أصيب المجتمع الثقافي المحلي التونسي بنوع من الوسواس السياسي الخبيث، ظهرت ملامحه في إحاطة هالة من الإدانات السياسية بعالم المثقف حتى لم يعد بإمكانه أن يمثل دور المحايدة، فانخرط في سلوك سياسي سلبي دفعته إليه حدة اللحظة التاريخية، ولم يعد يقدرعلى إغماض عينيه المتورمتين كالعادة أو النظرإلى السماء نظرة رومنطيقية مشحونة بالورد وبالطفولة فسماؤه ليل بهيم، ولا يشير- بالطبع - إلى السماء بإصبعه ليسأل عن أحوال الطقس فهو جنائزي وعادي دائما، ولكن لأن حدثا جللا يضرب بقبضته على جمجمة رأسه. ولئن خاطب هذا الحدث الساسة بخطاب الكراسي الخشبية المدهونة بالغراء، فإنه خاطب سيدنا المثقف بخطاب مطرقة وقذفه بثمار جوز الهند. هكذا تعاشره اللحظة بصداعها ويسايرها وهو متصدع روحا وجسما، وهو على هزال وروحه تربض تحت منخريه وهو يتمنى أن يرقد سنة أخرى أو سنتين حتى تمر العاصفة التي لا يستطيع ركوبها. لكن لسوء حظه ما يزال يحضن جرة العسل وسط حجارة الصبية المتطايرة. وهذا الحدث على ما فيه من نزوع إلى السياسة يتوسد الأدب في كل تفاصيله وفيه من الأدبية ما يمنع عنه النوم لأشهر. إنه يقظ خائف. ولأنه لا يمرض، سواء أكان الوضع وضع مشاجرات أو وضع مناشدات، فإن عليه أن يعلن نفسه حكما في المجتمع. وإذا اعتل المجتمع امتنع عن التمارض وحمل صيدليته، فهو طبيب شعوب. لم يعد بإمكانه أن ينهمك في مطالعة الجرائد أو مصافحة المؤنثات أو البول أو تمريض ذوي الإعاقات العاطفية. عليه الصعود إلى الشارع بكل جوارحه عاريا، فقد طالت إقامته في المجاري والمقاهي ببنها الرخيص ووجوهها المعتادة على النميمة الفارغة القابلة للتحيين والطعن والإثراء. لعله أصل العلة أو لعله الترياق. إن انحداره - المثقف - إلى العمل السياسي مكتفيا بتقبل التوجيهات السياسية الفجة، قد حوله إلى بوق دعاية حزبية. لقد تملًكت التعبيرات السياسية كل مساحة ممكنة لإدانة وهن المجتمع وتقييم الماضي على حساب التعبيرة الثقافية المجدية. هذا يزيده غربة. وفي اللحظة التاريخية التي انتظرنا فيها إفاقته على كونه صمَام أمان المجتمع وجدناه يتمسح على أبواب الأحزاب السياسية التي تكيل له تهمة السياسة. إنه على شغل السياسة قادر. إلا أن الوصاية على دوره في الزمان والمكان تؤكد قصر العقل وضعف التبصر في مكانة الثقافة. لقد افتك الأيديولوجي دفة القيادة وعلى المثقفين خلع سراويلهم تماما حتى لا يبدو منهم إلا اللحم والعظم. ساستنا خريجو سجون لذلك لا أثق فيهم. مثقفونا خريجو شوارع لذلك أثق فيهم. الهواء تغزوه العفونة والعالم قد توحش بما يكفي ليفقدنا أحزمتنا وسراويلنا. في البدء دخل أكثر الساسة عالم السياسة متنكرين بلباس الثقافة. الساسة المتمكنون اليوم شهويون جدا وعلى السادة العضويين في الثقافة أن يتقبلوا كل الأورام المحتملة. في الأيام الأولى للثورة كان ساستنا الجهابذة يتحاشون الإطلالة من الشبابيك أو الإشارة إلى عوراتهم بالإصبع ثم سبوا العالم بأكمله فيما بعد. كفى وقاحة أيها الساسة. ليس ثمة داع إلى الابتسامات المجانية والمشادات المجانية ودموع التماسيح، فلستم أطفالا بما يكفي لتقنعونا بأقنعتكم. إن عندنا أزمة توريد مساحيق وماكياج. لا تزيدونا قروضا فنحن لا نستطيع سدادها حتى بمؤخراتنا. وبعد هذا ما أقذر حاضرنا. إننا حطب شواء. ولا تدلونا على مواقع نجومنا، فقد قال الشاعر: إذا كان الغراب دليل قوم // يمر بهم على جيف الكلاب. إن شارعنا - اليوم - سياسي محنك، ومثله الإدارة والأقلام سياسية والكلاب السائبة في آخر الليل والإشهار ركيك وغريب وممجوج بطعم السياسة، والمجالس والرياضة والصحة والتجارة والسياحة. إن كل الجرائم التي تحدث هي جرائم سياسية. حتى سرقة الفريب في سوق الحفصية ولقاءات العودة الجامعية سياسية وجافة كالبقول في "بومنديل". لا شيء يزهر في مجتمعنا غيرالشعوذة والتنجيم وقراءة الكف والطبابة والليليين المتربصين. إن معركة تسمى "المجلس التأسيسي" مثل معركة مقاعد حافلة السابعة صباحا. هي ليست أنيقة وتحتمل شق البطون والأنفس ولاتحتمل القسمة وستقصف كل جميل في المجتمع فيتراجع وسترتد الجماليات ويسكت التاريخ وتنشأ خطابات السلخ، والثقافة بعيد المسلخ والمثقفون مقدمون في الحركة مؤخرون في البركة ويعودون رعية من المواطنة. إن الأرض تحت أقدامهم لم تتصلب... تكاد تهبط بهم، وقد فقدوا مؤخرا شيئا من مكتبة الآباء المسيحيين وسقط ما سقط من جسم المكتبة الوطنية لعلهم ينتبهون . إن ساسة اليوم هم طلبة الأمس. لا شك أن أغلبهم خاض في عراك عنيف مع أحد زملائه حول وُد طالبة جامعية سبعينية حادة البراءة، تمخر الراوق بعطر ستيني عتيق وتدهن شفتيها بلون أحمر، لا شك أن أغلبهم قد فقد فكه الأسفل في منافسة على مقعد قريب من مجالها الحيوي. في الماضي لم يكونوا مخبرين إلا لحظة يرونها. فينشأ الصمت والهمس. كأنها كانت تعض كرزة أو فرغت لتوها من درس رومنطيقي في الطابق الرابع. وكان أحدهم يوقف الوجود على وجود علكتها. كانت تحرك الجامعة بكعبها العالي ويتبعها الطلاب إلى البوب والفيجل بلا هوادة. "هيثم" نسي معلمه الأول الذي أطلق فيه الحيرة، قبل أن يتبرأ من اسمه الحركي كان يتلقى الدرس السياسي السري بكل شجاعة، حينها تعلم القراءة والكتابة أما بعد فقد أنكر الجميل وانسحب من مواجهة النظام إلى بيع الخضار ثم عاد بخجل إلى إبط حمادي بعد أن تعلم السياسة. لم يغب عن المِؤتمرات السياسية السرية. أما الآن فيطل بوجهه هو وغيره من الشاشة كجراء اليقطين الساقطة من العربة. "وليد" الأحمر أو الأسطورة الفكهة للحياة الجامعية، يفرغ قريبا من فكه العلوي بمفعول الكحول. " أمير" شخص آخر قديم صاحب الرواية التاريخية التي لم تكتمل بعد، كان قد شبع ضربا فنسي دروسه الجامعية. ليته يعود إلى مقاعد الدرس. قبل سنوات كان "الشيحي" يعوي كالذئب في الساحة، فتهتز لعوائه جنبات آداب منوبة، ومع أنه كان ينادي بسلوك بدا وقتذاك فاسدا فإنه كاد يشق ساعديه احتجاجا على العقاب السياسي القاضي ببطالة الطالب السياسي. كان يستمد الشجاعة في الاجتماعات العامة من تعنيف صديقته له. وكان يحلو لها تعنيفه في كل الوقت الذي تشاء، فقد كانت لاتطمئن له عملا وسلوكا وفر من السياسة لما تدبر شغلا. لكل أولئك الطلبة سيرة سياسية موجزة وسيرة عاطفية عنيفة. كانوا يعيشون عنادا خفيا مع كثير من الساسة. أما الآن فعطر تلك الطالبة - ومثلها كثير - قد ذوبته السياسة. العطوراليوم صينية واللغة خليجية والعملة غربية والسروال الداخلي غربي. أصبح الخليج العربي أجنبيا وتمزقت أوصال الوطن. ولم يعد الكعب العالي يصنع امرأة ثورية، لم يعد طلاب اليوم يعرفون الملائكة أوجميلة بوحيرد، ويسمونها جهلا جميلة بوحيدر...ا لم أسمع أن أحدا منهم طوى في السجن كتابا إلا " ضمير" ربما، ومع ذلك لم يحدثنا عن الكتاب وإنما انخرط في مراجعة ما سجن لأجله. أصبح السجناء أعداء الكتابة. سجناء الأمس مندوبو أحزاب وشهداء على الانحطاط. كيف كانوا يأتون؟ بعد ليلة حمراء خمرية، أو بعد ليلة نوم على الخضار في السوق البلدي "بـباب الخضراء". بعضهم كان ينام في سيارة قديمة أو في "الخربة"، بعضهم كان ينام في حديقة الباساج. الواقع لا يبدو كريما، ولم يكن يوما طائيا، أحدهم:غريب تغطي لحمه ملابس خشنة أكلها الصدأ كان يمر أمام عيني كل مساء ولا أجرؤ على سؤاله أين قضى ليلته، ولكن القدر رسم لي فرصة المعرفة... كان يراقب البيوت لليال طويلة باردة يكتشف بيتا، يتأكد من خلوه، يخلع بابا أو أكثر، ثم ينخرط في بيته الجديد بهدوء شرس. الآخرون طلبة يكترون بيوتا متداعية للهبوب يفلتون منها بعد شهر أو أشهر خوف التورط في سداد فواتير الكهرباء، وآخرون يسكنون المساجد أو الدكاكين، وآخرون يسلمون أنفسهم لخدمة العائلات مقابل السكن المجاني، وآخرون وأخريات ينزلون ضيوفا يوميين أوسنويين لدى زملائهم أو يقضون السنة الجامعية في القفز من خلف أسوار المبيتات للإقامة خلسة. تلك هي الحياة ولم يكن ثمة دولة أصلا ولن توجد دولة إلا في الخرافة أو في قلوب عائلات الطلبة المقيمة بثقة في ريف الوسط الغربي القاسي. وآخرون في السجون... كل أولئك الذين تشردوا أنا الآن أفكر فيهم. إنهم ليسوا سعداء كفاية.
القوميون مسكونين بيتم الخريطة يبحثون فن التفاوض السياسي. الشيوعيون - لست منهم - منهمكون في التفكير كعادتهم... وغيرهم يستمتع بالقيلولة على أكداس القطن المعروض للتجفيف قبل أن تغرب الشمس. الوطنيون يهمون بحزم حقائب من ملابسهم السوداء القديمة. الخريطة تئن مرة أخرى. كان التاريخ أثرى من الحاضر والمستقبل سيكون أكثر كثافة. وعندما نتذكر الماضي نشعر أن الواقع يقشر البصل في عيوننا. ومع ذلك نتقبل الحياة، ونأخذ الحياة كما جاءتنا مبتسمين. أحاول أن أكون في شجاعة زوجتي "أمامة" وهي تقول لي : ... المثقف هارب من واقع مأزوم...، وتحدثني عن وقاحة جريدة حزبية تحث الخطو أميالا بعيدا عن مياه الوطن وتربة، وتختلس ثمرة العرق من جبين امرأة عاملة...
تنويه أول:
أمير، ضمير،هيثم، الشيحي، وليد: طلبة،سجناء،موقوفون،كائنات ورقية.
تنويه ثان:
أمامة : زوجة الكاتب
الكاتب : نزار الحميدي
عضو حركة نص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق