- أبو العتاهية : أَلا ما لِسَيِّدَتي ما لَها
- هؤلاء بين أيدي هؤلاء - الحلقة السابعة -
يقول أبو العتاهية من ( المتقارب) في الخليفة المهدي عند تسنمه عرش الخلافة ، وفي جاريته ( عتبة) ، وكان يعشقها وتبغضه !! :
أَلا مـــا لِسَيِّدَتي مــا لَها **** أَدَلّا فَأَحمِـــــلَ إِذلالَها
وَإِلّا فَفيمَ تَجَنَّت وَمــا **** جَنيتُ سَقى اللَهُ أَطلالَها
أَلا إِنَّ جارِيَةً لِلإِمـــــا *** مِ قَد أُسكِنَ الحُبُّ سِربالَها
مَشَت بَينَ حورٍ قِصارِ الخُطا* تُجاذِبُ في المَشيِ أَكفالَها
وَقَد أَتعَبَ اللَهُ نَفسي بِها ****** وَأَتعَبَ بِاللَومِ عُذّالَها
كَأَنَّ بِعَينَيَّ في حَيثُما ***** سَلَكتُ مِـنَ الأَرضِ تِمثالَها
أَتَتــهُ الخِلافَــــــةُ مُنقادَةً **** لَيـــهِ تُجَــــرِّرُ أَذيــالَها
وَلَــم تَـــكُ تَصلُحُ إِلّا لَـهُ **** وَلَـــم يَــكُ يَصلُـحُ إِلّا لَها
وَلَو رامَها أَحَـــــدٌ غَيرُهُ ***** لَزُلزِلَــتِ الأَرضُ زِلزالَها
وَلَو لَم تُطِعهُ بَناتُ القُلوبِ ***** لَمـــــا قَبِــــلَ اللَهُ أَعمالَها
وَإِنَّ الخَليفَةَ مِـــن بَعضِ لا ***** إِلَيـــهِ لَيُبغِضُ مَــن قالَها
هذه القصيدة الرائعة من البحر المتقارب لشاعر الزهد والمدح العباسي الشهير أبي العتاهية ( 130 - 211 هـ / 747 - 826 م) ، وهوأبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، العنزي (من قبيلة عنزة) بالولاء، ولد في عين التمربين كربلاء والأنبار من أب نبطي يعمل بالحجامة ، ونشأ وترعرع في الكوفة ، كان ماجنا في شبابه ، يبيع الجرار الفخارية ، وانتقل إلى بغداد مع إبراهيم الموصلي ، واتصل بالخلفاء ، وتعلق بعتبة جارية المهدي، ولم ترض به لدمامة وجهه و قباحة منظره - كما أسلفنا - وانقطع عن الشعر فترة ، فحبسه هارون الرشيد في منزل مجهز ، فعاد إليه متنسكاً زاهداً ، شاعر مبدع مكثر، سريع الخاطر، يقول ابن كثير في أحداث سنة إحدى عشرة ومائتبن بـ ( بدايته ونهايته) - الجزء العاشر - : " واسمه: إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أصله من الحجاز، وقد كان تعشق جارية للمهدي اسمها : عتبة، وقد طلبها منه غير مرة ، فإذا سمح له بها لم ترده الجارية، وتقول للخليفة : أتعطيني لرجل ذميم الخلق كان يبيع الجرارفكان يكثر التغزل فيها ، وشاع أمره واشتهر بها، وكان المهدي يفهم ذلك منه ، واتفق في بعض الأحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى، فسمع صوت أبي العتاهية .
فقال بشار لجليسه : أثَّم ههنا أبو العتاهية؟
قال: نعم !
فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها :
ألا ما لسيدتي مالها *** أدلَّت فأجملَ إدلاها
فقال بشار لجليسه : ما رأيت أجسر من هذا .
حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله :
أتته الخلافة منقادة ***** إليه تجررُ أذيالها
فلم تك تصلح إلا له **** ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ** لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب ** لما قبل الله أعمالها
فقال بشار لجليسه : انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا؟
قال : فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره .
قال ابن خلكان : اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لأبي نواس : كم تعمل في اليوم من الشعر؟
قال : بيتا أو بيتين
فقال : لكني أعمل المائة والمائتين :
فقال أبو نواس : لعلك تعمل مثل قولك :
يا عتب مالي ولك *** يا ليتني لم أرك
ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الألف والألفين وأنا أعمل مثل قولي :
من كف ذات حر في زيَّ ذي ذكرٍ *** لها محبان لوطيٌّ وزنَّاء
ولو أردت مثلي لأعجزك الدهر .
قال ابن خلكان : ومن لطيف شعر أبي العتاهية :
إني صبوت إليك حـ *** ـتى صرت من فرط التصابي
يجد الجليس إذا دنــــا **** ريح التصابي في ثيابي
وكان مولده سنة ثلاثين ومائة . وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة
وقيل: ثلاث عشرة ومائتين : . وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد
إن عيشا يكون آخره المو ** ت لعيش معجل التنغيص "
من الروايات السابقة يتبين لنا مدى هيمنة الجواري على قصور الخلافة ، وأعيان المجتمع ، وما لهنّ من جمال وأدب وتأثير سياسي واجتماعي واقتصادي وأدبي !! ، والحقيقة أنّ معظم الخلفاء العباسيين من أمهات أولاد ، أي من جوارٍ قد ولدن أولاداً ، وهذا هو الذي جرّ الأمة إلى الهيمنة التركية الفارسية على مصيرها - أعني الأمة العربية - من بعد ، والوقوع بين أحابيل صراعهما العلني والخفي حتى يومنا ، و لا ننسى أن أولاد الخليفة هارون الرشيد ، المأمون من أم فارسية ( مراجل) ، والمعتصم من أم تركية ( ماردة ) ، أما الأمين المخلوع المقتول الغلماني ، فهو الوحيد من أم عربية هاشمية حرّة ( زبيدة) ، وقد تنبأ الشاعر العبقري دعبل الخزاعي بمصير الأمة بأبيات خالدة حين هجا خلفاء عصره الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ، ودوّنّاها من قبل حين كتبنا سبع حلقات مطولة عن الدعبل !!
ثم تأمل حرية الكلام دون تقيد في مجلس الخلافة ، بل التغزل بجارية للخليفة الإمام ، و أمام الإمام !! ومن الجدير أن نكرر ما قلناه في كتابنا ( تاريخ الحيرة ... الكوفة... الأطوار المبكرة للنجف الأشرف ) بعد أن تأملنا بإمعان ما يثبته المؤرخون القدماء عن الرواة الإخباريين من فترات حكم ملوك الحيرة اللخميين المبالغ فيها حتى السخرية ، وغيرها من الأخبار ، إنهم - أي المؤرخين - ينقلون الأخبار والروايات دون تأمل أو نقد أو تحليل سوى أنهم يدوّنون أخبار عديدة متضاربة ، متناقضة ، متقاطعة من مصادر مختلفة ، ومن بعد أخذوا يتمعنون بالسند ، ويصنفونه إلى ضعيف ، ومقبول ، وحسن ... ولابد من التصنيف معرفة الرجال ، ومدى الثقة بهم ، فألفوا في علم الرجال ، وخصوصاً في المصنفات الفقهية والعقائدية !! إذن بقى تاريخنا بحاجة ماسة إلى الغربلة من الخزعبلات ، وتنقيحه وتصحيح مسيرته العربية والإسلامية والإنسانية .
راجع النص المنقول من ( بداية ونهاية ) ابن كثير ، والرجل نفسه ينقل خبراً عن ابن خلكان ، يقول : " قال ابن خلكان : اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لأبي نواس : كم تعمل في اليوم من الشعر؟
قال : بيتا أو بيتين
فقال : لكني أعمل المائة والمائتين ..."
لم يعقب لا ابن كثير ولا ابن خلكانه على الخبر ، ولا عن مدى صحته ، وكأنه حقيقة ثابتة ، في حين ترك لنا أبو نؤاس شعرأ غزيرا ( ما يقارب اثني عشر ألف بيت ), بالرغم من قصر الفترة التي عاشها في هذه الحياة ،على أغلب ظني بين ( 142- 200 هـ ) ، ولا أميل لأي رواية أخرى ، بينما عاش أبو العتاهية ما بين ( 130 - 211 هـ ) ، وما وصلنا إلا نصف ما ورثناه من النؤاسي ، يقال قد نظم أكثر من ثلاثين ألف بيت في حياته ، ولكن حياته الشعرية أكثر من مرّة ونصف من حياة أبي نؤاس الشعرية ، كيف إذن يراد منا أن نصدق جميع فقرات الرواية ؟!! نعم نقبل بكلّ تأكيد قول بشار: انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا؟ ثم : فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره .
والحق مع البصير بشار ، لا ريب لا تفوته جمالية الأبيات التي تخص الخليفة بخلافته ، بما تتضمن من استعارة مكنية رائعة عن الخلافة حيث شبهها بالعروس ، وحذف المشبه به ، والبيت الذي يليه، المحكم السبك ورد عجزه على صدره ، بما يشبه الجزم الذي لا محالة أنه لصاحبها !! :
فلم تك تصلح إلا لهُ **** ولم يك يصلح إلا لها
ليس هذا فقط ، بل الويل الويل للفتن والدسائس والمؤمرات إن فكرت بها ، وإلا لحلّت القيامة (وزلزلت الأرض زلزالها )
صاحبنا ألحّ في عشقه وتعلقه ومتابعته لهذه الـ (عتب) حتى عتب عليه الخليفة المهدي ، وما اهتدى !! فحبسه ، وقيل ضربه مائة سوط ، ولا نميل لهذا الضرب ، والحق أنها كانت جارية لزوجته الخيزران أم الهادي والرشيد ، ولم يعف عنه المهدي
إلا بشفاعة خاله يزيد بن منصور الحميري بعد أن انتشر أمره عند العامة إلى أن سخروا منه ، ولقبوه بـ ( مخنث بغداد ، ومن شعره قي عتبة الجمال :
كأنها من حسنها درة *** أخرجها اليم إلى الساحل
كأنما فيها وفي طرفها *** سواحر أقبلن من بابل
لم يبق مني حبها ماخلا ****حُشاشة في بدن ناحل
وقوله :
عيني على عتبة منهلةٌ *** بدمعها المنسكب السائل
يا من رأى قبلي قتيلا بكى*من شدة الوجد على القاتل
بسطت كفي نحوكم سائلا ** ماذا تردون على السائل
وهذه الأبيات الأخيرة صورة مشابهة ، بل مستنسخة من قول معاصره أبي نؤاس في جارية أخرى ، ولا ندري من سبق الآخر في المعنى والمبنى ، ولكن عندي النؤاسي كان أطرف وأجمل وأظرف وأملح من شاعرنا ، اقرأ ، والشعر فن وذوق وأخلاق كالسياقة في العراق ، أقوال بلا أعمال !!
أين الجواب ,وأين رد رسائلي *** قالت ستنظر ردها من قابلِ
فمددت كفي ثم قلت تصدقوا ***** قالت نعم بحجارة وجنادلِ
ان كنت مسكينا فجاوز بابنا **** وارجع فمالك عندنا من نائلِ
يا ناهر المسكين عند سؤاله *** الله عاتب في انتهار الســائل
مهما يكن من أمر ، نعود لصاحبنا والعود أحمد ، سيان من يأسه وقنوطه من قطف عتبة الجمال الجاري ، أو حبسه وأكله المقسوم السلطاني من السياط اللاهبة ، أو لأنه أصبح مخنث بغداد في نظر العامة ، تنسك إسماعيلنا ، وتزهد ، وأخذ ينبذ كل الملذات الدنيوية بتعليلات دينية ، تأمل أبياته الآتية :
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ***تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق *** * وليس لي المال الذي أنا تاركه
يحق وإلا استهلكته مهالكه **إذا كنت ذا مال فبادره بالذي ***
إذن الرجل أخذ يضع الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية نصب عينيه عند النظم ، لعل نفسه تعكف عن كلّ لذيذ زائل ، فهذه الأبيات أخذ معناها من الحديث الشريف : " انما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " ، وأخذ ينصح ، ويرشد أصدقاءه المقربين والأبعدين بالكف عن إغراءات دنياهم الكاذبة الخادعة ، أما دنياه هو فما أحلاها باطناً ، وما أزهدها ظاهراً ، لماذا؟ لأن الشاعر الفنان المرهف مجبول على التعلق بكل جميل ولذيذ ، ولو تصنع أبو العتاهية !! ، ففي الوقت الذي وجّه القصيدة التالية إلى صديقه سلم الخاسر يحثّه على عدم الإقبال على أم دفر ومالها ، وما لها !! قائلاً :
تعالى الله يا سلم بن عَمروٍ*** أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا** أليس مصير ذاك إلى الزوال
فما ترجو لشيء ليس يبقى *****وشيكا ما تغيره الليالي
خبرت الناس قِرنا بعد قرنٍ ***** فلم أر غير ختالٍ وقال
(ما لك شغل حبيبي ، هذا كلام جرايد) - مثل ما يقول أهلنا بالعراق الحبيب !!- المرحوم أبو العتاهية كان يخزن ببيته أموال الدنيا ، وبدرها، والبدر أكيلس كانت تحفظ بها الدنانير الذهبية ، ويقال كان عنده سبع وعشرون بدرة ، ولما يُسأل عنها يجيب المستقبل طويل ، وأبو الحاجة أعمى !! بل منع ابنه البزاز الذي يتاجر بالثياب من التزهد .
لهذا كلّه قال سلّم الخاسر - وهذا الخاسر ما عنده لحية مسرّحة - حين سماعه قصيدة صديق شرخ شبابه الماجن من قبل أبي العتاهية -: ويلى على الزنديق، جمع الأموال وكنزها وعبّأ البدر في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقاً . دعنا عن سلّم الخبيث ، نرجع لصاحبنا نفسه ، وماذا يقول عن المال في حكمه ؟!!
هذا شهاب الدين محمود الألوسي يذكر في كتابه ( روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ) موقع التفاسير 3 / 427) هذه الأبيات الشهيرة ، معقباً عليها وقال أبو العتاهية :" :
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى *** وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت **إليه ومال الناس حيث يميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى *** عشية يقري أو غداة ينيل
وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر ، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال "
مدح واضح وجلي للمال ، وتفضيل الغنى ، ولا نزيد ، ففي المزيد تعقيد !! ولكن نقول : اقنع يا أبا العتاهية - رحمك الله - ونذكرك ببيتك الرائع الحكيم :
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ***فكل ما في الأرض لا يغنيكا
يكفينا هذا ويغنينا ، وإلى الحلقة الثانية عن أبي العتاهية ، وهذه المرّة بين يدي الخليفة هارون الرشيد ، ولا مزيد !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق