الغضب الشعبي يحاصر نموذج الحكم الأميركي في العراق/ نقولا ناصر


(أي احتجاجات شعبية عراقية لا يمكن، بحكم الأمر الواقع، إلا أن تكون موجهة إلى القوة الأميركية القائمة بالاحتلال في الأساس بقدر ما هي موجهة إلى وكيلها المحلي)

التغيير في نظام ديموقراطي يحدث بآليات لتبادل السلطة أهمها الانتخابات، و"لأن النظام السياسي في العراق هو نظام ديموقراطي" كما قال رئيس وزراء الحكومة المنبثقة عن الاحتلال الأميركي في بغداد، نوري المالكي، فإنه ليس "قلقا على الاطلاق بشأن نظامنا السياسي" بسبب "جمعة الغضب" التي استبدلت حصار المقاومة بالحصار الشعبي لمقر حكومته ومقر القيادة العسكرية والسياسية للاحتلال في المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية. لكن وقائع جمعة الغضب العراقية دحضت تماما تظاهر المالكي بالاطمئنان.

فالاجراءات القمعية التي اتخذها لمحاصرتها لم تؤكد بأن المالكي كان يعلن ما لا يبطن فحسب ليؤكد بذلك هتافات جموع المتظاهرين التي اتهمته ب"الكذب" بل أكدت أيضا "كذبة الديموقراطية" التي ادعت في نص الدستور الذي صاغه الاحتلال على الحق في التظاهر السلمي ليسقط هذا الادعاء في أول اختبار عملي له، ليكون تعديل هذا الدستور في رأس مطالب جمعة الغضب العراقي خصوصا وأنه لا يحدد مدة ولاية رئيس الوزراء مما يفسر مماطلة المالكي في الاستجابة لهذا المطلب الوطني القديم المتجدد طوال سنوات الاحتلال، ربما أملا منه في أن يتيح له ذلك أن يكون بن علي أو مبارك العراق في يوم ما.

وفي خضم ربيع الانتفاضات الشعبية التي تجتاح الوطن العربي يغيب عن ذاكرة الملايين العربية مشدودة الأعصاب في متابعة أدق تفاصيلها أن أول انتفاضة عربية من هذا النوع نجحت في تحقيق هدفها كانت عراقية وكان لها اسم عراقي هو "الوثبة" التي أسقطت حكومة صالح جبر عام 1948 لمنعه من توقيع معاهدة جديدة مع الدولة البريطانية المستعمرة آنذاك بديلا لمعاهدة 1930 تلزم العراق بالتبعية لبريطانيا وتحوله إلى قاعدة عسكرية لقواتها وهي المعاهدة التي كان وراءها رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد.

وتدرك الولايات المتحدة الأميركية و"الوثبة" العراقية الجديدة كلاهما أن المالكي يستعد لربط العراق بتبعية مماثلة لقوات الاحتلال الأميركي باتفاقية استراتيجية جديدة عندما ينتهي في نهاية العام الحالي العمل باتفاقية تنظيم وجود قوات الاحتلال الأميركي في العراق التي وقعها المالكي عام 2008، والتي ما زالت بنودها السرية لم تكشف بعد والتي انتقدها في حينه الجاران السوري والإيراني. ومن هنا هتاف "يا بغداد ثوري ثوري، خلي نوري (المالكي) يلحك (يلحق) نوري (السعيد)" الذي تردد في جمعة الغضب العراقية.



وكان إنهاء وجود قوات الاحتلال الأميركي وإجراء "استفتاء" على اتفاقية عام 2008 الأمنية مع واشنطن مطلبين ضمن تسعة مطالب أعلنها الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي اشتهر بعد قذفه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو. بوش بالحذاء مما قاد إلى اعتقاله مجددا قبل ان يعلن مطالبه في مؤتمر صحفي عشية جمعة الغضب التي كان يحض على المشاركة فيها. والجدير بالذكر أن إجراء استفتاء كهذا نصت عليه اتفاقية عام 2008 لكن المالكي تعمد المماطلة فيه حتى تجاهلت هذا الاستحقاق تماما حتى الآن حكومته "المنتخبة" وبرلمانها وكل القوى السياسية "الشرعية" المشاركة فيهما.



وجمعة الغضب العراقية لا تهدد إن استمرت بمنع تقييد العراق باتفاقية جديدة مع الولايات المتحدة فقط بل تهدد كذلك انعقاد قمة جامعة الدول العربية المقررة في بغداد أواخر آذار / مارس المقبل والتي إن انعقدت سوف تضفي شرعية عربية زائفة على وضع لا يمت إلى العرب والعروبة بصلة وتعطي ضوءا أخضر لإطالة أمد الاحتلال الأميركي بهذه الصيغة أو تلك. وقد أوجزت صحيفة اليوم العربية السعودية عندما شككت في انعقاد القمة بقولها إن "العراق دولة القمة ساحة حرب وليبيا دولة التسليم ساحة ثورة"، ناهيك عن خشية القادة العرب من مغادرة عواصمهم كالرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي ألغى زيارة كانت مقررة اليوم للولايات المتحدة.



إن الفصل بين ساحة التحرير مركز الغضب الشعبي وبين المنطقة الخضراء بالأسوار الاسمنتية ثم غلق كل الطرق المؤدية إلى الساحة بأسوار مماثلة حول المنطقتين عمليا إلى سجنين الفارق الوحيد بينهما أن سجن المنطقة الخضراء فرضته الجماهير الغاضبة على نزلاء مرغمين على حماية انفسهم داخله بينما سجن ساحة التحرير فرضه النظام المدعوم بالاحتلال الأميركي على معتصمين فيه باختيارهم يأتيهم المدد الجماهيري أفواجا متتالية طوعا كذلك بالرغم من فرض الإجراءات التي تقيد حركة الناس والسيارات التي فشلت في منع تدفقهم مشيا على الأقدام لمسافة كيلومترات طويلة، وبالرغم من فرض تعتيم إعلامي بمنع سيارات البث التلفزيوني والاذاعي المحلية والعربية والأجنبية من دخول ساحة التحرير واعتقال أكثر من (300) صحفي ومثقف وفنان وتعذيبهم وتهديد بعضهم بالاغتصاب ومداهمة مؤسسات إعلامية عراقية بحثا عن "مؤامرة" أجنبية أو عراقية وقتل (29) شهيدا بالرصاص الحي (الواشنطن بوست في 27/2/2011)، وبالرغم من استنفار المرجعيات الطائفية وقيادات الأحزاب الطائفية المشاركة في "العملية السياسية" للانضمام إلى المالكي في حملة التخويف من "المندسين والمتسللين" من "إرهابيي القاعدة" ودعوته الصريحة إلى عدم المشاركة في جمعة الغضب لأن "أنصار النظام السابق" من "البعثيين والصداميين" سوف يستغلونها لصالحهم.



إن هذه الاجراءات المصحوبة تدحض تماما إعلان "عدم قلق" المالكي وتؤكد أن الاحتجاجات الشعبية عندما تطالب بتغيير نظام ديموقراطي وصل إلى السلطة عبر انتخابات ديموقراطية فإن ديموقراطية هذا النظام وانتخاباته هي التي تكون في موضع اتهام وليس الشعب الذي يخرج إلى الشارع مطالبا بتغييرها.



وقد فرزت جمعة الغضب العراقية قبل ثلاثة أيام العراقيين فرزا واضحا طالما شوشته الفتن العرقية والطائفية إلى معسكرين متخندقين في مواجهة بعضهما، يصطف الشعب العراقي بعربه وكرده في أحدهما ويصطف في المعسكر المقابل الاحتلال الأميركي ونظام المنطقة الخضراء بسفارتيه الأميركية والبريطانية وحكومته وبرلمانه وكل الأحزاب الطائفية المؤتلفة والمتكالبة على السلطة والمغانم والمفاسد في إطار "العملية السياسية" التي هندسها الاحتلال حيث اتفقوا جميعا على مقاطعة الوثبة الشعبية العارمة وقمعها.



إن إجماع فصائل المقاومة العراقية باستثناء القاعدة على إصدار بيان "مشترك" يعلق العمليات الجهادية "خلال فترة التظاهرات"، وإجماع المالكي وحكومته وبرلمانه وكل القوى المشاركة فيهما على مقاطعتها بحجة أن البعث والصداميين وهيئة علماء المسلمين والقاعدة يقفون وراءها، هما مؤشران يؤكدان الفرز الواضح الذي أحدثته جمعة الغضب العراقية بين خندق الشعب والمقاومة في جهة وبين خندق الاحتلال ووكلائه في الجهة المقابلة.



فعشية "جمعة الغضب"، حث المالكي الخميس الماضي "الشعب العراقي" على "ضرورة إجهاض مخططات أعداء الحرية والديموقراطية وعدم المشاركة في مظاهرة الغد لأنها مريبة"، وسبب الريبة كما قال هو كونها "مظاهرة يقف خلفها الصداميون" وكذلك "الارهابيون والقاعدة" مرددا تهمة رددها كذلك "قائد الثورة" الليبي معمر القذافي في مواجهة الثورة الشعبية عليه كفزاعة يأمل الرجلان من ترديدها في تحييد الحكومات الغربية والرأي العام الغربي. وقد غاب عن المالكي أن الحرية والديموقراطية تتناقضان تماما مع الاحتلال الأجنبي، لكنه أكد بإجراءته القمعية أن سلوك النظام السياسي المنبثق عن الاحتلال لا يمكن أن يختلف في طبيعته عن سلوك دولة الاحتلال التي أقامته بالغزو المسلح، مما يذكر بصمت الإدارة الأميركية الحالي عن إدانة الإجراءات القمعية العنيفة للاحتجاجات السلمية العراقية.



لكن "ريبة" المالكي بأن الصداميين والبعثيين يقفون وراء الانتفاضة الشعبية العراقية تؤكد من حيث لم يقصد حجم ما يتمتع به هؤلاء من نفوذ وشعبية إذا حكم المراقب استنادا إلى حجم المشاركة الشعبية الواسعة فيها بالرغم من إجراءاته، والتفسير الآخر هو أن هذه "الريبة" التي أجمعت عليها كل أطراف "العملية السياسية" الأميركية في أن تكون هذه "تظاهرات بعثيين" إنما هي "محاولة بائسة .. لإيجاد مبرر لضرب هذه التظاهرات المعبرة عن إرادة جميع العراقيين في إنهاء الاحتلال وتصفية آثاره ومخلفاته وإفرازاته النتنة" كما قال الممثل الرسمي لحزب البعث في العراق د. خضير المرشدي تعليقا على تصريحات المالكي. غير أن المراقب لا يسعه أيضا إلا أن يلاحظ التزامن بين جمعة الغضب وصدور بيانها الأول في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة من شهر شباط / فبراير وبين وصول حزب البعث إلى السلطة في اليوم نفسه وفي الساعة نفسها وفي الشهر نفسه عام 1963، لتبدا منذ تلك السنة حرب طويلة ما زالت مستمرة بين الحزب وبين الولايات المتحدة بدأت بتأميم النفط وانتهت الآن باستباحته، وأن يلاحظ كذلك بأن جمعة الغضب انطلقت في اليوم التالي لبدء الحرب البرية في "عملية عاصفة الصحراء" التي قادت الولايات المتحدة فيها إئتلافا عسكريا من (34) دولة ضد العراق في الرابع والعشرين من هذا الشهر عام 1991.



وقد لفت انتباه العربي السعودي محمد الخبر "النفاق" الأميركي بادعاء الديموقراطية في العراق عندما كتب يوم الجمعة الماضي في "أراب نيوز"، وهي أول جريدة سعودية تصدر باللغة الانكليزية، مستذكرا حادثة وقعت مؤخرا بينما كانت وزير الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تحاضر عن ضرورة احترام الدول الأخرى لحقوق شعوبها في الاحتجاج السلمي وتحث على عدم استخدام العنف ضدها. فقد مارس هذا الحق للاحتجاج على الحرب الأميركية المستمرة على العراق راي ماكفرن، وهو محلل متقاعد بعد خدمة استمرت سبعة وعشرين سنة في وكالة المخابرات المركزية (السي آي إيه) عمره سبعون سنة ومصاب بالسرطان، أثناء إلقاء كلينتون لمحاضرتها، ليس بالهتاف مقاطعا لها، بل فقط بالوقوف صامتا مديرا ظهره لها بطريقة سلمية تماما، ليتم دفعه بوحشية خارج القاعة ثم ضربه ليمضي ليلته في زنزانه وهو ينزف بينما تابعت كلينتون محاضرتها بهدوء، ليتضح بأن "الديموقراطية كلمة فارغة لا معنى لها تستخدم عندما يكون استخدامها مناسبا للولايات المتحدة ويتم تجاهلها ونبذها عندما لا يناسبها استخدامها"، كما كتب الخبر.



وقد ميز الاضطراب والتردد والتذبذب المواقف الأميركية من الانتفاضة الشعبية في مصر وتونس وليبيا وغيرها من الأقطار العربية لأن هذه الانتفاضة كانت مفاجئة لصانع القرار الأميركي وأجهزته الاستخبارية، ولأنها تهدد "الاستقرار" الذي كانت توفره الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية للمصالح "الحيوية" الأميركية، مما قاد مثلا قناة "فوكس نيوز" الاخبارية إلى "البحث عن الأخطاء في مظاهرات الشوارع .. التي تطالب بديموقراطية حقة باللغة نفسها التي استخدمها جورج بوش لتسويغ تغيير النظام في العراق"، كما كتب دراموند بايك في "ذى هافينغتون بوست" في الخامس والعشرين من الشهر الجاري.



وهذه الأسباب مضاعفة في العراق، ويضاف لها ويأتي في مقدمتها أن إدارة باراك أوباما الأميركية الحالية ما زالت ملتزمة بادعاء الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو. بوش الذي سوغ غزو العراق ثم احتلاله بقوله في سنة 2003 إن "نظاما جديدا في العراق سيعمل كنموذج للحرية مثير وملهم للدول الأخرى في المنطقة"، لكن الإدارة الأميركية يرعبها اليوم أن الانتفاضة الشعبية العربية الجارفة المطالبة بالتغيير الديموقراطي التي أطاحت بنظامين من حلفائها وتكاد تطيح بنظام ثالث في ليبيا بعد أن طوعته بالعدوان المباشر والعقوبات والحصار فأخرجته من الخندق المعادي لها قد أحدثت تغييرا جذريا لم يكن من صنعها بل كان إنتاجا عربيا خالصا يرفض حتى في حالة صعبة مثل ليبيا أي تدخل أجنبي أميركي أو غير أميركي، وهو نموذج يبشر بشرق أوسط جديد غير ذاك الذي خططت له الولايات المتحدة بنموذج من صنعها فرضته بالغزو العدواني المسلح في العراق حيث كانت تأمل في تعميم هذا النموذج الطائفي التجزيئي انطلاقا منه. إن "جمعة الغضب"العراقية في "ساحة التحرير" العراقية قد حاصرت النموذج الأميركي تمهيدا لوأده في مهده.



لذلك لم يكن مستغربا أن لا يقل حرص واشنطن عن حرص وكلائها في بغداد على الانتقاص من أهمية الانتفاضة العراقية بتصويرها كمجرد احتجاجات مطلبية جهوية احتجاجا على البطالة وفقدان أو سوء الخدمات الأساسية والفساد بعد أن فشلت الانتخابات الطائفية وحكومة المحاصصة الطائفية المنبثقة عنها في إخفاء حقيقة أن العراق ما زال بلدا تحت الاحتلال العسكري المباشر إلى أمد غير منظور. فالمسؤولون الأميركيون يعتبرون المظاهرات دليلا على "ازدهار" الديموقراطية التي حملوها على ظهور الدبابات الغازية إلى العراق. واعتبرها نائب قائد قوات الاحتلال في العراق روبرت كون الذي غادره أوائل الشهر الجاري "مؤشرات صحية إلى حرية الشعب العراقي"، بينما دافع المتحدث باسم السفارة الأميركية المحاصرة في المنطقة الخضراء عن المالكي بقوله إنه "أكد حق الشعب العراقي في التظاهر" بينما قواته الأمنية "بصفة عامة لم تستخدم القوة ضد المحتجين المسالمين".



ويدرك الشعب العراقي "بأننا حتى الآن لدينا رئيسان للحكم في العراق، واحد في بغداد والآخر في واشنطن" كما قال رئيس مرصد الحريات الصحافية في العراق هادي جلو مرعي، وبالتالي فإن أي احتجاجات شعبية عراقية لا يمكن، بحكم الأمر الواقع، إلا أن تكون موجهة إلى القوة الأميركية القائمة بالاحتلال في الأساس بقدر ما هي موجهة إلى وكيلها المحلي.



ولذلك أيضا لم يكن مستغربا أن كانت "المنطقة الخضراء ببغداد هدفا" لجمعة الغضب كما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية، فلا يعود مستغربا كذلك أن تغض الولايات المتحدة النظر عن أي عنف تلجأ إليه حكومة المالكي وعصابات المليشيات الطائفية للأحزاب المشاركة فيها التي انتشرت بخاصة في العاصمة العراقية لمنع جموع المتظاهرين من الوصول إلى ساحة التحرير وهي مسلحة بفتاوى معظم المرجعيات الدينية الطائفية التي سبق لها أن افتت بتحريم مقاومة قوات الاحتلال الغازية قبل سبع سنوات.



ويلفت النظر بين هذه المرجعيات مسارعة زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر في العودة إلى العراق من إيران ليس لشد أزر شعبه بل لاقتراح مشترك مع آية الله علي السيستاني لتأجيل "الوثبة الجديدة" ستة اشهر يجري خلالها "استفتاء" العراقيين ليس على الاتفاقية الأمنية مع دولة الاحتلال بل على مبدأ الوثبة نفسه، إدراكا منهما بانهما مستهدفان مثل الاحتلال وحكومته.



* كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق