السياسة فن الممكن/ سامي الأخرس

كثيرًا جدًا ما أسمع أو أقرأ هذا الشعار، سواء في النقاشات العامة أو الخاصة، أو التعقيب على موضوع معين، حيث يتم اختصار الحوار في شعار" السياسة فن الممكن" دون أن أقنع ولو مرة واحدة إن هذا الشعار واقعي وفعلي يعبّر عن حقيقة ثابتة، يمكن من خلالها الوصول إلى الحلول السياسية المنطقية، أو التي تحقق الغايات، فربما هي فقط "فن الممكن" عند الساسة العرب، وتبنى هذا الشعار فئة ممن أرادوا الخضوع لما هو قائم، أو للهروب من حقائق معينة، ولدى قصيري الأنفس على وجه الخصوص، ممن أغواهم الاستراحة عند حدود الفن والممكن الذي يروا إنه السبيل لغاياتهم، ومطامحهم، وما وصلوا إليه دون جهد وتعب للحصول على أكثر من الممكن، وتطويع السياسة وفنها للحصول على معظم إن لم يكن كل الممكن.
ولكن بما إننا تعلمنا أن "فن الممكن" هو ما نحصل عليه دون أن نتمسك بالممكن، نجد إنه شعار يتاناسب ويتوافق مع الممكن الموجود في دواخلنا، وطموحنا ولا ضير أن تقف عند حدود الممكن الذي ورثناه من السلف، الذي طبق منذ إنهيار الخلافة العثمانية وخضوع المنطقة العربية للإنتدابات الغربية، واقتنع العرب أن "فن الممكن السياسي" هو الاستجابة لمخططات هيئة الأمم المتحدة وفرسانها الإمبراطوريات العظمى، والتسليم بالممكن من حيث الحصول على دويلات أسيرة الحدود المصطنعة والمفترسة تخلفًا وفقرًا وجهلًا، وهو نفس الممكن وفنه الذي استخدمه ثوار فلسطين وخضعوا لوعود بريطانيا العظمي وأفشلوا كل ثوراتهم ضد الإنتداب والتهويد، واستسلموا للجان التحقيق التي كانت تُرسل كمسكنات تخدر العرب وتمنح اليهود مزيدًا من المساحة الزمنية في الإنقضاض على الجغرافية الفلسطينية، وتلتهم قدر ما تستطيع منها تحت تأثير "السياسة فن الممكن" الذي استسلمنا له، كما أنه نفس "فن الممكن" الذي أخر إعلان الدولة الفلسطينية منذ إنتهاء الإنتداب البريطاني سنة 1948م، وترك فلسطين للوكالة اليهودية تمارس الممكن الذي لا يتساوى مع "فن الممكن" الذي نعرفه، وجعل من الشعب الفلسطيني شعب لاجئ مشتت يبحث عن ضحية، وجمع اليهود من اصقاع الأرض لتحط بفلسطين، كما إنه فن الممكن الذي خاض به العرب حروبهم الثلاثة ضد إسرائيل دون الاستعانة بفن الإنتصار، فذهبت الجيوش العربية مهزومة بثقافة فن الممكن الذي تسلحت به من أكاديمية السياسة العربية، وشعارها الثابت في الوعي العربي، فانهزمت أمام عصابات لا تمتلك في جعبتها الثقافية وترسانتها سوى"الممكن" دون "فن" فكان لها "الممكن"، ولاحقت فلول الجيوش العربية المنكسرة بأعماق دولها التي أتت منها تشدو النصر، هو ذات "فن الممكن" الذي حمل الرئيس المصري " أنور السادات" للقدس حاملًا فنه ليقدم لإسرائيل كل شيء مقابل لا شيء، ويترك سيناء بلا عمق يحمي بوابة مصر منذ سنة 1979م ويورث مصر جبهة عارية مكشوفة، وبقعة غالية بلا غطاء أو سيادة تحمي استباحاتها، وهو ذات "فن الممكن" الذي سلمت به الأردن ومليكها الجبهة الشرقية للممكن الإسرائيلي باتفاقية وادي عربة بعد أن استفرد "الممكن" الإسرائيلي وقسم العرب إلى أشتات في مؤتمر مدريد، وذهب بهم للزمزم وأعادهم عطشى يفترسهم الجفاف والحسرة، ويلوكون الحصى بفن ممكنهم، الذي وقعت به منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) سنة 1993م، وارتضت بالممكن وفنه في حدود "حكم ذاتي إداري" لا يملك به الفلسطيني سوى "فن الممكن" الذي إصطاد قادة وأبناء الشعب الفلسطيني، وهو ذات الفن الذي دفع حزب الله لإخراج جثامين الشهداء من مقابرهم وإعادتهم للغربة، بعدما عادوا أحياء إلى وطنهم يستشهدوا به ويدفنوا به، كما إنه "فن الممكن" الذي وافقت فيه حماس في صفقة تبادل الأسرى التي لم تنفذ بعد بأن يبعد مئات الأسرى عن وطنهم وديارهم، وأبنائهم قسرًا لماذا؟ لأنه يأتي في سياق شعار" السياسة فن الممكن" إذن فإن كان هذا هو "فن الممكن"، فكيف يحقق الغرب وإسرائيل "الممكن" منذ أن بسطوا نفوذهم على شعوب "فن الممكن"؟ وكيف تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ مخططاتها في المنطقة؟ لأنها فعلًا تقوم "بالممكن" وتترك "فن الممكن" لنا نحن نتمتع بما يلقى لنا من شعارات تتم صياغتها خصيصًا لنا، ويستلمها الوعي العربي الذي اصبح يفتح باب غرفة نومه للزناة والداعرين، تحت شعار " السياسة فن الممكن".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق