مائة عام على مرور ذكرى النكبة/ أحمد عرار

ما الذي سيختلف بعد أربعون عاما من الآن ؟ هل سنحيي الذكرى المائة للنكبة أم سنحتفل بتحرير الأرض وقيام دولة فلسطين؟

يقول محمد بريش خبير الدراسات المستقبلية إن معرفة المستقبل ليست تخمينا و ليست أمنيات وأحلام لكنها دراسة للواقع، واستكشافاً للتيارات الغالبة و الباحث المستقبلي يبدأ من دراسة الواقع المعاصر بناء على مآلات ممكنة، ومستقبلات تُراد، فالقضية ليست اهتمام بما سيقع بعد 20 أو 30 سنة بقدر ماذا سيقع لو أننا اتخذنا القرار الفلاني، والفلاني بعد سنوات محدودة. فالقرارات المزمع اتخاذها الآن هي التي تحدد شكل المستقبل.

إن الدارس الموضوعي للواقع العربي وحتى المنحاز لقضيته العربية، يستطيع أن يعترف بأن الخطاب القومي العربي ظل حتى الآن، خطاباً أيديولوجيا ورومانسياً، كما يعبر عن ذلك منطوقة ومضمونه، فهو ميتافيزيقي في تعريفه "الهوية" القومية العربية، وهو أيديولوجي في تصوره المشرع القومي العربي، في ماضيه القريب ومستقبله المفترض، وهو رومانسي في تحديد مكانة العرب والقومية العربية ضمن التاريخ الإنساني، المعاصر منه والمستقبلي.

فليست "الهوية" القومية في هذا الخطاب مشروعاً للنضال مستقبلياً مفتوحة على احتمالات التاريخ، وقابلة من منطلق الإرادة الواعية لأن تخضع لصيرورة معقدة من التشكل والتبلور والتطور، وإن تتمتع بتاريخية خاصة وباستقلالية نسبية عن الأيديولوجيات، بل هي ليست فيه حتى ذلك التصور الذي يمكن أن يكون مشدوداً إلى مرجعية تاريخية ما "تلعب فيه دور الشحنة الرمزية" التي تُلهب النضال القومي وتحافظ له على حرارته، وإنما هي في هذا الخطاب معطى جاهز ثابت متحقق في التاريخ، إنها حقيقة ماضوية تقع في زمان ما ومكان ما، لكن ميزة هذا الزمان أنه زمان غير تاريخي، أو هو لا يبقى في هذا الخطاب تاريخياً (من حيث هو زمان الماضي)، بل يصبح زماناً مطلقاً خارج التاريخ، يفيض عن حدوده ليطول الحاضر والمستقبل،كما يؤكد على ذلك المفكر المغاربي عبد الله العروي في كتابه الهام العرب و الفكر التاريخي.

أسئلة كثيرة هي غيض من فيض لم يهتم له الخطاب القومي العربي، وأسئلة لم يتسع لها نظامه الفكري المغلق على البداهة، فيما لن يتاح للخطاب القومي أن يتأسس جاداً على غيرها. إذ ليس بالبداهة، وليس بالحقائق المطلقة سيواجه العرب مصيرهم. بل بالسؤال القلق، وبالمعرفة الموضوعية المتسلحة بالتاريخ، والمتحررة نسبياً على الأقل من تأثير الأيديولوجيا كما يقول عبد الإله بلقزيز بأن:" نظام الخطاب القومي سرعان ما يهتز ببداهاته المتكلسة حين يجابه أسئلة كهذه ؟". فالمشروع القومي العربي أما أن يتأسس على الحقيقة والتاريخ (ضمانته الوحيدة) أو لا يكون، فخطاب "الهوية" لا يقف عند حدود الماضي فقط، ولا يكشف عاهته هنا فقط (وليت الأمر كان محصوراً عند هذا الحد.)، بل إن مأساته الفعلية واقعة في ذلك التماثل الذي يقيمه بين الماضي والحاضر بصورة يتوقف فيها الزمان التاريخي ليحل محله زمان المطلق. الحاضر استمرار طبيعي للماضي، ونتيجة له، حلقات التاريخ متصلة، إيقاعها ثابت، والبداية (بذرة التاريخ) هي هي النهاية: "دائرة يرتسم فيها الزمان لتنغلق على التحول". إنه المطلق، ذلك المبدأ الذي يحكم الخطاب القومي العربي ويصدر عنه.

إن دعوات إحياء وبعث الشخصية القومية العربية التي ينادي بها الرومانسيون العرب أو الدجالون كما اسميهم أنا ، كعزمي بشارة مثلاً، كناية عن مصادرات، إنه منطق البداهة الذي يجيز ذلك الإقرار اليقيني بتماثل الماضي والحاضر، وهو عينه الذي يحرم التفكير في صحة القول بوجود قومية عربية قبل العصر الحديث. وكما أن نقطة الخلل القاتلة في دعوات الإحياء والبعث القومي هي عجزها السياسي عن تصور مشروع قومي مستقبلي خارج التصديق على حجية الإطار المرجعي الماضوي، وانحصارها في نظاق موقف تقليدي إحيائي، فإن المعادل الفكري لهذا العجز هو نزعتها السلفية التي تؤسس لذلك الإنكفاء وتجيزه وتبرره.

إن خطاب "الهوية" الإحيائي يعي حقائق وتحولات العصر الراهن "عصر الرأسمالية الامبريالية" ما في ذلك شك ويدرك أخطار التجزئة والتبعية وأطماع الاستعمار، وهي حقائق كانت تكفيه لإعادة النظر في نمط رؤيته للمشروع الاجتماعي المطلوب، وكانت تكفيه لاستكمال العدة الفكرية لمجابهة تحديات الانعطاف الذي عاشه العالم العربي منذ دخوله في دائرة قوانين العصر الكوني، لكن خطاب "الهوية" الإحيائي هذا، حكم على نفسه بأن يضخ الأيديولوجيا ولا شيء غيرها في شرايين المجتمع فحكم على المجتمع بأن يتخلى عن قراءة "ذاته" في اشتباكه اليومي مع معضلات وأحكام العصر الحديث كما يؤكد على ذلك المفكر الفلسطيني هشام شرابي في كتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي، إضافة إلى إن هذا الخطاب سقط في التبشير باستعادة الذات لذاتها والمصالحة مع عصورها الذهبية. فكانت النتيجة معاكسة، فها نحن نشهد طور صراع مرير حول تعريف تلك "الذات": هل هي إسلامية أو عربية؟، بل ها نحن نعيش المد الطائفي والمذهبي والعشائري في كل الأقطار العربية، والكل منزوع الإرادة أمام جرافة العصر والتدخلات الأمريكية.

قد يكون ما سبق ذكره مقدمة لفهم الحاضر المرتبط مرضياً بماضيه فحين يكون الخطاب القومي على هذه الصورة من التهافت، وحين تكون علاقته بالواقع على هذه الدرجة من الالتباس، وحين يذهب في رومانسيته حداً من اللاتاريخية، فهو يعلن عن سقوطه المتجدد في شرك فكر "الهوية" . المشروع القومي هو هو، دائماً في ذاته، نستعيده حاضراً كما كان ماضياً، ونخرج به مستقبلاً إلى العالم كي نقوده، لنقول قيادة الدنيا كانت لنا وعليها أن تبقى لنا، وينبغي أن تكون لنا غداً ، مستذكرين صلاح الدين وحطين "هاكم الماضي والمستقبل في هذا الخطاب (هاكم الغائب)، فأين الحاضر، أين الشاهد؟ أين مشكلات التبعية والتخلف والتجزئة والأمية والجوع ، أين مشكلات الاستبداد وملفات السجون العربية وقضايا حقوق الإنسان ؟ أين هو المواطن العربي ؟ ومن الذي غيبه هل هي أمريكا أم إسرائيل أم أنظمة عربية ساقطة وأيدلوجيات عفنة عملت على مدار عقود على تهجين الإنسان العربي وخنزرته من خلال قمح حرياته وسلبه الكرامة وحرية الرآي بالمساومة على رزقه من خلال نظريات سياسية عربية قذرة كنظرية "جوع كلبك يتبعك" وغيرها من النظريات التي ساهمت إلى اغتراب المواطن العربي وضعف انتمائه الوطني كما يقول حليم بركات .

إن الخطاب القومي العربي خطاب لا تاريخي، إذ هو يتعامل مع "الممكنات الذهنية" كما لو أنها "معطيات واقعية" على حد تعبير محمد عابد الجابري.

وختاما أقول بان مستقبل الأربعون عاما القادمة هي أحياء للذكرى المائة للنكبة وان لم نقف من الآن وقفة جادة أمام كل هذا الدجل والكذب لمراجعة نقدية لأحوالنا ولذاتنا المريضة فإننا لن نحيي حتى الذكرى المائة للنكبة بل سنحيي ذكرى احتلال ما تبقى من ارض فلسطين ولجوؤنا جميعاً إلى دارفور قريباً.......

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق