه الاستراتيجية. ومن العوامل الاكيدة التي أدت الى احتلال العقل هذا، الثقافة الدينية المتطرفة التي تفرزها المدارس السلفية التكفيرية المنتشرة على نطاق واسع من أفغانستان وباكستان الى دول الخليج العربي الى شمال افريقيا. مدارس تدرب العقل على الكره والرفض والقتل بدل ان تدربه على المحبة وصنع المعرفة. مدارس لا تعلم الاسلام السمِح والعظيم، بل تقتل هذا الاسلام وتدمر حضارته. والعامل الثاني هو فشل المجتمع العربي والاسلامي في بناء نظام سياسي يؤمن حقوق الانسان وكرامته. وما نراه من بيئة حاضنة للإرهاب، بيئة من التخلف والتطرف والكراهية، ما هي إلاّ من تداعيات الديكتاتورية السياسية التي حكمت الارض هنا. فالإرهاب هو ابن الديكتاتورية. والعامل الثالث، هو ان هناك شعوراً عميقاً عند شعوب هذا الشرق بان الغرب لم يكن عادلاً في التعامل معها. من فلسطين الى العراق الى أفغانستان هناك حقد كبير. وثمة من يعتقد ان الغرب عندما يلتفت الى الشرق، لا يرى الانسان فيه. كل ما يراه هو اسرائيل، وصحارى شاسعة، ورمالاً ترقد تحتها آبار من النفط.
من أجل هذا كله نحن في حاجة الى بناء جبهات أخرى غير جبهات العسكر في هذه الحرب. ومن أهم هذه الجبهات جبهة التعليم والتربية. إن قوة التربية، على المدى البعيد، لأقوى من القوة العسكرية. وحدها التربية تحرر العقل. وحدها التربية تصنع عقلاً جديداً وتالياً انساناً جديداً. لذا نطالب بفصل التربية عن الدين وبفصلها عن الدولة. ونحتاج الى ائتلاف دولي من نوع آخر، لدعم الثورة العربية من أجل اقتلاع الديكتاتور والعودة الى فصل الدين عن الدولة وإرساء الدولة المدنية، وترسيخ ثقافة العلم. إن الشعوب التي تصر على مزج الدين بالدولة، تصرّ بالفعل على صنع قنبلة نووية ضد نفسها. قنبلة تقتلها هي ولا تقتل أعداءها. ومطلوب من المسلمين ان يهبوا للدفاع عن دينهم الحقيقي - اسلام النبي محمد، رسول الله. ان يهبوا قبل ان يتمكن الارهاب من ذبح هذا الاسلام. لم يعتد احد على الاسلام بقدر ما اعتدى عليه هؤلاء الذين يقتلون باسمه. انها حرب على روح الاسلام وماهيته. ويجب ان يخرج الاسلام من هذه الحرب منتصراً.
بين الديكتاتورية والارهاب يبقى المواطن هنا مسحوقاً، مهمشاً، مسلوب الكرامة. إنها قضية كبيرة. اكبر من ان تكون قضية المسلمين أو قضية المسيحيين أو قضية الاقليات. انها قضية الانسان في هذا الشرق. لذا نقول للمسيحيين ان أكبر خطأ قد تقعون فيه هو ان تردوا على التطرف بالتطرف. نحن لا نريد ان نرى "اخواناً مسيحيين" ضد "اخوان مسلمين". نحن نصر على أن تبقى المسيحية كما أرادها المسيح، رسالة محبة وتسامح. نحن نصرّ على المحبة. نصرّ على محبة المسلمين والعيش معهم. نصّر على أن تبقى المسيحية في عناق أبدي مع الاسلام في هذا الشرق.
ونعود لنسأل مرة ثانية. لماذا لا تتكلم ايها الله؟ "اسمع صوتنا، لا تحجب نظرك عنا". تكلم ايها الله. قل لهم إن القتلة لن يدخلوا ملكوتك، وقل لهم إنك "أكبر" من أن تكون في حاجة الى "جهادهِم" وحروبهم لرفع راية مجدك. فهذه هي "الارض والسماء مملوءتان من مجدك" وهذه هي صلواتنا تردد أبداً "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق