مداخلة حول طروحات المفكر الشيوعي سلامة كيلة – من هو الشيوعي اليوم؟/ نبيل عودة


قرأت مقالك "من هو الشيوعي اليوم" في موقع "الحوار المتمدن" وأثار لدي أفكاراً عديدة حبيسة منذ فترة، وآمل ان أستطيع تنسيقها بهذه العجالة.
نحن الذين تثقفنا على النهج السوفياتي، وجدنا أنفسنا في عاصفة فكرية ليست سهلة. واضطررت أنا شخصياً للقيام بإعادة تقييم فكري واسعة جداً. لا شك ان الشيوعية هي أنقى فكر للعدالة الاجتماعية والتغيير لما فيه مصلحة الإنسان ورفاهيته وحريته وفتح المجال أمام إبداعه وانطلاقه بدون حدود في عالم الإنتاج المادي والفكري لخير المجتمع كله.. ولخير تقدم البشرية.
ضمن الإشكاليات التي بتُّ على ثقة انها تحتاج الى إعادة تفكير وضبط فلسفي وفكري، موضوع الصراع الطبقي الذي وجدتك تعتمد عليه في الكثير من تحليلاتك، ربما تسهل فهم الواقع الاجتماعي، ولكنها بعيدة عن إمكانية التنفيذ الفعلي في المجتمعات الحديثة.
معظم المطالب الطبقية اليوم (او ما يسمى النضال الطبقي) هي مطالب نقابية غير ثورية. الصراع ينحو نحو المطالب المكسبية وليس الانتفاضية الثورية، او مواقف سياسية تتعلّق بقلب النظام. ولا أرى بذلك انحرافاً، انما تحول المجتمعات الراسمالية الى مجتمعات رفاه اجتماعي تجاوز بعضها النظم السوفياتية السابقة بخطوات هائلة أبقت النموذج الاشتراكي متخلفاً في مستوى الحياة والرفاهية والحريات الاجتماعية، مماغير الكثير من الثوابت التي تطرحها في مقالك وبات من الضروري تطوير فكرة جديدة تعتمد على مفهوم الانقلاب والتغيير الديمقراطي وليس الثورة الاشتراكية.
ليس مهما برأيي أسلوب الإنتاج، المهم توزيع الخيرات المادية بشكل اشتراكي (او اجتماعي عادل)، وهذا يمكن ان يضمنه القانون الاجتماعي للنظام، عبر تشريعات وخدمات مختلفة ومتنوعة، وضمانات اجتماعية وصحية وغيرها من الضمانات التي تكفل كرامة الإنسان واحتياجاته الضرورية.
لسنا في عصر البروليتاريا الثورية، لا اعرف لماذا لم يجر تطوير مفهوم البروليتاريا الذي لم يصمد أمام امتحان التاريخ.
البروليتاريا لم تكن ظاهرة عالمية إطلاقا. انما ظاهرة أوروبية لم تخرج من أوروبا وورائها أسباب تتعلق بتركيز الأرض والتطور الصناعي وقوانين رأسمالية مختلفة في بداية عصر البرجوازية.
هل تطورت بروليتاريا أمريكية مثلا؟؟
هل تطورت بروليتاريا عربية في بلاد الرمال؟
لا شك ان هناك ازدياداً في الفقر والبطالة والأمية والتخلف الصناعي والعلمي، وأنظمة قبلية عائلية مستبدة، لا فرق بين نظام ملكي او جمهوري "ثوري اشتراكي(!؟)"، ولكني لا أرى ان هذه الظاهرة لها علاقة بقضية الصراع الطبقي. بل بمسألة الديمقراطية والعمل ورفع مستوى الحياة، وآمل اننا في مرحلة الثورات العربية التي افتتحتها تونس، وستتضج الأمور كما أتوقع، أكثر باتجاه مجتمع العدالة الاجتماعية والديموقراطية وليس الثورة الاشتراكية.
هل كانت نظرية ماركس للمجتمع العادل مثلاً غير قابلة للتطبيق الا بالأسلوب الذي عرفناه؟
رؤيتي الشخصية ان الماركسية مشكلتها كانت في التطبيق وليس في الفكر.. وفي الجمود العقائدي الذي أصاب الحركات الماركسية، وليس في جوهر الماركسية الاستبدادي كما تحول في الفترة الستالينية.
الفيلسوف كارل بوبر(كتاب: "اعداء المجتمع المنفتح) يعتقد ان نظرية ماركس لم تقع بعيدا عن فكر افلاطون.. في فهمها لهندسة الدولة العتيدة، بالخطوط الرئيسية على الأقل.. وبالتطبيق نفذ الفكر الأفلاطوني بقوة أكثر، حيث تحول الحزب الحاكم الى الطبقة الحاكمة، والعسكر الى حماة الطبقة (النظام) الحاكمة ، وصيانة السلطة المطلقة للحزب، وتحول المنتجين (الشغيلة) الى مصدر تمويل للدولة – الحزب – الطبقة الحاكمة.
اؤمن بشكل مطلق ان أفلاطون حركته افكار إنسانية بالأساس، كيف يمكن بناء دولة ذات صفات أخلاقية في وقته. ومن المؤكد اليوم ان كل الدول التي سارت على هندسة افلاطون وماركس لبناء دولة، أسقطت الجانب الجوهري الإنساني الأخلاقي .
هل كان الخطأ في الرؤية الماركسية، أم في فشل المتابعين والوارثين ؟
وهل عبر ماركس عن رؤية تاريخية علمية أم مجرد رغبة غير قابلة للإنجاز، بسب طوباويتها المبالغ فيها؟
وكيف صار ان فكرة إنسانية لإسقاط الاستبداد الطبقي، وبناء مجتمع العدالة والمساواة، تحولت هي نفسها الى نظام استبدادي قمعي مطلق، لدرجة ان الاستبداد والاستغلال البرجوازي في النظام الرأسمالي صار جنة بالمقارنة مع واقع العمال في "نظامهم" الاشتراكي؟!
من ضمن الطروحات الهامة في "اعداء المجتمع المنفتح" رؤية بوبر ان المجتمع يجب ان يكون في خدمة الإنسان (المواطن) وليس المواطن في خدمة المجتمع. المسيح يقول أيضا: "الدين (السبت) في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الدين(السبت) " وهذا القول عبقري وعظيم اذا اتبعته الأديان واتخذته الأنظمة الحاكمة نهجاً لمجتمعاتها.
يطرح بوبر موقفه القائل ان التنبؤات التاريخية هي خارج المنهج العلمي... وهي أقرب شيء للإيمان الديني.
وهنا نسأل: هل الثورة البروليتارية حسب ماركس هي حقيقة علمية (حتمية) لا يمكن تجاوزها؟ بالطبع انا لا أرى ان البروليتاريا قائمة الا في وهم بعض الماركسيين القدماء.. والمشكلة ليست في ماركس، بل في تطوير الفكر الماركسي من الماركسيين، الماركسية ليست دينًا منزلاً ولم تكن. ونعرف ان العديد من الماركسيين الأوروبيين طرحوا رؤى متطورة ولكن لوحقوا من ستالين وقمعتهم الحركة الشيوعية العالمية الستالينية فكرياً وشخصياً (خاصة المثقون الماركسيون من دول اوروبا الشرقية).
الأمر الأساسي الذي أود تأكيده ان هناك أربعة أقانيم مركزية مشتركة بين ايديولوجيات الأنظمة التوتاليتارية الحديثة، رغم بعض الاختلاف بينها، وقد طرحت هذه الأقانيم الأربعة في فلسفة أفلاطون، وهي: أولا، النظرة التاريخانية – الحتمية التاريخية (هيغل وماركس آمنوا بوجود حتمية تاريخية (وهي عقيدة تؤمن أنه يوجد سبب موجه لكل الأحداث في الطبيعة والمجتمع البشري وإرادة الإنسان، هيغل رأى ذلك بالفكرة المطلقة.. وماركس فسرها بالمادية التاريخية) ثانيا، الايمان بوجود خواص أبدية ثابتة، ثالثا، المجتمع المنغلق ومنع النقد والبحث العلني – المنفتح بهدف الدفاع عن الشيء الجيد، رابعا، حكم طبقة معينة ووجودها أعلى من سائر الطبقات من أجل ان تهتم لكل المجتمع او للدولة بفضل نوعيتها أو حكمتها المتفوقة على الآخرين..
هل حقا كانت القيادات في الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية، هي "الطبقة" المؤهلة فكرياً وعقلياً وأخلاقياً للقيادة؟!
وهل لم يحن الوقت لفهم مجدد لمعنى ان يكون الإنسان اليوم شيوعيا؟ وان نجري تغييرات جوهرية في طروحاتنا السياسية نحو مجتمع ديموقراطي يرى بالتطور الاقتصادي والعلمي ورفاهية الإنسان الهدف الأسمى للنظام، وتأجيل الشعارات الاشتراكية والشيوعية بعد ما أصاب العالم الاشتراكي من انهيار، حتى لا نبدو "كاثوليك أكثر من البابا"، وحتى نتبين الى أين يتجه التاريخ؟
ما زلت ارى في الحركة الشيوعية, رغم كل الكوارث, الحركة المؤهلة (فكرياً على الأقل) لإنقاذ العالم من العولمة المتوحشة للرأسمالية. غير أن هذا الأمر يحتاج الى شروط متعددة, لا أرى ان الأحزاب الشيوعية جاهزة لها, خاصة في العالم العربي, حيث نشهد غياب الدور الرائد للأحزاب الشيوعية, وتحولها الى تنظيمات للثرثرة والتخبط الفكري, عاجزة عن النهوض بمهامها النضالية، بل وبعضها صار تابعاً لأحزاب أصولية، وكل التبريرات لهذه التبعية هي عذر أقبح من ذنب.
إن عدم قدرة الأحزاب الشيوعية الفكرية, وعدم رغبتها, وربما خوفها من إعادة تقييم المرحلة التاريخية لتجربتها, بدءاً من أول تنظيم شيوعي عرفه التاريخ, في أواسط القرن التاسع عشر, على يد أبوي الفلسفة الماركسية، ماركس وانجلز... وصولاً لثورة أكتوبر وتجربتها التاريخية وانهيار هذه التجربة, هو من دلائل مواصلة الانهيار في البنى التنظيمية للأحزاب الشيوعية, وفقدانها لطليعتها الفكرية, وأحياناً التنظيمية في مجتمعاتها.
طرأت على بنية الطبقة العاملة تغييرات عميقة، غيرت الكثير من الثوابت الفكرية القديمة حول طبقية المجتمع والصراع التناحري داخله, وأريد أن أحدد بعض الأمور الأساسية, فيما أظنه ضرورة لإحياء التنظيمات الماركسية, وعلى رأسها إعادة صياغة المشروع الاشتراكي لهذه الأحزاب في الظروف التاريخية الجديدة. هذا يفترض ان تتخلص الأحزاب الشيوعية في إسرائيل والعالم العربي, من فكرها "الديني", أو سلفيتها الشيوعية, وأن تخرج من انعزاليتها الفكرية ومن العصبية الحزبية التي تميز كوادرها القديمة... وان تقوم بمهامها الفكرية والاجتماعية الجديدة, بالتصدي الفكري للموجة التي أخرجت الدين من روحه الإنسانيه العامة, وحولته الى جهاز كهنوتي استبدادي.
وان تطرح التصدي لأنظمة الفساد العربية بصفته مهمة لا تقبل التأجيل للأحزاب الشيوعية في الشرق, وهذا يفترض صياغة فهم واضح بأن مهمة التغير في العالم العربي لم تعد مهمة طبقية وأصلاً لم تكن مهمة طبقية, انما مهمة كل المجتمع بكل فئاته واتجاهاته الفكرية، وهذا ما برز بالثورة التونسية. وثبت أكثر بالثورة الشعبية في مصر.. التي نأمل ان تحقق شعاراتها بدولة مدنية ديموقراطية..
الحوار مع مفكر مثلك رائع ولكنه يحتاج الى استرسالات طويلة، ويفتح أمام المثقفين الثوريين أبواباً واسعة للتفكير والتقييم المجدد وإعادة الانطلاق.

nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق