كنت أعتقد أنّ ذروة معاناة الفلسطينيّين تكمن عند حواجز التّفتيش- حواجز الذّل-، ولكنّني فوجئت أنّ المعاناة هناك رغم قسوتها هي أسهل من معاناة اخوتنا عند بوّابات جدار الفصل العنصريّ.
حقيقة تكاد الدّمعة تطفر من عينيك وأنت تشاهد ما يجري عند الجدار. تصوّر أنّك تجلس على مقعدك في صالون بيتك تشاهد ما يجري هناك على شاشة التّلفاز: تصوّر كيف ستكون حالتك وأنت تشاهد باقة من أطفال احدى الرّوضات في جيل أربع سنوات أو أقل وهم في طريقهم الى البيت. يسيرون في طريقهم فرحين فرح الصّغار، ولكن حين يصلون بوّابة الجدار يتصدّى لهم جنديّ مسلّح، كالح الوجه، كلّ معاني الانسانيّة مغيّبة عنده، يوقف الصّغار طابورا، ويشرع مع زميل له بتفتيشهم، بدءًا من تفتيش محتويات حقائبهم الصّغيرة، ومرورا بتفتيش أجسادهم الغضّة، وانتهاء بتفتيش أحذيتهم، وعيون الصّغار مذعورة تتنقّل بدهشة بين يديّ الجنديّ وبين عيون الآخرين. انّهم صغار في عمر الحبق، لا يعرفون ما الّذي يجري، ما سببه، ولماذا هذا التّعامل الفظّ. وأنت على مقعدك (تنثال عليك الأسئلة، تعاين وترى ما يجري وتسأل هل يعقل أن تخاف دولة تعلن عن نفسها أنّها الأقوى في المنطقة من حقيبة طفل صغير؟ هل يهدّد هؤلاء الزّهور أمن هذه الدّولة؟ كيف ستفسّر ذلك؟ لا ينتابك على ما أظنّ سوى القرف من هذا التّعامل كما أصابني.
أو تصوّر وأنت تشاهد على الشّاشة ذاتها جنازة أحدهم تسير من القرية نحو المقبرة القابعة خلف الجدار لمواراة الجثمان، كيف يتصدّى هؤلاء الجنود الأبطال لموكب الجنازة عند البوّابة، يتفحّصون المشيّعين والنّعش والميّت. تصوّر كيف يضربون عرض الحائط بكلّ القيم الانسانيّة والأخلاقيّة، وهم يستخدمون أبشع وأقسى أنواع الذلّ والهوان. لا يفتحون البوّابة بعد التّفتيش كي تمرّ الجنازة بالشّكل الطّبيعيّ وانّما يجعلون المشيّعين ينتظرون وقوفا لساعة أو أكثر مع النّعش، لا لشيء الاّ لغطرسة وحقد قوميّ منزرعين في الصّدور. فحتّى الجنازات تخيفهم. لا احترام لحيّ أو لميّت عند هؤلاء، فطالما أنت فلسطينيّ عليك أن تعاني. دولة تدّعي أنّها الدّولة الدّيمقراطيّة الوحيدة في الشّرق، هكذا تتعامل، ألا يصيبك تقزّز كما أصابني. تحاول أن تغيّر القناة كي لا تصاب بالغثيان، ولكن يدك تتسمّر على جهاز التّحكّم، وعينيك تأبيان مبارحة المَشاهِد، مَشاهِد الذّل والقهر والقمع، واذا بك أمام مَشاهِد أخرى تثير فيك القرف حدّ التّقيّؤ، حيث ترى مجموعة من العمّال المرهقين المتعبين بعد يوم عمل شاقّ ومعاناة جريا وراء لقمة العيش وهم يصلون الى بوّابة الجدار، حيث يقوم هؤلاء الجنود بكلّ ما يكتنزونه من حقد وكراهية، وبكلّ ما تربّوا عليه من الغطرسة بايقافهم وتفتيشهم ساعات. تنظر الى الوجوه فترى الاعياء يرشح من الأجساد، والانكسار يقطر من العيون. ولكن ما العمل؟! لساعات طويلة يقف هؤلاء العمّال أمام بّوابة الجدار وبيوتهم لا تفصلها عنهم سوى بضعة أمتار، وعائلاتهم تنتظر عودتهم سالمين، كي يلتمّ الشّمل على وجبة عشاء متواضعة ساخنة، حرم منها هؤلاء طيلة ساعات النّهار، من مشرق الشّمس حتّى مغيبها. يزداد القرف ويتجمّع القيء في حلقك، ولكنّك لا تملك أن تفعل شيئا.
تصوّر أنّ لك أرضا تقع خلف الجدار، هي مصدر رزقك ورزق أفراد عائلتك، ولكنّها لِ"قدسيّة" الجدار صودرت ومُنعتَ من دخولها وفلاحتها، وهي لا تبعد عن مسكنك سوى مئات الأمتار، تصوّر هذه الأرض، مصدر الرّزق كيف يعيث فيها الجنود فسادا، وكيف تصبح مرتعا لنزواتهم ونزوات قطعان المستوطنين، وأنت تُمنع من دخولها، لا لشيء الا لأنّك فلسطينيّ. كيف ستكون مشاعرك؟.
تصوّر أيضا حين تشاهد حنفيّة ماء في بيت احدى القرى الفلسطينيّة ينزّ منها الماء خيطا رفيعا شحيحا. والماء هنا ليس للتّرف انّما لحاجات الانسان الضّروريّة: للشّرب وللأكل، وللغسيل، وللاغتسال. أي شعور سينتابك وأنت ترى هذا المشهد المأساويّ، على معرفتك أنّ عيون الماء حول القرية كثيرة أو كانت كثيرة؟! وحين ترفع عينيك عمّا تشاهد هربا من المنظر المحزن تشاهد مستوطنة لا تبعد عن القرية سوى مئات الأمتار يستجمّ سكّانها ويسبحون في بركة سباحة فاخرة، وحدائقها المحيطة بالبركة تروى برشّاشات تطلق الماء الغزير. أليس هذا هو القهر بعينه؟!!
كيف ستكون حالتك وأنت تشاهد مستوطنا كان في الماضي لصّا أو مجرما من حثالة البشر في امريكا أو في أوروبا، يعيش اليوم مرفّها ويسكن "فيلا" عُمِّرت له خصّيصا على أرض أنت تملكها بالطّابو، ورثتها عن آبائك وأجدادك من أجل راحته، وأنت تعيش في غرف ثلاث من الأسمنت متلاصقة، مبنيّة كيفما أتّفق لا تملك سواها وعندك سبعة أولاد بلا مأوى يضمّهم في المستقبل. كيف سيكون شعورك؟!
كيف ستشعر وأنت ترى على الشّاشة وفي وَضَحِ النّهار وتحت أعين الجيش شلّة من زعران البشر مسلّحة تخترق شوارع مدينة خليل الرّحمن التّاريخيّة، ويستفزّ أفرادها الرّجال والنّساء بالكلام البذيء تارة وبالأناشيد العنصريّة تارة أخرى، والآخرون من الخليل محتجزون وراء بوّابات حديديّة ليس بمقدورهم أن يفعلوا شيئا. أيّ حياة هذه؟ وأيّ عدل هذا؟
أسئلة كثيرة تلوب وتلوب ولكنّ المساءلة الأساس تبقى: من أعطى هذا الحقّ لهؤلاء؟ ومن شرّعه؟ من أباح لهم ذلك؟ وتدهش حين تعرف أنّ الدّولة الّتي تعلن عن تعاطفها مع هذه المَشاهِد، تُعاقَب من قبل أمريكا وغيرها.
لماذا كلّ شيء لهم مُتاح: أسلحة دمار شامل بأرقى التّقنيّات، سلاح نووي فرن ذرّي، احتلال، قمع، تجويع، تشريد، سجن، تعذيب، ولغيرهم ممنوع؟ من شرّع ذلك؟!
من شرّع الحصار على مليون ونصف مليون انسان يعيشون في قطاع غزّة تحت خطّ الفقر بكثير؟ من أعطاهم حقّ حرق المساجد في القرى والتّخريب في الأقصى المبارك- أقدس مقدّساتنا، وتجريف القبور في المقابر الآمنة؟!! وتتساءل: هل يجرؤ أحد في العالم كلّه على المسّ بكنيس لهم أو تجريف قبر؟!! ألا تقوم القيامة ولا تقعد؟! وتروح تفتّش عن اجابة لماذا هل عرقهم أصفى وحضارتهم أعرق؟ وتاريخهم أشرف من عرق وحضارة وتاريخ الآخرين؟ ولكنّك مهما اجتهدت لن تملك عن كلّ ذلك اجابة سوى أنّه الظّلم وعُهر العالم. وأنت في خضم كلّ ذلك تعضّ على شفتيك وتكتم ألمك وتقول: ما الّذي جنيناه؟ لماذا كلّ هذا؟ ثمّ لماذا كلّ هذا الصّمت من عالم يرى ولا يريم؟! وتزداد مأساتك حدّة لأنّك تعرف أنّنا شعب لا يريد حربا ولا ابادة انّنا شعب مسالم مطمعه ومشتهاه أن يعيش في دولة مستقلّة آمنا، فهذا حقّه ومناه أن يحيا حياة طبيعيّة ألا يحقّ لنا وعلى هذه الأرض الكثير ممّا يستحق الحياة، أسوة بباقي شعوب العالم.
كيف لنا تحقيق هذا الحلم؟ وهل نستطيع وحدنا ذلك؟ ونحن شعب أعزل يعيش أبشع احتلال عرفه التّاريخ؟ أين العالم؟ هذا العالم المتعاهر الّذي رأيناه يذرف الدّموع على ما شاهده أثناء الحرب على غزّة؟ أين ذهبت هذه الدّموع؟ لماذا لم تترجم الى أفعال؟ العالم يعي ويعرف أنّ كلّ ادّعاءات الاحتلال باطلة، وعلى رأسها ادّعاؤه بأنّهم يحتلّون أرضا لا شعبا. ولكن الحقيقة الممارسة على أرض الواقع أنّهم يحتلّون الأرض والشّعب، والغريب أنّهم يتلذّذون بالقهر وبالاذلال وبالتّعذيب: تعذيب النّفس والجسد، والأغرب أنّهم رغم ذلك يدّعون السّعي للسّلام. أيّ سلام هذا؟ وعلى ماذا سيبنى؟ أعَلى الوضع الرّاهن؟ يتشدّقون ليل نهار بأنّهم مستعدّون للاعتراف بقيام دولة فلسطينيّة ولكن اذا تفحصّت الأمر وتحرّيت الصّدق في هذا الادّعاء تصل الى نتيجة غريبة. هم يريدون دولة فلسطينيّة ولكن من ورق، على هواهم وحسب شروطهم ونظرتهم الفوقيّة العنصريّة. خذوا هذا الكم من الأرض العبوا فيه كما شئتم، ولكنّ المفاتيح بأيدينا، وكلّ شيء حيويّ بأيدينا- كلّ شيء يجب أن يمرّ عن طريقنا، واذا شاكستم سنوقف اللّعبة وكيف ذلك؟ وأيّ شعب عاقل يرضى بذلك؟ ونحن الفلسطينيّين المغلوبين على أمرنا رغم كلّ شيء صامدون وصابرون نؤمن بحقّنا، ونتوقّع أن تتغيّر شروط اللّعبة.
كم بنينا أوهامنا على العالم العربيّ، واذا به يتهاوى ويتخاذل، كم بنينا اوهاما على دول أخرى في الغرب، معظمها تراجع في اللّحظة الحرجة! كلّ العالم يسمع ويرى ويعترف بما يجري وبالحقّ الفلسطينيّ، اذا لماذا هاذا الصّمت؟ ولماذا هذا التّخاذل؟ لماذا لا تسعى هذه الشّعوب الى انهاء ذلك هل تخشى المحتلّ الى هذا الحدّ؟ هل له هذه القوّة الأسطوريّة عسكريّا واقتصاديّا هل سنصحو يوما عل الغرب وهو يقف في مواجهة المحتلّ ليحلّ الأزمة؟.
على كلّ مهما حصل ومهما يحصل نطمئن العالم والمحتلّ نحن مصمّمون وعازمون ولن يفتّت من عزمنا شيء، ولن تقوى قوّة على كسرنا، ومهما تمادى الاحتلال سنظلّ على أرضنا، نحمي ثراها بأسناننا وبأظافرنا، ونروّي ترابنا بدماء الشّهداء حتّى نحرّرها. فصبرا، يا شعبي صبرا، لا احتلال يدوم. وأنت كم تعمّدت بالتّجارب وكم خضت في جحيم المقلاة، وكم تمرّست بالمصاعب، وكم عاصرت المحن، ولكنّك خرجت من كلّ ذلك مرفوع الهامة موفور الكرامة. صبرا على الشّدائد، فلا بدّ للضّبع أن تبول على نفسها يوما، ولا بدّ للدّولاب أن ينفتل، ولا بدّ لهذا الاحتلال بكلّ ممارساته من قمع وذلّ وقهر أن ينقلع. صبرا وتأكّد أنّ الفجر قادم، فجر الاستقلال قادم لا محالة، فجر الدّولة المستقلّة وعاصمتها القدس العربيّ الشّريف قادم، فالحزن قد يولّد فرحا، والشّر قد يثمر خيرا والمأساة قد تفرّخ أملا، وخلف السّحاب غيث، ومع الشّدة فرج، ومع اليوم غد، وكلّ احتلال مصيره مزبلة التّاريخ. فالانسان هو الأبقى والأدوم، وطالما أنّنا نملك الطّاقات الواعدة المضحّية لن يهضم لنا حقّ مهما طال ليل الظّلم. فالحقّ سيحصحص مهما حاولوا تغيّيبه ايه يا شعبي النبيل
صبرا،" وطني- مهما نسوا- مرّ عليه ألف فاتح، ثمّ ذابوا مثلما الثّلج يدوب." لنا الشّمس، لنا باقات الأزهار، لنا الحريّة لنا العيش الكريم على تراب وطننا، الوطن الّذي نهوى ونعشق.
وخيولنا حتما ستجمح نحو الشّمس لتقطف النّجوم والأقمار لنغزلها اكليلا من غار نزيّن به جبينك يا شعبي يوم نصرنا القادم حتما. فكن يا شعبي الصّرخة، كن الضّربة، كن القوّة، كون وعد الشّمس.
و" يمينا، سنظلّ الى أبد الآباد، نتجدّد يا وطن الأجداد."
وعلى ميعاد، على ميعاد. د. حبيب بولس
drhbolus@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق