سيدي السفير الدكتور عبد الله الأشعل قرأت مقالك الرائع، ككل كتاباتك، الذي نشرته مجلة المجتمع الكويتية يوم 16 تموز والذي كان تحت عنوان: (قبل فوات الأوان.. قراءة أمينة في معادلات المشهد السوري) والذي عبرت فيه بصدق عن حبك لسورية وإشفاقك عليها من أن تذهب إلى المجهول بفعل ما يحدث على ساحتها من ثورة سلمية هدفها انتزاع الحرية والفوز بالعدالة والكرامة والذهاب بسورية إلى دولة مدنية ديمقراطية تقوم على أسس العدالة الاجتماعية واحترام الإنسان والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة كما يحدث في معظم دول العالم، والشعب السوري بما حباه الله من طاقة خلاقة وإبداع مميز وفكر مستنير يستحق أن يعيش حراً كريماً في بلده، ويكون عنصراً فاعلاً في المجتمع الدولي والإنساني.
وكان رد السلطة الحاكمة التي يقودها صديقك – كما قلت في مقالك – الدكتور بشار الأسد الذي استبشر به الشعب السوري وتفاءل بمستقبل لسورية يختلف تماماً عن حقبة أبيه التي تميزت بسادية ظالمة وحكم ديكتاتوري مستبد، رغم وصوله إلى الحكم بطريق غير شرعي بعد ليّه لعنق الدستور السوري واستبدال مادة كاملة بمادة أخرى لتتوافق مع سنه ليكسب شرعية تبوء الحكم، وقبل الشعب به على أمل التغيير إلى الأصلح بصفته – كما قلت – شاب مستنير متعلم عاش فترة في بلاد أم الديمقراطية الحديثة بريطانيا، وأنت يا سيدي وكل المهتمين بسورية والمشفقين عليها تعرفون قصة ربيع دمشق وما تبع ذلك من قمع لنخبة من مثقفي سورية وأخيارها ووطنييها وسوقهم إلى المحاكم وزجهم في السجون والمعتقلات لا حاجة للتذكير بها.
أقول لقد واجه صديقك الرئيس بشار الأسد المظاهرات السلمية التي رفعت شعار الإصلاح والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية بالرصاص الحي واعتقال الأطفال الذين اقتلعت أظافرهم وشوهت وجوههم ومات بعضهم تحت التعذيب وكان من بينهم الفتى ذو الثالثة عشرة من عمره (حمزة الخطيب) الذي عرضت صورته قبل موته وبعد موته وقد ظهرت عليه آثار التعذيب، التي لا يمكن وصفها أو إعادة روايتها لأنه لم تعد لنا طاقة في تحمل قراءة أو سماع مثل تلك الحالات التي تدمي القلوب، وقس على ذلك سيدي السفير الكثير والكثير، لا أريد الخوض في مفرداتها ووقائعها فهي لم تعد سراً خافياً على أحد وأنتم ولا شك تتابعون وتشاهدون وتسمعون.
لا اعتراض لي على ما جاء في مقالك الرائع إلا في نقطتين أساسيتين أخالفك الرأي فيهما، وأزعم أنني أدرى بها منكم، كما يقول المثل: (أهل مكة أدرى بشعابها)، ولا بد من تصحيح لا يحط من قدرك أو مكانتك مع شديد الاعتذار.
تقول سيدي في بداية مقالك أنك تذكّر بخمس حقائق لازمة لقراءة منصفة للمشهد السوري من وجهة النظر العربية، أي من وجهة نظرك، الحقيقة الأولى:
(أن نظام «الأسد» ظل يقاوم الضغوط الأمريكية والصهيونية، ولو كان قد خضع لهذه الضغوط لانضمت سورية إلى معسكر الاعتدال الذي قاده «حسني مبارك» بكل ما تمثله مصر من ثقل، وهذا هو سبب استبشار الجميع - بما في ذلك سورية - بأن تعود مصر إلى أمتها، ويُرفع الضغط عن سورية التي ظلت وحيدة رافعة راية الممانعة).
لاشك أن السياسة الإعلامية التي انتهجها النظام السوري الذي قبض على كل وسائلها المقروءة والمسموعة والمرئية في سورية واحتكرها ساعدته على تسويق دعاويه، وقد الغى الرأي الآخر وأقصاه ونفاه وأطفأ سراج عقله ومنعه من التعبير بوسائل إرهابية مخابراتية قاهرة، وسيطرة حزب البعث الشمولي الذي جعل منه القائد والموجه للدولة والمجتمع والذي عمل بمنهجية وتقنين على مسح ذاكرة الإنسان السوري منذ ولادته وحتى مواراته التراب لنحو خمسة عقود، وتمكن عبر دبلوماسيته النشطة من إقناع الشارع العربي بأكثرية مثقفيه وسياسيه بنهج النظام المقاوم والممانع دون أن يكلف هؤلاء أنفسهم بالبحث عن الحقيقة على الأرض التي كانت دائماً غير متجانستين.
سيدي السفير إن قناعتك بأن النظام السوري نظاماً ممانعاً، وأنه كان على الدوام يقاوم الضغوط الأمريكية والصهيونية بحاجة إلى مراجعة وتدقيق والعودة إلى الخلف قليلاً لقراءة الوقائع والحقائق جيداً وإذا ما فعلت فسوف تتراجع ولا شك عن قناعتك هذه، فالنظام الممانع يبني جيشاً ممانعاً ويبني إنساناً صحيحاً سوياً يكون القاعدة الصلبة والمتينة لهذه الممانعة، فجيش الممانعة الذي اعتمده النظام منذ إمساكه بالسلطة في سورية منذ العام 1963 وكوّنه على خلفية عمادها المحسوبية والعشائرية والولاء للنظام وليس للوطن، وإفساد ضباطه وقادته وانخراطهم في (البزنس) والتسابق على جمع الثروات، حتى صار بعضهم يحيي حفلات أعراس أبنائهم وبناتهم، ليس في فنادق خمس نجوم في دمشق، بل في جزر اليونان وفرنسا وإسبانيا، ولدي بعض الأسماء لا مجال لذكرها في هذا المقام، وهذا دفع الضباط الصغر رتبة إلى الانزلاق في مستنقع الفساد والرذيلة والتجارة بالمخدرات والسلاح، وهذا الواقع جعل هؤلاء الضباط والقادة يتمسكون بالنظام ويعضون عليه بالنواجز، ويفعلون بشعبهم ما لم يفعله العدو بعدوه، حتى لا يسقط النظام وتذهب المكاسب الرخيصة التي في أيديهم وليذهب الوطن إلى الجحيم.
أما عن قولك إن النظام السوري نظام يقف في وجه الضغوط الأمريكية والصهيونية فهذا أمر يجافي الحقيقة والواقع، فلو عدنا إلى عام 1976 عندما دخلت القوات السورية إلى لبنان دخلت بضوء أخضر من تل أبيب وواشنطن بهدف القضاء على المقاومة الوطنية اللبنانية وقد فعلت، ثم طلب منها تصفية المقاومة الفلسطينية بعد إخفاق إسرائيل في فعل ذلك عبر حربين شنتهما على لبنان واحتلت في ثانيتهما بيروت، فكان لتل أبيب وواشنطن ما أرادتا حيث أجبرت القوات السورية ياسر عرفات وقواته على الرحيل من لبنان بعد أن أعمل الأسد الأب السكين في تقطيع أوصالها وذبح رجالها في مخيم عين البارد وتل الزعتر وعين الباشا وصيدا وطرابلس، وبعد أن تمكن من فعل كل ما طلب منه توجه إلى دعم طائفة دون باقي الطوائف الأخرى وجعل منها قوة يصعب الوقوف بوجهها من كل الطوائف الأخرى في لبنان مجتمعة، والتي تعبث حالياً بأمن لبنان وشعبه تحت ستار المقاومة وحمايتها، وقد كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية العديد من أفراد هذه المقاومة كانوا عملاء للموساد الإسرائيلي، كما وجهت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مذكرات توقيف بعدد منهم متهمين بقتل الرئيس رفيق الحريري.
كما لا يفوتني تذكيرك سيدي السفر بموقف حافظ الأسد من الحرب العراقية – الإيرانية ووقوفه إلى جانب إيران ضد العراق، دون كل العرب، ومدهم بالسلاح والمساعدة اللوجستية والمواد التموينية كلف سورية والشعب السوري إلى السقوط في مستنقع الفقر والعوز والحاجة وتدني قيمة الليرة السورية عام 1984 إلى درجة مخيفة (الدينار الأردني= 180 ليرة) وإلى فراغ الخزينة السورية التي قال عنها وزير الدفاع السوري الأسبق العماد مصطفى طلاس في مذكراته: (عند نشوب الأزمة بين الرئيس حافظ الأسد وشقيقه الطامح للسلطة رفعت الأسد عام 1984 وتمكنا من إقناعه بالسفر خارج البلاد مقابل مبلغ معين يدفع له، وعند طلب المبلغ من البنك المركزي وجدنا أن البنك خالياً لا يوجد فيه دولار واحد مما دفعنا إلى الاستنجاد بالصديق معمر القذافي الذي أرسل لنا مباشرة مبلغ 25 مليون دولار رضي بها رفعت الأسد وغادر سورية)، وأذكرك سيدي السفير بمشاركة حافظ الأسد بالعدوان الثلاثيني الذي قادته أمريكا ضد العراق عام 1991، وبتقديم النظام السوري الدعم اللوجستي والمخابراتي للقوات المريكية التي غزت العراق عام 2003 وتقدير افدارة المريكية التي أعلنت أنه (لولا الدعم السوري لكنا دفعنا الكثير من الخسائر البشرية) إضافة إلى استضافة سجون وأقبية التعذيب للمخابرات السورية للعديد من السجناء العرب والمسلمين المعتقلين الذين أرسلتهم المخابرات الأمريكية من العراق وافغانستان لانتزاع المعلومات منهم والاعترافات على الطريقة الأسدية السورية. وأذكرك بهدوء الجبهة السورية منذ العام 1974 بعد عقد النظام السوري اتفاقية فك الاشتباك عند الكيلو 54 والتي تضمنت بعض بنودها السرية تأمين الحدود الشمالية لإسرائيل.. هذه هي حقيقة زيف الممانعة التي تمكن إعلام النظام السوري ووزارة خارجيته من تسويقها للعالم العربي وتمكن من تضليل الشارع العربي لسنوات، إلى أن فضح هذا النظام بعد انتفاضة الشعب السوري ومطالبته بالإصلاحات والحرية والكرامة والتداول السلمي للسلطة.
النقطة الأخيرة – واعذرني على الإطالة سيدي السفير – والتي تقول فيها: (لا أدري لماذا أتصور دائماً أن المخطط ضد سورية يهدف إلى انتقام «تل أبيب» و«واشنطن» لاحتمالات ضياع مصر من أيديهم، فقد خسر الاثنان رأس معسكر الاعتدال العربي، والآن يردون بضياع رأس معسكر الممانعة العربية).
أستشف من الذي تقوله وكأن في سورية اليوم مؤامرة – كما يردد النظام – مؤامرة على رأس معسكر الممانعة انتقاماً على خسارة واشنطن وتل أبيب من ضياع مصر من أيديهم بعد سقوط رأس معسكر الاعتدال، وهذه المعادلة قد جانبك فيها الصواب، فكيف يعقل أن تطالب واشنطن برحيل حسني مبارك بعد خمسة عشر يوماً من انطلاقة ثورة الشباب في مصر وهو حليفها، ولا تطالب برحيل بشار الأسد بعد أربعة أشهر من ثورة شباب سورية سالت فيه الدماء حتى الركب وهو عدوها والرجل الذي يقف على رأس الممانعة والتصدي والتحدي وإفشال أجندتها؟! وكيف تفسر لي سيدي السفير تباكي تل أبيب وقادتها على فقدان بشار الأسد ورحيله وهو القائد لمعسكر الممانعة والحاضنة للمقاومة والمتصدي للصهيونية؟! وكيف تفسر لي تراجع الولايات المتحدة عن قولها – عقب عدوان شبيحة النظام السوري على السفارة الأمريكية في دمشق – (إن الأسد فقد الشرعية) لنسمع كلاماً جديداً رقيقاً ناعماً نحو القيادة السورية من مهندسة الدبلوماسية الخارجية الأمريكية السيدة هلري كلنتون يوم السبت 16 حزيران تقول فيه: (لا أحد منا لديه تأثير حقيقي باستثناء أن نقول ما نعتقده ونشجع على التغيير الذي نأمله). مضيفة أن (ما يجري في سورية غير واضح المعالم ومثير للحيرة لأن الكثيرين منا كان يحدوهم الأمل أن ينجز الرئيس الأسد الإصلاحات الضرورية).
أخيراً أعذرني سيدي السفير على مخالفتي لك في بعض ما جاء في مقالك وهدفي التصحيح وتنشيط الذاكرة وليس النقد والتفنيد، فسورية التي تحبها وتقدرها وتشفق عليها، هي بلدي وهي قطعة من كبدي وجزء أساسي من كياني وذاتي وأخشى عليها أكثر مما تخشى الأم على وليدها، ولأجل حبي لها وهيامي بها ضيّق النظام علي وعلى الآلاف أمثالي العيش في فضائها وتحت سمائها لأكثر من ثلاثين سنة، قاسينا خلالها من العذابات والمرارات والإيلام ما لا تستطيع وصفه مفردات اللغة العربية على بلاغتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق