"الرحيل" الأول المطلوب عربيا/ نقولا ناصر


(الوضع العربي الراهن هو وضع ناتج أولا وأخيرا عن الاحتلال الأجنبي وقواعده العسكرية وأساطيله الحربية، وعندما لا تكون بوصلة الحراك الشعبي العربي متجهة نحو تغيير هذا الوضع فإن حرفها عن هذا الاتجاه سوف يقود إلى ديمومته لا إلى تغييره)


عندما تنشر صحيفة الاينديبندت البريطانية في الثاني والعشرين من الشهر الجاري بأن المعدل الشهري للعراقيين الذين يسقطون قتلى يزيد على الثلاثمائة، ويقول معهد بروكينغز الأميركي إن ربع مليون رصاصة تستهلكها الولايات المتحدة من أجل قتل مقاوم عراقي واحد، وتنقل الأسوشيتدبرس عن الكولونيل الأميركي ريجينالد ألين الذي يقود قوات الاحتلال في خمس محافظات جنوبية عراقية قلق بلاده من "البيئة التي تزداد خطورة" نتيجة تصاعد المقاومة العراقية في الجنوب، ويكون نوري المالكي المحاصر إلى جانب قيادة قوات الاحتلال في "المنطقة الخضراء" ببغداد يتمتع بصلاحيات يحسده عليها أي حاكم عربي دكتاتور أو مستبد كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة وبالوكالة وزيرا للدفاع ووزيرا للداخلية ووزيرا للأمن ورئيسا لجهاز المخابرات وتأتمر بأمره قوات "خاصة" لمكافحة "الإرهاب"، بينما تستمر منذ الخامس والعشرين من شباط / فبراير الماضي الانتفاضة الشعبية السلمية ضد حكمه وضد حكومته احتجاجا على فسادها وإنعدام الأمن وفقدان الخدمات الأساسية في ظلها وضد الاحتلال الأميركي الذي يحميها، ويستمر كذلك القمع الدموي لها، عندما يحدث كل ذلك وغيره الكثير ويظل العراق خارج دائرة الضوء في ثورات ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، مصطلح "الربيع العربي" في خضم الدفق السياسي والإعلامي الأجنبي والعربي المحرض على تغيير الأنظمة و"رحيل" القادة، فإن إشارة تحذير حمراء يجب أن تنطلق على الفور كي لا يفقد الحراك الشعبي العربي بوصلته، وبخاصة في العراق.

والوضع العربي الراهن الذي تهتز أركانه في مواجهة الحراك الشعبي العربي المطالب بتغييره هو وضع ناتج أولا وأخيرا عن الاحتلال الأجنبي وقواعده العسكرية وأساطيله الحربية فوق الأرض والمياه العربية، وعندما لا تكون بوصلة الحراك الشعبي العرب متجهة نحو تغيير هذا الوضع الراهن فإن حرفها عن هذا الاتجاه سوف يقود إلى ديمومته لا إلى تغييره.

إن الضخ الإعلامي في اتجاه يعاكس الاتجاه الطبيعي لبوصلة الحراك الشعبي العربي الذي يعتم حاليا على حقيقة أن الرحيل الأول المطلوب عربيا في الوقت الحاضر هو رحيل الاحتلال عن العراق وفلسطين ورحيل القيادات العراقية والفلسطينية والعربية التي تتأقلم مع الاحتلالين كأمر واقع هو ذات التعتيم الإعلامي الذي دفن الحقائق المرعبة التي كشفتها وثائق "ويكيليكس" العام الماضي والتي قدمت "أدلة كافية لإدانته (نوري المالكي) بأكثر من 50 قضية تضمنتها الوثائق، وبوقائع محددة، منها قيادته لمليشيات .. يشرف عليها ارتكبت جرائم حرب مركبة من جرائم إبادة وجرائم ضد الانسانية، ووثائق الإدانة لا تقبل الشك أو التأويل، لأنها وثائق صادرة عن الجيش الأميركي وأكد المسؤولون الأميركيون مصداقيتها"، كما كتب الأكاديمي العراقي د. عادل البياتي في حينه مضيفا أن وزيرة حقوق الإنسان في حكومة المالكي صرحت بأنها لم تفاجأ بالوثائق وأنها كانت تعرف وقائعها.

قدر رافع العيساوي، وزير المالية في حكومة المالكي، الانفاق المتوقع في الميزانية العراقية للسنة المالية 2012 بحوالي (115) تريليون دينار عراقي (حوالي 102.9 مليار دولار أميركي) في بلد عربي أكد مسؤولوه الحاليون مؤخرا أنه يملك ثاني أكبر احتياطات نفطية العالم. ومع ذلك فإن المواطن العراقي مجيد "أبو عراق"، الذي يعمل مصلحا لأجهزة الهاتف الخلوي، والمغرم بحب وطنه حبا دفعه إلى إطلاق اسم عراق على ابنه البكر واسم بغداد على ابنته، قد انضم إلى المحتجين في ساحة التحرير بالعاصمة العراقية وهو يلف جسمه بالعلم العراقي لأنه عاطل عن العمل ولا يستطيع بناء سكن يملكه بالرغم من وطنيته كما قال للكريستيان ساينس مونيتور يوم الثلاثاء الماضي، مع أنه ليس واحدا من كل ستة عراقيين يعيشون في فقر على ما يعادل دولارين في اليوم، لأن مسؤولا في القاعدة العسكرية والاستخبارية الأميركية التي تسمى سفارة الولايات المتحدة في المنطقة الخضراء يعد "أبو عراق" قائلا على ذمة الصحيفة الأميركية ذاتها: "أنا لا أعتقد بأن العراق سوف يكون في أي وقت من الأوقات دولة بترولية" بسبب النمو المتسارع في عدد السكان الشباب حيث أن حوالي (40%) من ثلاثين مليون عراقي تقريبا هم الآن دون سن الخامسة عشرة، وكأنما يخير هذا المسؤول الأميركي العراقيين بين التمتع بثروتهم الوطنية وبين الاستمرار في التكاثر الطبيعي بمنطق يوحي بأنه من الأفضل "خصيهم".

لذلك من الطبيعي أن يكون رحيل الاحتلال الأميركي في رأس مطالب الحراك الشعبي السلمي العراقي. وكان عنوان جمعة الغضب العراقي الأخيرة هو "جمعة الوعد الكاذب"، في إشارة إلى وعد المالكي بتلبية مطالب انتفاضة 25 شباط خلال ثلاثة أشهر يطلب الآن تمديدها، للتأكيد بأن أي وكيل للاحتلال الأميركي الذي انكشفت كل ذرائعه لغزو العراق واحتلاله عن أكاذيب فاضحة لا يمكن أن يكون أصدق من الاحتلال الذي يحاول تمكينه من الحكم بالنيابة عنه.

وفي هذا السياق يلفت النظر المناورات التي تقوم بها "الكتل السياسية" المؤتلفة أو المختلفة في إطار "العملية السياسية" الأميركية للتفريق بين المحتل الأجنبي وبين وكيله المحلي. فالمظاهرة التي حشد لها "التيار الصدري" في نهاية الأسبوع الماضي للمطالبة برحيل الاحتلال الأميركي خير مناورة للحق الذي يراد به باطل. فالجماهير التي خرجت بعشرات آلافها للمطالبة برحيل الاحتلال وعدم التمديد لبقاء قواته في العراق لا يمكن إلا أن تكون صادقة في مطلبها ودوافعها، غير أن التساؤل عن السبب الذي يمنع قيادتها الصدرية من حشدها للانضمام إلى الحراك الشعبي السلمي المطالب برحيل حكومة وكيل الاحتلال ورئيسها وفسادها كجزء لا يتجزأ من الاحتلال ونظامه وإرثه، أو الانضمام بسلاحها الذي يتمتع ب"إجازة" من مقاومة الاحتلال إلى المقاومة الوطنية للاحتلال التي لم تأخذ إجازة ولو ليوم واحد منذ الغزو عام 2003، فإنه تساؤل يكشف الباطل الذي يتستر وراء هذا المطلب الحق والمحق. فالفضل في وصول نوري المالكي إلى سدة الحكم الذي يطالب الحراك الشعبي برحيله يعود إلى "التيار الصدري" ودعمه، لذلك فإن حكومة المالكي هي حكومة التيار الصدري أيضا.

وعشية الموعد المقرر لرحيل قوات الاحتلال الأميركي نهائيا عن العراق في نهاية العام الحالي كان من الطبيعي أن تتفكك شراكة الأمر الواقع الأمنية بين إيران وبين الولايات المتحدة في العراق، ومن الطبيعي كذلك أن يطالب "أنصار وأصدقاء" إيران برحيل الاحتلال الأميركي دون المطالبة برحيل وكيله المحلي المتمثل فيهم، ومن الطبيعي أيضا أن يكون الحراك الشعبي السلمي المستمر والمتصاعد تهديدا للاحتلال الأجنبي بقدر ما هو تهديد لهم، ولذلك كان لا بد من حرف بوصلته مرة بالتظاهر ضد أميركا وأخرى بالتظاهر للتضامن الطائفي لا القومي أو الإنساني مع "الأشقاء في البحرين"، لكن ولا مظاهرة ضد الممثل المحلي للاحتلال الأميركي المسؤول الأول والأخير عن معاناة الشعبين العراقي والبحريني على على حد سواء، دون أي حرج من التناقض بين الدعم والتحريض ضد الحكم في البحرين الذي عمره من عمر الاستقلال الأميركي تقريبا والذي كان موجودا قبل أن ترث الامبراطورية الأميركية سابقتها البريطانية في الهيمنة على المنطقة بوقت طويل بدعوى الدعم الأميركي له وبين الدفاع عن الحكم الذي أقامه الاحتلال الأميركي في العراق منذ ثماني سنوات فقط وبالكاد يقف على قدميه حتى الآن في مواجهة المقاومة الوطنية له.

إن اغتيال المدير التنفيذي لهيئة اجتثاث البعث التي أنشأها الاحتلال الأميركي وأعطاها وكلاؤه المحليون اسم هيئة المساءلة والعدالة، علي سيف حمد اللامي، يوم الخميس الماضي قد سلط الأضواء على مشكلة انعدام الأمن التي تتفاقم في العراق بالرغم من وجود حوالي مائة ألف جندي و"متعاقد أمني" أميركي وحوالي مليون مجند في أجهزة "قوى الأمن" العراقية التي أنشأها الاحتلال، أو ربما يكون الأدق القول بسبب وجودها في المقام الأول، بعد مضي ثماني سنوات من الاحتلال. فخلال نيسان / أبريل الماضي، حسب وزارة الداخلية في حكومة المالكي، وقعت خمسون عملية اغتيال مماثلة بأسلحة كاتمة للصوت كان منهم قادة في الجيش والشرطة ونائب وزير ورئيس مصلحة الضرائب وعضو برلمان وقاضي ورئيس المسرح الوطني. وحسب وزارات الدفاع والداخلية والصحة قتل (211) عراقيا في الشهر ذاته منهم (120) مدنيا وجرح (377) عراقيا منهم (190) مدنيا، بينما قتل في الشهر الذي سبقه (247) عراقيا وجرح (370). وفي تشرين الأول / اكتوبر من العام الماضي صرح مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان اسانج، لفضائية السي إن إن إن بأن الوثائق الأميركية التي كشفها تحدثت عن "حمام الدم" في العراق وأوضحت أن عدد الضحايا العراقيين للاحتلال الأميركي يزيد خمس مرات على عدد ضحايا الحرب الأميركية على أفغانستان. ومع ذلك ما زال العراق خارج دائرة ضوء الدعوة إلى "التغيير والرحيل".

غير أن اغتيال اللامي يسلط الضوء كذلك على العقوبة الجماعية التي يفرضها الاحتلال ووكيله في المنطقة الخضراء عبر "مصفاة" هيئة المساءلة والعدالة على الملايين من خيرة الكوادر العراقية الماهرة والمدربة التي تحتاجها الدولة العراقية بحجة "اجتثاث" حزب البعث، لكن بهدف استنزاف المزيد من الثروة الوطنية في التعاقد مع بدائلهم من "الخبراء" الأجانب. إن الضجة السياسية التي أثارها إقصاء الهيئة لأكثر من خمسمائة مرشح في الانتخابات الأخيرة، حسب "مفوضية الانتخابات"، قد أعادت تسليط الضوء على هذه العقوبة الجماعية. وفي شباط / فبراير العام الماضي "اجتثت" الهيئة (376) ضابطا من المراتب العليا في الجيش والشرطة كان منهم مدير الاستخبارات العسكرية، ثم يأتي وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إلى بغداد مؤخرا ل"لإقناع" وكلائه فيها بطلب التمديد لبقاء قوات الاحتلال بحجة عدم جاهزية الجيش العراقي بعد!

لكن الأخطر في قرارات "الاجتثاث" أن القوائم الي تعلنها الهيئة لمن تشملهم بقراراتها سرعان ما تتحول إلى قوائم للتصفية الجسدية خارج نطاق أي قانون على أيدي عملاء المخابرات الإيرانية والمليشيات الطائفية الموالية لها. إن اعتقال قوات الاحتلال الأميركي لعلي اللامي في أيلول / سبتمبر عام 2008 في مطار بغداد أثناء عودته من لبنان إلى العراق بجواز سفر مزور قبل ان تفرج عنه في آب / اغسطس العام التالي بتهمة كونه قائدا بارزا في مثل هذه المجاميع الإيرانية ومسؤولا عن تصفيات جسدية مماثلة لأكثر من (450) "مجتثا" هو اعتقال يذكر بأن هذه الهيئة التي كان يقودها مع أحمد الشلبي وانتفاض قنبر هي إحدى أهم الواجهات الإيرانية في العراق. إن مسؤولية هذه الهيئة عن الآف التصفيات الجسدية خارج القانون وعن حرمان مئات الآلاف من العراقيين من الحق في العمل وكسب الرزق سوف تظل بانتظار محاكمة عادلة للهيئة ومسؤوليها، لكنها إلى ذلك الحين قد تحولت إلى دافع قوي للحراك الشعبي العراقي من أجل "التغيير والرحيل".

إن الغليان في الشارع العراقي لا يقل بل يزيد على أي غليان في أي شارع عربي، إذ بالإضافة إلى كل الأسباب السابقة وغيرها للثورة الشعبية في العراق و"في خضم كل هذه الاحباطات، فإن الاقتصاد لا يخلق وظائفا، والخدمات لا يتم تقديمها كما ينبغي – فأين يوجد عدم الثقة؟ إنه في السياسيين"، كما قالت د. سيمونا مارينسكيو التي تشرف على إعادة هيكلة (176) شركة تملكها الدولة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وإعادة هيكلة هذه الشركات تنذر بمزيد من البطالة التي تحرك قطاعا كبيرا من الشارع العراقي كون القطاع العام للدولة يشغل أكثر من ستين في المائة من قوة العمل العراقية.

ومن المؤكد أن المالكي قد فشل في الوفاء بوعوده الخاصة بتوفير الخدمات خلال مائة يوم تنتهي في السابع من حزيران / يونيو المقبل. وقد أنشأت حوالي عشرون منظمة شبابية "هيئة تنسيق الحراك الشعبي" وأعلنت عن "جمعة القرار والرحيل" في العاشر من الشهر المقبل لتكون "يوم الفصل والقصاص وحدا فاصلا لكل الذين شاركوا في إذلال هذا الشعب. فلقد اشترك الجميع في هذه الجريمة ولن نستثني أحدا ممن اشتركوا في حكومة المحاصصة الطائفية الفاسدة" كما قال ناصر الياسري الناطق باسم حركة 15 شباط الشبابية (ايلاف)، مما ينفي ما تنبأ به تيم أرانغو ومايكل شميدت في النيويورك تايمز في الثامن عشر من هذا الشهر من أن "الاحتجاجات" العراقية "قد انتهت كما انتهت إليه الاحتجاجات في البحرين وسلطنة عمان".

ف"يوم الغضب" العراقي الشعبي الذي انطلق في الخامس والعشرين من شباط / فبراير الماضي يبدو مرشحا لانفجار مزيد من الغضب، ويبدو المالكي وحكومته مستعدون للتصدي لهذا الحراك حتى لو قاد ذلك إلى الولوغ أكثر في دماء العراقيين. ويتلخص موقفهم في قصة الناشطة الشبابية فاطمة أحمد التي أوردتها منظمة العفو الدولية في تقريرها عن العراق للشهر المنصرم: "إذا لم توقفي نشاطاتك السياسية المعارضة، فإننا سوف نختطفك، ونغتصبك، ونصور الاغتصاب على شريط فيديو" كما هددها مسلحون ذهبوا إلى بيتها أثناء "يوم الغضب". إن مثل هذه التهديدات، وصحوة المالكي على المصالحة الوطنية التي دعا إليها مؤخرا باستثناء مع البعثيين، وإلغاء صفقة شراء طائرات إف-16 الحربية الأميركية بعد انفجار يوم الغضب العراقي، هي جميعها شواهد على خوف حقيقي من الحراك الشعبي العراقي ضد حكومته وضد "العملية السياسية" التي جاءت بها وضد الاحتلال الذي هندسها ويحميها.



وبالرغم من كل ذلك وغيره، ما زال العراق خارج دائرة الضوء الإعلامي والسياسي ل"الربيع العربي" الذي لن تزهر براعمه حقا إلا إذا احتل العراق المرتبة الأولى في الدعوة الجارية إلى "التغيير والرحيل".



* كاتب عربي من فلسطين

* nassernicola@ymail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق