هذا المقال، نُشر لي في جريدة "الهيرالد" ـ رسالة لبنان والشرق الأوسط ـ، بتاريخ 28/5/1999.
ولأنه يحمل ذكرياتي، كمصري، عن رجل عظيم، عاصرته، وتعاملت معه، وعن قدرته العسكرية في الضبط والربط؛ رأيت أن أنقله لكم؛ للمقارنة بين ذلك الزمان ، في الستينات من القرن الماضي، وما يحدث الآن على أرض مصر!
اللواء مصطفي النويهي، رحمه الله، يعتبر أقوى شخصية عسكرية عرفتها وزارة الداخلية المصرية في ذلك الوقت. يهابه كل عسكري من الجندي الى أعلى رتبة عسكرية بالوزارة. رجل ضبط وربط وانضباط، ولا يقبل أبداً الخلط بين الحياة المدنية، والحياة العسكرية!
دار لغط كثير في دهاليز المصلحة (مصلحة الأحوال المدنية)، وطرقاتها، عن خبر تعيين اللواء مصطفي النويهي مديراً عاماً للمصلحة!
تلقت الأذن الخبر في دهشة واستغراب؛ لأن المدير الحالي لا يمكن (زحزحته) من مكانه وان لم يرقَ الى منصب المدير، الا أنه له صلاحيات المدير العام كاملة متكاملة!
لم يكْذُب الخبر، وحضر اللواء النويهي، واستلم عمله مديراً عاماً لمصلحة تحمل اسم الأحوال المدنية، ولكنها تتبع لوزارة الداخلية، والمسؤولون فيها من الضباط، ضباط الشرطة العسكريين التي أرادت الوزارة احالتهم على المعاش مبكراً؛ فأسندت اليهم العمل في المصلحة، سواء في المركز الرئيسي، أو أي فرع من فروعها المنتشرة في طول البلاد، وعرضها!
تذمروا فيما بينهم، حتى أكثرهم عسكرية " العقيد فريد سلطان"، كان قد بدأ يستطعم الحياة المدنية، وان كان مازال مرتدياً الزي العسكري!
جاء المدير الجديد؛ فانقلبت المصلحة رأساً على عقب. تكهرب الجو، واضطربت الأعصاب، وساد المكان جو من الرهبة. لا أكذب لو قلت من الرعب والخوف!
في صباح أحد الأيام، نادى علي رئيسي (العقيد محمد نصار خليل)، وطلب مني أن أتوجه الى مكتب سيادة المدير؛ العام لأنه طلبني بالأسم!
حدجته بعيني، متسائلاً عما يمكن ان يريدني فيه سيادته. هزَ كتفيه معبراً عن عدم معرفته. استأذنت منه، وتوجهت الى مكتب سيادة المدير العام!
نقرت على الباب. سمعت صوت قوي يطلب مني الدخول. دخلت على الرجل، فاذ به يقف ماداً يده للمصافحة، مبتسما مرحباً. أسرعت الخطى، ووضعت يدي في يده مصافحاً ومرحباً به مديراً عاماً للمصلحة!
عاد الرجل الى جلسته مستأذناً مني السماح له بدقائق قليلة؛ حتى ينهي العمل الذي بيده!
أثناء ذلك، دخل أحد ضباط المصلحة القدامى، وأدى التحية العسكرية المضبوطة. رفع اللواء مصطفى النويهي يده محيياً رداً على تحية الضابط، لكنه لم يرفع عينيه عن الورق الذي أمامه. استمر الضابط في وقفته العسكرية مدة من الزمن قد تكون بضعة دقائق. لكن الضابط بدأ يتململ في وقفته واسترخى قليلاً، فرفع اللواء النويهي رأسه وتطلع اليه بعين غاضبة. فعاد الضابط المسكين الى وقفته العسكرية!
كل هذا وأنا جالس على كرسي أمام مكتب سيادته، ضارباً أخماساً في أسداس عن عسى ما يريده مني سيادته!
مرت الدقائق، وكأنها ساعات. أنهى سيادته ما كان من عمل، سلمه بعد ذلك للضابط، وأمره بالأنصراف، فانصرف بعد أن أدى التحية العسكرية. لم أرَ مثل هذا المشهد طوال وجودي بالمصلحة!
المهم أن المدير العام تأسف على انتظاري طويلاً في مكتبه، وقال لي:
سأدخل في الموضوع مباشرة. اني أبحث عن موظف كفء، ليتولى مهام سكرتيري الخاص. من دراستي لملفات الموظفين، اخترت أحد الموظفين من خريجي الجامعات، لكنه أعتذر. فوقع اختياري عليك أنت يا بطل.. فما رأيك؟
كانت مفاجأة غير متوقعة اطلاقاً، كل ما سمح به خيالي من تصور هو أنه لربما يريد ارسالي الى مهمة خاصة؛ لأعادة ترتيب أو تنظيم أحد المكاتب في أي مكان في الجمهورية. أما أن أكون سكرتيره الخاص، فهذا أمر لم أكن أتوقع، أو أحلم به!
وجاءت اجابتي، كالأتي:
انه لشرف عظيم جداً يا أفندم أنا لا أستحقه، لكن اذا كان هذا هو اختياركم، فلي طلب بسيط، أرجو أن تفتح لي سيادتكم قلبكم للحديث عنه!
ـ تفضل يا أبني.. تكلم!.
ـ دعني أسأل سيادتكم! اذا تركتم هذا المكان الى مكان وعمل آخر في الوزارة.. هل سأكون مع سيادتكم؟
ـ لا أظن! لكن ما الذي يجعلك تظن انني لن أبقى هنا؟
ـ لأن رجل مثلكم لا مكان له هنا! مكانكم في منصب أدق وأكثر أهمية من هذا المكان. لذا لو سمحت لي أن أقول لسيادتكم أنني أرفض العمل مع من سيأتي من بعدكم، لأنني لن أكون سكرتيره الخاص في المصلحة فقط، وسيادتكم تعرفون وأنا لا أصلح لهذا!.
ساد صمت قصير بيننا، قطعته قائلاً:
ـ لكن يا أفندم عندي الموظف الذي سيبذل قصارى جهده للعمل مع سيادتكم، وأيضاً مع من سيأتي بعدكم! لو سمحتم لي أن أعود الى عملي وأرسله لكم!.
أرسلت له أحد الموظفين الذين يعملون معي، بعد أن أخبرت رئيسي المباشر، بما دار بيننا دون التلميح بمسألة نقل سيادة المدير العام الى مكان أخر. وذلك لحكمة أرتأيتها لأن نظريتي بنيتها على أن هذا الجو العسكري البغيض على نفس كل من يعمل بالمصلحة، سيخلق حالة تذمر شديد بين الضباط زد على ذلك ان القائم بأعمال المدير العام لن يسكت عن هذا الأمر، مهما عينت الوزارة من مدراء.. فما بالنا بمدير مثل اللواء مصطفى النويهي!
في أقل من مدة ستة أشهر مضت على ذلك اللقاء، كنت أسير ضمن طابور المودعين لسيادة المدير العام! وما أن وضعت يدي في يده مصافحاً، حتى شدَ على يدي مما حدا بي أن أضع كف يدي اليسرى فوق يده، مودعاً، مما لا حظه رئيسي المباشر الذي ما أن رآني حتى قال:
ـ أف، الحمد لله، استرحنا منه.
شيء آخر حدث، فقد منحتني المصلحة في ذلك العام وأثناء فترة وجوده (اللواء مصطفى النويهي)، مكافأة مالية على عملي. وكانت المكافأة المالية الوحيدة واليتيمة طيلة خدمتي، التي امتدت الى سبعة عشر عاماً!
ولأنه يحمل ذكرياتي، كمصري، عن رجل عظيم، عاصرته، وتعاملت معه، وعن قدرته العسكرية في الضبط والربط؛ رأيت أن أنقله لكم؛ للمقارنة بين ذلك الزمان ، في الستينات من القرن الماضي، وما يحدث الآن على أرض مصر!
اللواء مصطفي النويهي، رحمه الله، يعتبر أقوى شخصية عسكرية عرفتها وزارة الداخلية المصرية في ذلك الوقت. يهابه كل عسكري من الجندي الى أعلى رتبة عسكرية بالوزارة. رجل ضبط وربط وانضباط، ولا يقبل أبداً الخلط بين الحياة المدنية، والحياة العسكرية!
دار لغط كثير في دهاليز المصلحة (مصلحة الأحوال المدنية)، وطرقاتها، عن خبر تعيين اللواء مصطفي النويهي مديراً عاماً للمصلحة!
تلقت الأذن الخبر في دهشة واستغراب؛ لأن المدير الحالي لا يمكن (زحزحته) من مكانه وان لم يرقَ الى منصب المدير، الا أنه له صلاحيات المدير العام كاملة متكاملة!
لم يكْذُب الخبر، وحضر اللواء النويهي، واستلم عمله مديراً عاماً لمصلحة تحمل اسم الأحوال المدنية، ولكنها تتبع لوزارة الداخلية، والمسؤولون فيها من الضباط، ضباط الشرطة العسكريين التي أرادت الوزارة احالتهم على المعاش مبكراً؛ فأسندت اليهم العمل في المصلحة، سواء في المركز الرئيسي، أو أي فرع من فروعها المنتشرة في طول البلاد، وعرضها!
تذمروا فيما بينهم، حتى أكثرهم عسكرية " العقيد فريد سلطان"، كان قد بدأ يستطعم الحياة المدنية، وان كان مازال مرتدياً الزي العسكري!
جاء المدير الجديد؛ فانقلبت المصلحة رأساً على عقب. تكهرب الجو، واضطربت الأعصاب، وساد المكان جو من الرهبة. لا أكذب لو قلت من الرعب والخوف!
في صباح أحد الأيام، نادى علي رئيسي (العقيد محمد نصار خليل)، وطلب مني أن أتوجه الى مكتب سيادة المدير؛ العام لأنه طلبني بالأسم!
حدجته بعيني، متسائلاً عما يمكن ان يريدني فيه سيادته. هزَ كتفيه معبراً عن عدم معرفته. استأذنت منه، وتوجهت الى مكتب سيادة المدير العام!
نقرت على الباب. سمعت صوت قوي يطلب مني الدخول. دخلت على الرجل، فاذ به يقف ماداً يده للمصافحة، مبتسما مرحباً. أسرعت الخطى، ووضعت يدي في يده مصافحاً ومرحباً به مديراً عاماً للمصلحة!
عاد الرجل الى جلسته مستأذناً مني السماح له بدقائق قليلة؛ حتى ينهي العمل الذي بيده!
أثناء ذلك، دخل أحد ضباط المصلحة القدامى، وأدى التحية العسكرية المضبوطة. رفع اللواء مصطفى النويهي يده محيياً رداً على تحية الضابط، لكنه لم يرفع عينيه عن الورق الذي أمامه. استمر الضابط في وقفته العسكرية مدة من الزمن قد تكون بضعة دقائق. لكن الضابط بدأ يتململ في وقفته واسترخى قليلاً، فرفع اللواء النويهي رأسه وتطلع اليه بعين غاضبة. فعاد الضابط المسكين الى وقفته العسكرية!
كل هذا وأنا جالس على كرسي أمام مكتب سيادته، ضارباً أخماساً في أسداس عن عسى ما يريده مني سيادته!
مرت الدقائق، وكأنها ساعات. أنهى سيادته ما كان من عمل، سلمه بعد ذلك للضابط، وأمره بالأنصراف، فانصرف بعد أن أدى التحية العسكرية. لم أرَ مثل هذا المشهد طوال وجودي بالمصلحة!
المهم أن المدير العام تأسف على انتظاري طويلاً في مكتبه، وقال لي:
سأدخل في الموضوع مباشرة. اني أبحث عن موظف كفء، ليتولى مهام سكرتيري الخاص. من دراستي لملفات الموظفين، اخترت أحد الموظفين من خريجي الجامعات، لكنه أعتذر. فوقع اختياري عليك أنت يا بطل.. فما رأيك؟
كانت مفاجأة غير متوقعة اطلاقاً، كل ما سمح به خيالي من تصور هو أنه لربما يريد ارسالي الى مهمة خاصة؛ لأعادة ترتيب أو تنظيم أحد المكاتب في أي مكان في الجمهورية. أما أن أكون سكرتيره الخاص، فهذا أمر لم أكن أتوقع، أو أحلم به!
وجاءت اجابتي، كالأتي:
انه لشرف عظيم جداً يا أفندم أنا لا أستحقه، لكن اذا كان هذا هو اختياركم، فلي طلب بسيط، أرجو أن تفتح لي سيادتكم قلبكم للحديث عنه!
ـ تفضل يا أبني.. تكلم!.
ـ دعني أسأل سيادتكم! اذا تركتم هذا المكان الى مكان وعمل آخر في الوزارة.. هل سأكون مع سيادتكم؟
ـ لا أظن! لكن ما الذي يجعلك تظن انني لن أبقى هنا؟
ـ لأن رجل مثلكم لا مكان له هنا! مكانكم في منصب أدق وأكثر أهمية من هذا المكان. لذا لو سمحت لي أن أقول لسيادتكم أنني أرفض العمل مع من سيأتي من بعدكم، لأنني لن أكون سكرتيره الخاص في المصلحة فقط، وسيادتكم تعرفون وأنا لا أصلح لهذا!.
ساد صمت قصير بيننا، قطعته قائلاً:
ـ لكن يا أفندم عندي الموظف الذي سيبذل قصارى جهده للعمل مع سيادتكم، وأيضاً مع من سيأتي بعدكم! لو سمحتم لي أن أعود الى عملي وأرسله لكم!.
أرسلت له أحد الموظفين الذين يعملون معي، بعد أن أخبرت رئيسي المباشر، بما دار بيننا دون التلميح بمسألة نقل سيادة المدير العام الى مكان أخر. وذلك لحكمة أرتأيتها لأن نظريتي بنيتها على أن هذا الجو العسكري البغيض على نفس كل من يعمل بالمصلحة، سيخلق حالة تذمر شديد بين الضباط زد على ذلك ان القائم بأعمال المدير العام لن يسكت عن هذا الأمر، مهما عينت الوزارة من مدراء.. فما بالنا بمدير مثل اللواء مصطفى النويهي!
في أقل من مدة ستة أشهر مضت على ذلك اللقاء، كنت أسير ضمن طابور المودعين لسيادة المدير العام! وما أن وضعت يدي في يده مصافحاً، حتى شدَ على يدي مما حدا بي أن أضع كف يدي اليسرى فوق يده، مودعاً، مما لا حظه رئيسي المباشر الذي ما أن رآني حتى قال:
ـ أف، الحمد لله، استرحنا منه.
شيء آخر حدث، فقد منحتني المصلحة في ذلك العام وأثناء فترة وجوده (اللواء مصطفى النويهي)، مكافأة مالية على عملي. وكانت المكافأة المالية الوحيدة واليتيمة طيلة خدمتي، التي امتدت الى سبعة عشر عاماً!
أشكرك عن ما كتبته عن والدي والذي يوافق اليوم الذكري ال٥٨ لوفاته.
ردحذفوتدور الايام ونكتشف اننا للأسف علي رأي المثل "مالناش في الطيب نصيب "
ردحذف