لم يعد التعاطي مع قضية إقامة القائمة العربية المشتركة ذا فائدة ومعنى، فالقائمة تشكّلت وقُدّمت أوراقها إلى لجنة الانتخابات الإسرائيلية، وأصبحت، لذلك، حقيقةً مؤكدةً وواقعًا.
بالمقابل، يبقى ما يستدرجه هذا الواقع من نقاشات حول مستقبل هذه القائمة، كما سيتشكّل في هذه الأسابيع، هاجسًا يشغل بال كثيرين وقضيّةً يعتبرها البعض مصيريّة بمستوييها، الشخصي، عند قلّة من الناس، والعام، لدى معظم المهتمين والمتابعين.
لن يختلف اثنان على أن وحدة المضطهدين في وجه قامعهم هي غاية الرجاء، وآمن السبل للنجاة والعيش بسلام وبكرامة، وعليه سيكون من نافل القول، التأكيد على أن النقاش مع دعاة توحيد الأحزاب والحركات السياسية العربية والإسلامية، لم يستهدف تلك الوحدة بذاتها، وهي ضرورة كفاحية مرجوّة منذ زمن، بل جاء لينقّيها من زيف دواعيها الطارئة، وما مسّ مسبباتها من حشو ووهم، واعترى أساساتها من وهن، يجب على قادة القائمة معالجتها.
يصرّ البعض على أن تشكيل القائمة المشتركة هو خطوة تاريخية في حياة الجماهير العربية في إسرائيل، وهو بمثابة مقدّمة لثورة ستتمظهر قريبًا، من خلال برامج عمل نضالية جامعة فعّالة، وبوحدة لن تبقى عراها موثوقة بصمغ الحاجة الانتخابية الزائلة، وبما يضمن تحويل الومضة الطارئة، في تاريخ أقليّة مضطهدة، إلى شعلة وقّادة لا تخبو نارها مع هبوب أول نسيم ربيعي، وها آذارنا يهلّل لشباط ويترقب نومته.
من شروط هذا التحوّل أن تتوقف القائمة عن كونها مرآة لقواعدها البشرية المتنوعة، وأن تتصرف كقائدة لهذه الجماهير وبما يتلاءم وكونها أداة صهر جديدة، ستعمل بأساليب مبتكرة، وعليها، في هذه المهمة، أن تبدأ بتفكيك ما ساد في مجتمعاتنا من أنماط عمل حزبية، وقواعد سلوك هيمنت في مرابع الشقاق والنفاق، بعد أن استولت على وجدان أولئك القادة وسرقتهم من مياديننا، لأحايين طويلة، وأشغلتهم بما لم يفد هذه الجماهير ومصالحها.
وعليه، وكما في تجارب أقلّيات قومية أخرى، لن تتحرّر القيادة الموحّدة لهذه القائمة المشتركة من سطوة الماضي وتبايناته القاتلة، ولا من رهبة أتباع كل فريق، كما تربى وتوقّع وانتظر، إلّا إذا تحرر العقل أولًا، وتلاه انعتاق للخطاب واللغة. لن تصير هذه الخطوة ثوريّة، كما يدعوها البعض، إلا اذا اقتنع قادتها بضرورة تبديل "معاجمهم اللفظية" وتقدموا الصفوف بعقول جديدة وقناعة أن الخطب الآتي جلل، والنجاة لن تستقيم إلا اذا توفّرت الحكمة وآختها المسؤولية.
أصدرت القائمة المشتركة، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، عددًا من البيانات، كتب معظمها وفقًا للنمط الذي كان سائدًا قبل الوحدة، وبتلك اللغة التوفيقية التي لا تبشّر بجديد وتنذر بخيبة مَن سعى لأكثر من توصيل بعض محترفي العمل السياسي غير المؤثر، في أحسن أحواله، والمضر في أحيان أخرى، إلى الكنيست الاسرائيلية.
من المنتظر أن تشحن هذه الوحدة قيادات تلك الأحزاب وكوادرها بجرعات من جرأة غاب فعلها في العهود السابقة، وشُلّت، بعدما بسط العجز جناحيه وبهما استظل الصدأ الاجتماعي، وتحتهما فشت الفراطيش السامة وغزت بساتيننا وحقولنا. لم يتبقّ وقت طويل ليوم الحساب ولذلك، على هذه القائمة أن لا تخشى ما خشيته مركباتها في الماضي، وأن تتصدى، دون هوادة وحسابات انتخابية فئوية زائفة، لمفاعيل العنف والعربدة والقتل المتسيّبة في شوارعنا وبيوتنا، وعليها كذلك، أن تعيد البريق "للوطني والكفاحي"، بعيدًا عن المزايدات التي بررتها الفرقة وغذّتها المنافسة، والتي تسببت أحيانًا بإسقاط "الرؤوس" واحتضان "الأذناب"، ليس فقط، كما تجلت تلك الهفوات في انتخابات السلطات المحلية.
تطرق بيان القائمة المشتركة الأخير إلى موبقات "داعش" خاصة بعدما نشر كيف أعدم عناصرها الطيار الأردني. وهناك أكد طاقم القائمة المشتركة الإعلامي "أن هذه الجرائم الوحشية ليست من الإسلام في شيء، بل أنها تؤدي إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتخدم الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية ومشاريع الهيمنة على المنطقة وتغذي العنصرية والتحريض على العرب والمسلمين"، هذا جزء من نص تعويمي، يخلط مجموعة من المسائل الشائكة ولا يوصل للمتلقي موقفًا حادًا وواضحًا، ويفترض أن جميع مصوتي القائمة المشتركة جهلة أو وسطيو الفهم أو عباقرة، وعليهم أن يفهموا كيف من الممكن ربط جميع تلك الشبهات تلقائيًا، أو، ربما لا ضرورة لأن يفهموا! إنها التوفيقية التي سادت في الماضي،ويظهر أنها ما زالت تهيمن على فكر ساسة هذه القائمة، وإلّا، فلماذا لم تصدر الحركة الإسلامية بيانها وتتكلم فيه عن براءة الإسلام من "داعش" وما تقترفه من جرائم باسم الإسلام الذي بالمقابل تباركه كثير من القوى والمرجعيات الإسلامية؟ ولماذا لم تصدر الجبهة بيانها لتدين موبقات داعش بمبرراتها السياسية، غير الدينية، المباشرة، ولماذا لا يصدر التجمع بيانه ليشرح كيف تخدم "داعش" مشاريع الهيمنة على المنطقة وعن أي منطقة يتحدثون؟ قد تكون كل المواقف، في البيان المذكور، حين تأتي مفككة، صحيحة ولكن، مجيئها معبّأةً في علبة واحدة يفسد طعمها ويلغي تأثيرها؛ تمامًا كما تكون كل الخيارات المهادنة التوفيقية والمعوّمة، عبارة عن خلطة لاطعم لها ولا رائحة، وقد تصيبك أحيانًا بالدوار.
في نفس الوقت الذي نشرت فيه القائمة المشتركة بيانها المذكور، وصلني بيان من "الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان"، وفيه أكدت: "انطلاقًا من مبادئها، رفضها المطلق وإدانتها الشديدة للأساليب البربرية الهمجية التي تنتهجها بعض الجماعات المتدثرة بالدين"، فما الضرر لو اكتفت القائمة المشتركة بمثل هذا النص القاطع الواضح، أو شبيه له، وليصدر بعده كل حزب وحركة بيانًا تفصيلًا حول "داعش" وأخواتها وخالاتها وعماتها.
من أنا؟ سأل الشاعر وقال "أنا لغتي أنا.." ولذا، نحن بحاجة إلى معاجم ألفاظ جديدة،إلى لغة جديدة، وخطابات ناطقة عن وحدة بالعمق وليس عن كونفيديراتسيا أحزاب أسيرة ضعفها، فبدون ذلك ستبقى "داعش" مثار خلاف وجذب وستنمو بيننا عناصره وتزداد أعدادها في قرانا، وقائمة العرب تفتّش عن لغة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق