عندما يكون الإعلام في خدمة الحرب/ نقولا ناصر


(إن الخلط بين القوات المسلحة كمؤسسة وطنية للدفاع ضد العدوان الخارجي والحفاظ على السلم الأهلي في آن معا وبين النظام السياسي، وإسقاط كل المآخذ على النظام عليها، هو خلط غير بريء بتاتا)

الحقيقة، كما يقولون، هي الضحية الأولى للحرب، والحرب النفسية جزء لا يتجزأ من الحرب، ولأن الإعلام هو الأداة الأهم في الحرب النفسية، فإن الإعلام هو الضحية الثانية، حيث تطغى الدعاية عليه، فتغيب الحقائق وتقلبها. وما حدث في العراق، ويحدث حاليا في ليبيا، ويجري التحضير لحدوثه في سوريا، غني بالأمثلة على قلب الحقائق أو تغييبها وعلى طغيان الدعاية على الإعلام. فبحجة الانحياز إلى الانتفاضات الشعبية، استسلمت وسائل إعلام رائدة ورئيسية لإغراء "الشعبوية" في الظاهر لتتخلى عن مهنيتها في خدمة الحقيقة، بحيث طغت على تغطيتها الإخبارية رواية الحدث من جانب واحد، وبحيث لم يعد من الممكن التمييز بين هذه التغطية وبين تغطية الرواية الرسمية الواحدة في أنظمة الحزب الواحد أو أنظمة الحاكم الفرد.

ولا أظن أحدا يمكن أن يصف بغير الحرب الاحتلال الأميركي للعراق والمقاومة الوطنية المستمرة له، أو الحرب التي يشنها حاليا حلف شمال الأطلسي "الناتو" على ليبيا تحت مظلة شفافة من "حماية المدنيين" في "حرب أهلية"، أو أن يصف المقدمات الجارية لسيناريو مماثل ضد سوريا بغير الاستعدادات الحربية. إن الانتفاضات الشعبية المشروعة لا ينبغي أن تغطي على حقيقة مضمون مذكرة لوزارة الدفاع الأميركية في عهد الوزير دونالد رامسفيلد "تصف كيف أننا سنقضي على سبعة بلدان خلال خمس سنوات، بدءا من العراق، ثم سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان والانتهاء بإيران"، كما قال الجنرال الأميركي الذي تقاعد بينما كانت أربعة نجوم تزين كتفيه، ويسلي كان كلارك، في مقابلة مصورة معه في سنة 2007. وهذه هي الحقيقة الأهم التي يغيبها غرق وسائل الإعلام العربية في تفاصيل الروايات الفردية لشهود العيان في الانتفاضات الشعبية.

فالقوات المسلحة الليبية، التي يزيد عديدها على سبعين ألفا في الجيش الليبي والقوات الجوية والبحرية الليبية، على سبيل المثال، أصبح اسمها بقدرة قادر "كتائب القذافي"، كي تتراكم في الوعي العام قناعة بأن فرقها وألويتها وكتائبها وسراياها لا علاقة لها بليبيا وطنا وشعبا، وأنها إنما تقاتل دفاعا عن الرجل ونظامه وأسرته فحسب، وللإيحاء تضليلا بأن تدمير "الناتو" لمراكز قيادتها وقواعدها وبناها التحتية وعتادها وقتل جنودها لا علاقة له بليبيا والليبيين، بالرغم من أن جل عديد هذه القوات من الليبيين ومن كونها إنجاز تحقق بسواعدهم ومن ثروتهم الوطنية.

الحجة طبعا هي أن هذه القوات تأتمر بأمر قائدها العام، وهو في هذه الحالة القذافي، ويقودها أبناؤه والمقربون منهم والموالون لنظامهم. ولتعزيز الانطباع بأن القوات المسلحة الليبية هي مجرد "كتائب القذافي" كان لا بد في البداية من ترويج فكرة "المرتزقة" الأفارقة الذين يقاتلون في صفوفها ضد الشعب الليبي، ليتضح الآن أن "الثوار المسلحين" لم يستطيعوا إثبات وجود مرتزقة أفارقة بالعدد الذي كانوا يروجون له فتخلوا عن استخدام هذه الفكرة في دعايتهم الحربية والسياسية حتى لم يعد أحد يسمع عنها لا في إعلامهم ولا في الإعلام المؤيد لهم، خصوصا بعد تدفق خبراء المخابرات والاستخبارات العسكرية الأجانب من الفرنسيين والبريطانيين والأميركيين على "المناطق المحررة" لمساعدة الثوار وتسهيل عمليات الناتو الجوية.



ومثل قصة "المرتزقة الأفارقة" لم تقدم وسائل الإعلام إياها دليلا حتى الآن على ضحايا قصف الطائرات الليبية لمدن واحياء مدنية لم يبق فيها من المدنيين غير من تسلحوا فتحولوا إلى ثوار يقتلون ويقتلون. وكانت المبالغة في ترويج القصف الجوي للمدنيين الليبيين مقدمة ضرورية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا. في الرابع من آذار / مارس الماضي كتب مراسل الغارديان البريطانية دومينيك كافاكيب: "لقد قرأت عن هجمات بطائرات الهليوكبتر على مدنيين في أحياء العاصمة، وقصف مدن بعيدة عنها. ومع ذلك – حتى الآن في الأقل – أنا لم أعثر على أدلة عليها".



لقد تحدث عضو المجلس الانتقالي للمعارضة الليبية محمود جبريل من واشنطن يوم الخميس الماضي مقدرا الخسائر المادية الوطنية بأكثر من أربع مليارات دولار في المدن الليبية التي تخوض حربا أهلية بحماية حلف الناتو ضد "كتائب القذافي" التي حملها المسؤولية عن هذه الخسائر، ومن المؤكد أن السيد جبريل كان سيكون أكثر موضوعية وأصدق تمثيلا للشعب الليبي لو قدر أيضا الخسائر المادية الوطنية في الجانب الآخر التي يتحمل مسؤوليتها حلف شمال الأطلسي وهي بالتأكيد أضعاف الخسائر في الجانب الذي يمثله، مع أنه تحدث عن خطط ل"إعادة الإعمار" في كل ليبيا بعد رحيل النظام الحالي، وهذه بالطبع هي الجائزة الكبرى التي تسعى الدول الغربية المشاركة في دعم "الناتو" للحرب الأهلية إلى تعظيم هذه الحرب وإطالة أمدها حتى أقصى حد مستطاع، فهذا هو مدخلها إلى إقامة طويلة المدى في ليبيا، تجثم فيها على آبار النفط الليبية.



والبحث عن الحقيقة في خضم هذه الحرب يستدعي التساؤل: بماذا تختلف مواصفات القوات المسلحة الليبية، أو "كتائب القذافي"، عن مواصفات أي قوات مسلحة في أي قطر عربي ؟ أليست هي المواصفات ذاتها ؟ وهل تسوغ هذه المواصفات نزع الصفة الوطنية عنها وتسمية كل قوات منها باسم سيادة أو جلالة قائدها العام ؟ ألن تكون هذه سابقة ليبية قد تندم كل الأقطار العربية عليها لاحقا ؟ ألا يمهد نزع الصفة الوطنية عن القوات المسلحة العربية بحجة قيادة الحاكم العربي لها وولائها له لأي تدخل أجنبي يستهدف تدميرها بذريعة أنها "ملكية فردية" لحكم دكتاتوري أو فردي أو وراثي ؟



إن هذه المنطق الذي يتم الترويج له في ليبيا يهدد الدعامة الأساسية للوحدة الوطنية والدولة الوطنية ووحدة أراضيها الإقليمية في الوطن العربي الكبير، والسابقة العراقية عبرة ماثلة للعيان، ومثالها الليبي يتكرر اليوم، بينما التحضيرات جارية لا تخطئها العين لسيناريو مماثل في سوريا.



إن الخلط بين القوات المسلحة كمؤسسة وطنية للدفاع ضد العدوان الخارجي والحفاظ على السلم الأهلي في آن معا وبين النظام السياسي، وإسقاط كل المآخذ على النظام عليها، هو خلط غير بريء بتاتا. ف"شيطنة" الحاكم في سياق العمل من أجل تغييره لأغراض سياسية خارجية أم داخلية يجري سحبها كذلك بطريقة مدروسة على هذه المؤسسة الوطنية الأهم.



وتتضح هذه الظاهرة بمراجعة سريعة لعناوين أخبار وسائل الإعلام الرئيسية المرئية والمسموعة والمقروءة غير تلك المدافعة عن النظام السوري، ف"الجيش السوري في مواجهة الاحتجاجات" الشعبية و"يداهم" درعا بادئا "بإطلاق النار في الشوارع ... فيما تحولت بيوت درعا لمشافي" و"يقتحم المسجد العمري" فيها و"يحرره من المصلين" ويستخدم "الدبابات" ومدافعها ورشاشاتها ل"يحاصر" المدن و"يقصفها" و"يقتحمها" ف"يقتل المدنيين" و"يغتصب" افراد منه نساء ويقتل أخريات مخلفا وراءه "مقابر جماعية" وهو ما زال "يواصل القمع"، إلخ.، ناهيك عن التشهير والطعن في تاريخه الوطني والإشارة المتكررة غير البريئة إلى صمت مدافعه على جبهة الجولان المحتل وربط هذا الصمت بفتح نيران هذه المدافع داخليا ...



فمن هو المستفيد من "شيطنة" الجيش العربي السوري ونزع الصفة الوطنية وحتى الإنسانية عنه، وهل الإعلام المروج لهذه الحرب النفسية ضده يدافع حقا عن الشعب السوري، وهل يكون انتصار أي انتفاضة لهذا الشعب على جيشه الوطني، أو العكس، هو حقا في مصلحة الشعب السوري في ضوء المصير الذي آل إليه الشعب العراقي اليوم دون جيشه الوطني، ومن هو صاحب المصلحة في تغييب حقيقة أن الجيش العربي السوري اليوم هو الجيش العربي الوحيد الذي ما زال في حالة حرب رسمية وفعلية بالكاد يدرأ عن بلاده تهديدات الاحتلال الإسرائيلي في الغرب ومخاطر الاحتلال الأميركي في الشرق والذي خاض الحرب تلو الحرب بينما يطور قدراته القتالية أثناء الهدنة بين كل حرب وأخرى استعدادا للجولة التالية، فيما اتجهت فوهات مدافع معظم الجيوش العربية الشقيقة إما نحو بعضها أو نحو جيرانها أو انكفأت إلى الداخل ؟ ومن الواضح أن من يغيبون الحقائق ممن ليست لهم أي مصلحة في طرح مثل هذه الأسئلة وممن يريد خبراء الحرب النفسية من إعلامهم أن يصور بوعي أو دون وعي الأزمة في سوريا بأنها أزمة بين الشعب وجيشه أو بين الجيش وشعبه تغيب عنهم حقيقة أن التجنيد الوطني الشعبي وليست "الوظيفة العسكرية" هي المعين الذي يستمد الجيش السوري قوته البشرية منه بحيث يكاد يستحيل رسم خط فاصل بين الشعب وبين الجيش.



والاحتجاجات الشعبية في سوريا حقيقة لا يريد الإعلام المعادي رؤية غيرها، وتوجه النظام نحو الإصلاح حقيقة أخرى يتجاهلها هذا الإعلام ومن الطبيعي والمتوقع أن يمنحها النظام أولوية في تغطيته الإعلامية، وتدخل الجيش حقيقة ثالثة يعلنها النظام ذاته ويركز الإعلام المعادي عليها باعتبارها موجهة ضد المدنيين المحتجين سلميا، لكن الحقيقة المسلحة على الأرض التي تستهدف الجيش والشرطة والأمن والحزب الحاكم والتي استدعت تدخل الجيش فيجري تغييبها.



وإذا كان المراقب يمكنه أن يتجاهل موقف فنان حساس شفاف كان دائما معبرا عن نبض المواطن العربي في سوريا أم خارجها مثل دريد لحام الذي انحاز علنا ضد هذه الحقيقة المسلحة على الأرض، أو يتجاهل شهادة إعلامي مرموق مثل المستقيل من فضائية الجزيرة غسان بن جدو بدخول حوالي 300 مسلح إلى تلكلخ السورية من لبنان واستماعه شخصيا إلى اتصال هاتفي بين قيادي في قوى 14 آذار اللبنانية وبين معارض سوري بشأن تنسيق التغطية الإعلامية لأحداث سوريا كما قال يوم الجمعة الماضي، فإنه لا يمكن تكذيب وجود هذه الحقيقة المسلحة على الأرض التي استدعت تدخل الجيش بعد سقوط العشرات من الضحايا الضباط والجنود من الجيش السوري الذين لا يمكن بالتأكيد أن يكونوا قد سقطوا بنيران "المحتجين السلميين"، كما لايمكن أن يكونوا شخصيات وهمية، فالإعلام السوري يعلن وينشر أسماءهم ورتبهم وصورهم ومساقط رؤوسهم عندما توارى جثامينهم الثرى. إن سقوطهم في معارك بين وحدات من الجيش وبين عصابات مسلحة في درعا وبانياس وبابا عمرو وتلكلخ وغيرها يسقط الإدعاء الذي تم ترويجه في البداية بأن بعضهم سقط نتيجة إطلاق النار عليه من رفاقه العسكريين بدعوى رفضه إطلاق النار على المتظاهرين السلميين في المراحل الأولى لنشاط هذه العصابات عندما كانت "تقنص" ضحاياها.



يوم الخميس الماضي ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطابا كرر فيه كلمة "ديموقرطية" ووصف "ديموقراطي" ثلاثة وعشرين مرة، خصصه للدفاع عن "الحقوق العالمية" للشعوب في حريات الكلام والاجتماع والعبادة وسيادة القانون وحق الشعوب في اختيار قادتها سواء كان المرء "يعيش في بغداد أو دمشق أو صنعاء" دون ذكر اي عاصمة من العواصم العربية التي تدعم الحملة الأميركية في الدفاع عن هذه الحقوق وشعوبها محرومة منها، مما يفسر غياب كلمة واحدة مكونة من ثلاثة أحرف في خطابه هي "نفط"، أو ذكر القدس، مما يفسر إيراد كلمة الاحتلال مرة واحدة في سياق اعتباره موضوعا للتفاوض بين عرب فلسطين ومحتلي أرضهم الإسرائيليين.



وفي معرض تسويغه للحرب الدائرة الآن على ليبيا قال إنه لولا تدخل "الناتو" العسكري "لقتل الآلاف في ليبيا"، دون أي إشارة إلى أن هذا التدخل قاد حتى الآن إلى قتل بين عشرة آلاف وعشرين ألف ليبي حسب تقديرات الناتو وحلفائه الإقليميين والمحليين، ودون أي إشارة إلى حقيقة أن تدخل الناتو وقع عندما كانت طلائع القوات المسلحة الليبية قد دخلت بنغازي فعلا، وهي لوكانت دخلتها فإن الخسائر في الأرواح التي كان وقوعها مؤكدا ما كانت على أي حال خسائر يمكن حتى مقارنتها بالخسائر المستمرة في أرواح الليبيين بعد أن منعت من دخولها.



في أواخر نيسان / أبريل الماضي روجت وسائل الإعلام التي طغت عليها دعاية الحرب النفسية ما أعلنته سفيرة الولايات المتحدة لدي الأمم المتحدة، سوزان رايس، عن توزيع "حبوب الفياغرا" على القوات الحكومية الليبية لتشجيعها على "الاغتصاب" كسلاح ترهيب، وقال دبلوماسيون إن رايس لم تقدم أية أدلة على ادعائها، وفي الثلاثين من الشهر ذاته قال مسؤولون عسكريون ومن المخابرات الأميركية لشبكة MSNBC إن مزاعم رايس لم يكن لها أي أساس في ليبيا.



ومع ذلك انفجرت فجاة قصة إحدى حرائر عرب ليبيا، المحامية إيمان العبيدي، التي اقتحمت صالة فندق في العاصمة طرابلس لتروي باكية لمجموعة من الصحفيين الأجانب مأسأة الاعتداء الجنسي الجماعي عليها من "كتائب القذافي" قبل أن تتمكن بعد ذلك من الهروب للاحتماء في سفارة أجنبية بتونس ثم لتظهر مؤخرا في قطر. وتذكر قصتها بالقصة التي انكشفت عن كذبة كبرى ل"شيطنة" الجيش العراقي روتها على شاشات التفاز الأميركي ك"شاهد عيان" كريمة محتد أخرى من حرائر العرب عن الأطفال الكويتيين الذين أخرجتهم القوات العراقية من الحاضنات في إحدى المستشفيات ليواجهوا الموت.



ولم تكن "السفيرة" رايس هي النموذج السيء الوحيد للدبلوماسيين الغربيين كمجندة في خدمة الحرب النفسية الاستخبارية. فعميد الدبلوماسة البريطانية وزير الخارجية وليام هيغ عندما أعلن غداة "تحرير بنغازي" عن معلومات لديه بأن العقيد القذافي كان قد غادر ليبيا جوا إلى فنزويلا، في تزامن مع عطل أو تعطيل شبكة الاتصالات الليبية، ومع "الخبر العاجل" في فضائيات عربية عن مقتل ابنه سيف الإسلام، مما خلق حالة إرباك وفوضى عامة قادت إلى"هرب الناس والشرطة، وهرب الجنود، وعاد الجميع إلى بيوتهم، ثم ذهب الناس وهاجموا مواقع الذخيرة، والثكنات العسكرية، وسرقوا الذخيرة والأسلحة، وبدأ التمرد المسلح. لقد كان كل شيء منسقا"، كما قال سيف الإسلام للواشنطن بوست في الثامن عشر من الشهر الماضي.



حقا إن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، والإعلام هو ضحيتها الثانية، لكن عندما تضيع الحقائق، ويتحول الإعلام إلى أداة في الحرب النفسية، تظل الشعوب التي تشن الحروب باسمها وتعلن وسائل الإعلام النفير باسم الدفاع عنها هي وقودها وفريستها الأولى والأخيرة.



* كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق