يتكلمون عن الدين في بلادنا، وما أثبته التاريخ، أن العقيدة الدينية، تكون عرضة للإمحال، طالما صرف الإنسان فكره وإرادته إلى الشؤون الاقتصادية، أو انهمك في الموضوعات السياسية. ويتكلمون عن الطبقة العاملة، فإن ارتفاعها إلى الطبقة الوسطى، قد صاحبه تدني الحياة الروحية من جانب كبير منهم، فانحرفوا عن التفكير السوي.
فهذه أوروبا، كان أهلها قبل عصر النهضة، متمسكين بالدين المسيحي، فما زالوا يغالون فيه ويتطرفون، حتى انتهت بهم الحال إلى حصر الدين في الكنيسة، فأصبحت الكنيسة صاحبة التصرف المطلق فيهم، توجههم إلى الحروب الصليبية، فيعانون المشاق، ويهلكون الوفا ومئات الألوف، باسم الدين، ثم استولت على الكتاب المقدس، وحرمت على غيرها فهمه وتفسيره، فيتلقون أوامرها بالرضا والقبول، عملاً بأوامر الدين، ثم وقفت أمام العلم، مخافة أن يكون فيها ما يخالف الدين، والناس لا يعرفون إلا كلمات تسمى الدين، يتفانون بالجهاد غيرة عليها، حتى أخذ شعاع العلوم ينفذ إلى الأذهان، وابتدأ دور النهضة.
فعصر النهضة في أوروبا، جاء نتيجة جهاد طويل، بين رواد التحرر الفكري وبين الكنيسة، التي كان نفوذها على الملوك والأمراء والعلماء وقتذاك واسع، فسيف الحرمان، مسلط على رقاب كل من تحدثهم نفوسهم بتجاهل البابا، فضلا عن مخالفته.
ولن ينسى التاريخ إذلال البابا جور جوري السابع، للإمبراطور هنري الرابع، حين اختلف معه على حق تعيين الأساقفة، وأجرى عليه الحرمان، وأحل أتباعه الأمراء من ولائهم له، فاضطر الإمبراطور أن يذهب إليه تائبا، وان ينتظر الغفران ثلاثة أيام في البرد القارص، وهو حافي القدمين في فناء القلعة. ولن ينسى التاريخ من أحرق حياً، ومن نكل به تحت آلات التعذيب، من رواد علم الطبيعة، وعلم الأحياء، وعلم الفلك، بتهمة الخروج على تعاليم الدين.
هذا الصراع الطويل، هو الذي قاد إلى ما يسمى بالإصلاح، وأتاح الفرصة لدعاة التحرر الفكري، فهدموا الكنيسة، وتحقق الفصل بين السلطة الدينية والمدنية، وانكمش نفوذ البابا، وأصبحت شؤون الدول وتدبير نظام المجتمع، في يد رجال السياسة.
فالإصلاح أولاً يحتاج إلى عظماء متنورين فكرياً، ولا يحتاج إلى متظاهرين، لأن القضية فكرية ثقافية توعوية، أصلها الجدال والحوار. وحسبما نقرأ في الكتب التاريخ فإن جذورها لا تمتد إلى عدة أجيال فحسب، بل إلى عدة قرون ريثما تتهيأ عقول الشعوب لاستيعاب مفاهيم الإصلاح والشروع به. ولا يعني ذلك أن كل من أراد الإصلاح كان مصلحاً، ولكن يجب أن يخضع عمله وبرنامجه للبحث والتدليل والبرهان، فمن لا يملك برهاناً لا يملك إصلاحاً والشعوب ليست حقلاً للتجارب والضياع حتى يأتي الإصلاح.
إن الشخصيات السياسية التي تتولى قيادة المهام والنفوذ السياسي، وتقود الإصلاح، تخلقها الأحزاب السياسية. إلا أن أحزابنا الوطنية، ما زالت قاصرة عن مثل هذا المطلب وليس عندها ما يفيد، فليس لدينا حزباً يفيد في الإصلاح وقضايا المرحلة الراهنة، ولم نجد أحداً من الأحزاب يحدثنا عن الثورة الفرنسية أو الثورة الأمريكية اللتين مهدتا الطريق إلى الديمقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق