" ان الديمقراطية أكبر من أن تكون مجرد رخصة للاحتفاء بالاختلاف ، فهي نظام سياسي من الثقة المتبادلة والالتزامات الأخلاقية المشتركة"[1]
تكاد هذه السنة 2011 تنقضي وتحمل معها العديد من التقلبات والعواصف على الصعيد السياسي ، فبعد الثورة الشعبية التي غيرت العديد من الأنظمة العربية وأفضت الى انتصاب سياسي حزبي وحقوقي تعددي وبعد تنظيم انتخابات شفافة أصبحنا نرى بالعين الملموسة الآن تناقضا بين الاسلاميين والعلمانيين، وأول الدروس المستفادة هو تشكل قانون لعبة جديد في الصراع السياسي وبروز قوى اجتماعية كانت الى حد الأمس القريب مقصية من الحراك والمشاركة وانفلات للمكبوت من عقاله وتصاعد موجات التشنج والاقصاء المتبادل وتكاثر الاحتجاجات المطلبية والاضرابات والاعتصامات وحدوث أزمة في التصرف في الحرية وفي تصور المواطنة وسوء فهم لشروط الاندماج في الفضاء العام.
كما تشهد البورصات السياسية العربية أزمة خانقة تنبئ بإفلاس إجتماعي وشيك نتيجة هبوط حاد في مؤشر التيارات الحداثية وارتفاع مؤشر التيارات الدينية بسبب الإقبال الكبير عليها من قبل الشعب في الانتخابات ودخول المعسكر المقابل في صراع حامي الوطيس معها.
لقد غرق ساسة هذا الزمان في انتاج الخطاب الساخر والمتهكم وبانت اصلاحاتهم على أنها محاولات محتشمة وخجولة ولم ترتقي الى المحل الأرفع ومستوى الحوار العقلاني المحتضر ولم يقدروا على مواكبة التطورات والرد على التحديات وصناعة التوافقات المطلوبة.
ان اعتقادنا هو أن الطبقة السياسية لدينا يمكنها أنها تظهر في صورة أفضل من تلك التي ظهرت بها في هذه الفترة الانتقالية والتي تقتضي التحلي بأكبر قدر من المسؤولية والترفع عن المناصب والسيطرة على القواعد والتربية على الوعي المدني والثقافة الملتزمة والمبادئ الوطنية والتوقف عن التكالب على الكراسي والاحتكام الى الايثار والتضحية من أجل البلد.
ان الصراعات على الايديولوجيا يجب أن يتوقف ويحل محلها الوفاء بالوعود الانتخابية وتطبيق البرامج التي تم تسطيرها والدعاية لها وان منطق التنازل هو الذي ينبغي أن يكون السائد ويرافقه في ذلك الكف عن التحدث بلغة المنتصر والمنهزم لأن الرابح الأكبر هو الوطن لا غير وبالتالي لا الأغلبية يجب أن تهيمن ولا الأقلية يحق لها أن تحتكر المشهد.
ان شروط الانعتاق من الخطاب السياسي المبتذل هو التحليل النقدي للاحتجاجات اليومية وتركيز الانتباه على المطالب الشعبية ومعالجة أزمات البطالة والتعليم والصحة والاستهام من طرف الجميع في تأسيس العيش المشترك وتطوير أدوات التضامن الاجتماعي وتنويع أشكال الفعل العمومي والشروع في تطهير المؤسسات من الفساد والعطالة الانتاجية.
ان أهم المعاول النظرية الممكنة هو تخليص السياسة من لااجتماعية الاجتماعي وما يرافق ذلك من مظاهر العنف والكذب والاشاعة واتباع الأهواء والشعارات الفضفاضة التي تغذي الفتن والانقسامات بين القوى الثورية وفي المقابل يجدر بالفاعلين التحلي بالحكمة العملية والعقل الفاعل والمعنى المقصود والارادة المشتركة في البناء والارتقاء بالمواطن.
ان الاشكال الرئيسي الذي يجب أن ينشغل به التفكير السياسي الجديد هو تحسين الأوضاع الاجتماعية ايلاء أهمية قصوى للمساواة في الفرص والحقوق بين الأفراد على المستوى المعيشي وتحت مظلة القانون والابتعاد عن التمركز الجهوي والتعصب الايديولوجي والكف عن البحث عن المصلحة الحزبية وعن استعراض القوة الشعبية وعضلات المال السياسي.
ان النقاش بين السياسيين من المفروض أن يتوجه نحو نمط المجتمع الذي يريد الشعب ومنوال التحديث والتطوير الذي يلائم المرحلة ويدمج الجهات المحرومة والمناطق المهمة في الدورة الاقتصادية ويحقق الاعتراف المتبادل والمساواة بين الفئات والشرائح والأجيال.
ان ما ينتظر الطبقة السياسية بعد الثورة هو صياغة دستور عصري للدولة يقطع مع الشمولية وهيمنة الأغلبية ويحترم الحريات ويضمن حقوق الأقليات ويغير نظام توزيع الخيرات والمنافع ويفتح نقاشا وطنيا حول مشاكل الأمن والتفكك الأسري وتقلب المناخ وندرة المياه.
ان الخطاب السياسي الثوري لا يشمل تبادل الشتائم والتشويهات وهتك الحرمات والتعرض للحياة الشخصية للناس بالتحريض والمغالطة ولا يجنح نحو الخطية والتمركز على الذات وادعاء النقاء وامتلاك الحقيقة المطلقة ولا يسقط في الانتهازية التسلطية والبرغماتية الفجة والتعويل على البلطجة ومنطق القوة الفيزيائية المباشرة، وانما هو فرصة لتجسير الهوة بين الأنا والأخر وتقريب المسافات بين المتزاحمين وتدبير شؤون الناس باللين والمحاورة في كنف السلم والتعايش والتقليل من دائرة الأعداء وكسب المزيد من الأصدقاء والارتقاء باللغة المستعملة نحو الدرجة المقبولة من الأخلاق والتربية والعقلانية ونبذ العنف والحرب.
ان السياسة ليست فقط حلبة صراع ومجال للتطاحن وتبادل الكراهية وانما هي فرصة للتصافي وربط الصداقات وبناء التحالفات والتشاور وفضاء للتعارف والتدافع والتوافق. كما لا تحكم السياسة بنية عقائدية راسخة ولا تخضع لخلفية ايديولوجية ثابتة وانما هي جدل متواصل تسيره قيم ومعايير مختلفة وتشهد أزمات وتراجعات وانشقاقات وتفاهمات.
ان عقدة المشكل هي أن الدولة تُكوّن الارادة وان العقلانية يجب أن تأتي الى التاريخ بواسطة السياسي وتبحث عن سبل صناعة الخير المشترك وتجعل الحق ينتصر على الكذب والعنف وتوفر الفرصة الكاملة لكي تساهم في اتخاذ القرارات الحاسمة والمناسبة بشأن المستقبل.
تقتضي المرحلة القادمة تهذيب القاموس السياسي المتداول والابتعاد عن لهجة التهديد والوعيد وتسخين الأجواء وتجييش الحشود والاقتصار على التعقل والحلم والتهدئة والتوجه نحو تطبيق البرامج والوفاء بالتعهدات والشروع في العمل وتحمل المسؤولية على أحسن وجه والتركيز على الوحدة الوطنية والتعويل على الكفاءات وذوي الخبرة وأهل الدراية.
من المستحسن تفادي النظر الى اللعبة السياسية من زاوية التنافس التجاري في السوق بين العارضين والطالبين وذلك لكون الفعل السياسي الحصيف يقوم على خدمة الناس وفداء الوطن والتضحية بالمصلحة الشخصية من أجل المصلحة العامة بينما العملة المتداولة في السوق تصعد قيمتها وتهبط بارتفاع حرارة الاحتكار والجشع وحب الذات والحيلة والمكر.
ان المطلوب اليوم هو القيام بواجب مضاعف وذلك بالمحافظة على قيم الثورة والعمل على تصحيح مسارها من أجل القطع مع الماضي الشمولي من جهة وحماية العملية الديمقراطية والسهر على انتقال السلطة بطريقة سلمية واحترام نتائج الانتخابات الشفافة من جهة ثانية.
ان العقلية الديمقراطية الحقيقية تقتضي أن يحترم المنافس وأن يعامل بندية وأن تجد المعارضة الفضاءات الكافية للتعبير وأن يعطى للنظام فرصة للتشكل وممارسة الحكم وأن تكون علاقة يحكمها التوازن والرقابة والاصغاء المتبادل وذلك لأن الجميع يركبون نفس السفينة ويتقاسمون نفس المشاغل ويواجهون نفس التحديات وتزول بينهم الفوارق والاختلافات خاصة في ظل تواجد تيار علماني معتدل في الدائرة الاسلامية ونمو تيار ديني يجذر نفسه في الجانب النير من التراث العربي الاسلامي داخل الدائرة العمالية والعلمانية.
لكن كيف يجمع رجل السياسة اليوم وغدا بين أخلاق المسؤولية ونجاعة الخبراء وبين شجاعة المحاربين ووظيفية الاداريين وبين عضوية المثقفين وحذر القانونيين ؟ وهل نقول مع حنة أرندت أن الفضاء العمومي ليس له أمل في البقاء الا من خلال السرد؟ ومتى يكف الاختلاف أن يكون خلافا ويتحول التعدد الى تصميم على مواجهة الظلم وعزم على البناء؟
[1] بريان باري، الثقافة والمساواة، ترجمة كمال المصري، سلسلة عالم المعرفة، عدد381 نوفمبر 2011، ص .150.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق