ـ الجزائـــــــرـ
ما أقسـى الظروف عندما لا تكون مواتية ، وما أطول الأيام في المحن، وما أشد وطأة الزمان عند الابتلاء ، وما أعلى الصراخ قدر الألم ، وتلك الأيام نداولها بين الأمم ، منها من صبر وعمل ، ومنها من انكفأ وخذل ، منها من اهتدى بعد ضلالة، ومنها من انساق وراء الفتن ،هذا هو حال الشعوب العربية في وقتنا الراهن ، قليل منها من عرف الشعب طريقه ثم وحد الشعب كفاحه عندما استجاب لاستغاثة النفس ولبى نداء الروح بضرورة الإيمان بحقيقة بصيص الأمل الذي لاح له قدرا ولو كان الدرب إليه طويلا وشاقا ، ومنها صدقت أن تلك الأيام نداولها بين الأمم.
يحدثنا التاريخ قديمه وحديثه أن كل شعوب الأرض ذاقت مرارة الحروب وعانت قسوة الأزمات الطاحنة، ويحدثنا التاريخ نفسه أيضا عن شخصيات برتبة زعماء على درجة الأبطال تجاوزوا ما تقوله الأساطير فعبروا بشعوبهم إلى بر الأمان والسلام ، ولكن يحدثنا كذلك التاريخ عن من أغرقوا بلادهم في مستنقع التخلف وأدخلوا رعاياهم في غياهب الفتن ورموا بأبنائهم داخل ثالوث الجهل والفقر والمرض، وفي كل هذا كان التوفيق لمن استحضر المقولة الشهيرة أنه على قدر العزائم تقوى الهمم .. وعلى قدر الهمة تكون الثقة، وبالثقة تكون الشجاعة، ومن الشجاعة تتواد الإرادة، ثم تكون الكفاءة وهي العامل الهام والحاسم للولوج بأولى الخطوات على سبيل الحل نحو الانفراج، ولكن ليس بالضرورة أن يكون توفر الهمة أساسا ومرادفا دائما للخير فقط فلحزب الشر أنصاره يعقدون العزم أيضا ومع سبق الإصرار والترصد ولكن على الضرر، وانطلاقا من هذا المعنى صنع الإنسان تاريخه الطويل بين صعود وهبوط ، نهضة وكبوة ، صحوة وغفلة ، هزائم وانتصارات ، ومنها كانت تلك الأيام نداولها بين الأمم .
انصرف اعتقاد البسطاء وأنصاف كل شيء في الدنيا إلى أن "الأقدار" تعني "الاستسلام التام" لنتائج ما كان في سابق الزمان وتقبل طبيعة ما يقع مهما كان وما سيكون لاحقا في كل أوان ، وأنه على ذلك يكون الإنسان مسيرا في حياته ، ويغفل هؤلاء أن أكبر نعمة ميز بها الله تعالى الإنسان عن بقية المخلوقات هي العقل ، ففيما نفعه إذن ؟ الإنسان "مخير" في ما يعلم ، و"مسير" في ما لا يعلم ، بمعنى أنه "مخير" بالنسبة للتصرفات التي يملك إزاءها إرادة الفعل أو الامتناع عنه، ولكنه "مسير" بالنسبة للوقائع التي لا يملك معها إرادة تشكيلها أو إبطالها كالميلاد والوفاة والصواعق وسقوط المطر وهبوب الرياح... وإذا كان الفكر في مجتمع ما لم يرتق إلى مستوى هذا الفهم البسيط فقد وضع نفسه في أدنى مرتبة إنسانية في انتظار يوم يستنير فيه بعلم نافع يرتقي به ، لأن معنى إعمال العقل في حياتنا أننا أخذنا بأسباب القوة من وجودنا لأداء رسالة العمران في الأرض ، ومن غفل عن هذه الحقيقة البديهية أستحق عليه القول وتلك الأيام نداولها بين الأمم..
كثير ما تضطرنا الظروف إلى التذكير دوما أن "الالتزام " قيمة كبيرة ومعنى عظيم نغتصبه لحياتنا من وجودنا ، بدونه لا طمأنينة في النفوس لأن لاشيء مضمون ، ولا ثقة في التعامل ، ولا عمل يمكن أن ينجز على أكمل وجه، والحاكم النبيه هو الذي يدرك ذلك جيدا ويعلم أن على قدر التزامه تكون مكانته عند شعبه، وبدونه لا شيء يمكنه أن يدفع الشعب إلى التأسي به وقد أصبح لا يمثل قدوة وبالتالي فلا شيء سيدعو إلى التمسك به زعيما ، المعروف أنه بالأمثلة تتضح المعاني لكن في مقامنا هذا بالعكس فان المعاني واضحة ويبقى على المرء إجراء إسقاط بسيط لتتضح له الأمثلة أي ليكتشف سر سطوع نجم من الزعماء في أشد الظروف قسوة وأفول نجم آخر في أخف الأوضاع عسرا ، لندرك بعدها سر.. وتلك الأيام نداولها بين الأمم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق