إنه حلم رواد الحركة الصهيونية القدامى وقادة الكيان الإسرائيلي جميعاً، صقور ومتطرفين، حمائم ودعاة سلام، سياسيين وعسكريين، كلهم يتطلع إلى اليوم الذي تخلو فيه فلسطين من سكانها العرب، وتغدو دولةً يهوديةً خالصة، لا شوائب فيها ولا أغراب، ولا مكان للعرب، المسلمين والمسيحيين "الغوييم" فوق ترابها، ولا أثر لهم باقٍ فيها تحت الأرض أو فوقها، عمراناً أو مقاماً، علماً أو صرحاً، مسجداً أو كنيسة، مقبرةً أو مدرسة، لتغدوا فلسطين مملكةً يهوديةً بحق، تخفق في سمائها نجمة داوود الزرقاء، وتحكمها تعاليم التلمود والتوارة، وتتعالى فيها أصوات الحاخامات ورجال الدين، وتخلو شوارعها يوم السبت من السيارات العابرة، والمواقد المشتعلة، ويسيرون في شوارعها بالقلنسوة اليهودية، والسوالف الطويلة، والقبعة السوداء، يزورون حائط المبكى يتلون فيه مزاميرهم، ويدخلون المسجد الأقصى يصلون في باحاته، ويتنقلون في رحابه، يعقدون فيه زفافهم ويختتنون فيه أطفالهم، إنه حلمٌ عاش معهم، خططوا له وعملوا من أجله، وماتوا وهم يسعون لتحقيقه، وأورثوه لمن جاء من بعدهم، فهو لم يغادر مخيالاتهم، ولم يبرح أحلامهم، ومازال يتراءى أمام عيونهم، حلماً وأملاً وهدفاً وغاية.
يبذل الإسرائيليون غاية جهدهم ليفرغوا الأرض الفلسطينية كلها من سكانها، فدمروا مدنهم وقراهم، وشردوهم منها وسكنوا فيها، وقتلوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم، وزجوا بمئات الآلاف من الفلسطينيين في السجون والمعتقلات، وأبعدوا عنها وطردوا منها الآلاف، ولكن الأرض الفلسطينية بقيت تحكي عربي، وتحفظ لهجتها الفلسطينية، وتحمل هويتها العربية وتباهي بها، وتتحدى الإسرائيليين وتقف في وجه دباباتهم وتواجه طائراتهم، وقد أقسم أهلها أن يبقوا في أرضهم ثابتين، وعن حقهم مدافعين، وبقيت فلسطين أرض الزيتون والزعتر، تتحدى بجرحها، وتتشامخ مع ألمها، وتزهو بثوبها الفلسطيني العربي القشيب.
هذه هي السياسة الإسرائيلية القديمة واضحة لا لبس فيها، ولا غموض يكتنفها، ولا خداع في تنفيذها وتطبيقها، ولا يحرص الإسرائيليون على إخفائها أو تزيينها، ولا يدعون بأنهم يحبون الفلسطينيين ويعملون من أجلهم، إنما يعملون بصدقٍ وإخلاص لصالح شعبهم وقضيتهم وعقيدتهم وهويتهم، لكن المشكلة الخطيرة التي يحار المرء في تفسيرها أو فهم أهدافها ومراميها، أن الحكومات العربية تسهل مهمة الإسرائيليين في تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها، ودفعهم للبحث عن أوطانٍ جديدة، وجوازات سفرٍ محترمة، وبطاقات هويةٍ مقدرة، فقد أصبح هم الفلسطينيين جميعاً أن يتخلصوا من وقفات الذل والهوان التي يتعرضون لها في كل مطارات ومعابر الدول العربية، فهم يتجرعون الذل والهوان ألواناً من عناصر وضباط الأمن العام، الذين ينظرون إليهم شزراً، ويرمقونهم بعيونهم بكلِ استهتارٍ وعدم تقدير، وقد جمعوا جوازات سفرهم بل وثائق السفر التي أصدرتها سلطاتهم باتفاقٍ مع جامعة الدول العربية، ولكنهم لا يحترمون وثيقة السفر التي أيدوا منحها للفلسطينيين اللاجئين، ولا يسهلون لحاملها الدخول إلى بلادهم، بل تنص أنظمتهم على عدم السماح للفلسطيني بالدخول إلى بلادهم، حتى ولو كان في طريقه إلى أرض وطنه، عائداً إلى بيته.
يحار الفلسطينيون في فهم السياسات العربية في التعامل معهم، فهم يدعون أنهم يدعمون صمود الشعب الفلسطيني، ويعملون على الحفاظ على هويته وشخصيته، وأنهم يرفضون منح الفلسطيني جنسية بلادهم حرصاً على القضية الفلسطينية، ولكن الحقيقة أن الحكومات العربية تضيق على الفلسطينيين، وتمعن في إذلالهم ومهانتهم، وتدفعهم بقوة لأن يلقوا بوثيقة السفر التي يحملون، أو جواز السفر الجديد الذي ساهموا في إصداره وفرضه، فكلاهما لا يجلب التعامل الكريم للفلسطيني، ولا يجبر عناصر الأمن العام في المطارات والمعابر الحدودية على الابتسام لهم والترحيب بهم، بل إن وثائق سفرهم كما سحنات وجوههم أسرع طريقةٍ لتعكير مزاج عناصر الأمن العام، وتغيير ملامح وجوههم غضباً وعبوساً، فالقادم غير مرحبٍ به، ولا مكان له بين إخوانه العرب، ولا متسع له على الأرض العربية، وعليه أن يرحل فوراً، وأن يبحث له عن مكانٍ آخر، يشعر فيه بالعزة والكرامة والقيمة الإنسانية، ويرى أنه فيه مقدرٌ ومحترم، وله كرامة وسيادة وحقوق وامتيازات، ومع أنه كغيره من الوافدين، يلبس ثياباً أنيقة، ويحسن الحديث والتعبير، ويتقن اللغات الأجنبية، ويحمل أعلى الشهادات العلمية، وتمتلئ جيبوبه بالأموال، وبطاقته الإئتمانية صالحة وفيها رصيدٌ كبير، ولكن شيئاً من هذا لا يشفع له، فهو فلسطيني، وتكفيه جنسيته لأن يكون منبوذاً على بوابات الحكومات العربية.
إنها الإجراءات الرسمية العربية المتوارثة منذ أربعينيات القرن الماضي، وهي التي تواصى عليها القادة والحكام العرب، وأجمعوا أمرهم عليها في اجتماعات جامعة الدول العربية، إنهم يكذبون علينا عندما يقولون إن هذه الإجراءات من أجلكم، ولصالح قضيتكم، وهي لا تستهدف أشخاصكم، ولا تقصد إهانتكم، ولا تتعمد التضييق عليكم، إنها إجراءاتٌ تهدف إلى حماية الهوية الوطنية الفلسطينية، وأنها تحول دون نسيان الفلسطيني لوطنه وقضيته وهويته، إنهم يستخفون بعقولنا، ويستهزؤون بنا، ويحاولون خداعنا، فهم يضطرون لأن يرفعوا القبعة من على رؤوسهم احتراماً وتقديراً لحامل الجواز الأمريكي أو الأوروبي، وهم يعلمون أن حامله فلسطيني الجنسية، وهو ابن مخيم جباليا أو الشاطئ، وأنه من سكان قطاع غزة البئيس المحاصر، ومع ذلك يحترمونه ويقدرونه، لا احتراماً وتقديراً لذات الإنسان الفلسطيني، بل احتراماً لجواز السفر الذي يحمل، وتقديراً للجنسية التي يتمتع بها، وخوفاً من سفير صاحب السيادة، الذي لا يتأخر عن رفع سماعة الهاتف ليتصل بأعلى مسؤولٍ في البلاد، مستنكراً سوء المعاملة التي تعرض له مواطنه، ويطالبهم بتسهيل أموره والاعتذار له، بل إن بعض السفراء الأجانب يذهبون إلى مطارات الدول العربية بأنفسهم، ليسهلوا للفلسطيني الذي يحمل جنسية بلاده الدخول إلى البلاد، وليضمنوا حسن استقباله وعدم الإساءة إليه، فما الذي تغير في هذا الفلسطيني غير جواز سفره الذي يحمل اسمه العربي الأصيل ومكان مولده في فلسطين، ومازال ينطق بالعربية وباللهجة الفلسطينية، ومازالت تفوح من حقائبه رائحة الزيتون والمرمرية والزعتر.
إنها مؤامرةٌ عربية قديمة جديدةٌ بحق، تلك التي يتعرض لها الفلسطينيون في الكثير من البلاد العربية، التي لا تسهل لهم الدخول إلى بلادهم والعمل فيها، وتجبرهم على الهجرة والسفر بعيداً، بحثاً عن هويةٍ محترمة، وجواز سفرٍ يصلح لأن يمهر بخاتم صاحبة السيادة، إنها سياسة تستهدف إفراغ الأرض الفلسطينية، ودفع أهلها إلى الهجرة واللجوء، فإن كانت السياسة الإسرائيلية مفهومة ومعروفةٌ أسبابها، فإننا والله نجهل دوافع حكوماتنا العربية، وأسباب تضييقها على الفلسطينيين واحتجازهم أطفالاً وكباراً، رجالاً ونساءاً، وكأنهم قتلة ومجرمين، الحقيقة أن الفلسطينيين متهمين بأنهم يقتلون الإسرائيليين وينغصون عليهم عيشهم، ويعملون على طردهم من أرض فلسطين، ليسكنوا فيها، ويقيموا مكانهم، فهذه هي جريمتهم التي يستحقون عليها سوء المعاملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق