رغم أن الربيع العربي انطلق من تونس، وتحديداً من حادثة إحراق البوعزيزي لنفسه والتي أصبح بعدها رمزاً للحرية، إلا أنه لهذا الربيع لوناً آخر على الخارطة السورية، فما يظهر جلياً أن الدول العربية لم تولِ اهتماماً لأي ثورة أخرى كما أولته للثورة السورية أولا، وثانياً أن الدول الكبرى كروسيا والصين وأمريكا وإيران وغيرها أيضاً باتت معنية بالصراع الداخلي في سوريا بين داعم للنظام، وداعٍ إلى إسقاطه، وثالثاً أن الثورة السورية هي الثورة الوحيدة التي كان فيها الجيش عاملاً فاعلاً وليس محايداً كما هو في الثورات الأخرى التي قام الجيش فيها بتحييد نفسه، بل وأمَّن الحماية للمتظاهرين أيضاً، ورغم ظهور حالات انشقاق في الجيش السوري إلا أنه بغالبيته مؤيد لبقاء النظام لأسباب لا علاقة لها بصالح الوطن، ومن جهة أخرى فإن ضخ الأموال والسلاح لإسقاط النظام من جهات خارجية هي سابقة في الثورة السورية دون غيرها، مما يفسر تمركز العصابات المسلحة التي تعمل غالباً تحت إدارة خارجية عربية أو تركية وأمريكية و حتى ألمانية في المدن الحدودية، بينما يدك الجيش السوري وشبيحة النظام مدينة داخلية كبيرة كحمص بأكملها على رؤوس أهلها دون أن يتمكن مواطن من حماية نفسه ولو بسلاح أبيض، كما أن هدوء حلب ودمشق وهما العاصمتان التجارية والسياسية لسوريا، وبعدها عن التظاهر يبقى عاملاً يثير الدهشة والاستغراب في الثورة السورية، بعكس الثورات العربية الأخرى التي كانت تتمركز في المدن الكبرى، خاصة مع كون أهالي المدينتين ينتمون إلى الطائفة السنية الكريمة بأغلبية ساحقة، مما يشير إلى أن العامل الطائفي عامل ثانوي رغم محاولة إظهاره على أنه العامل الأهم..
والحقيقة أن الكل متفق على أمر واحد وهو إسقاط نظام الأسد ولكن لأسباب مختلفة، فالمواطن السوري الثائر يريد إنهاء فترة من الظلم والفساد امتدت حتى أربعين عاماً أسقطت أحلامه وجعلته مجروراً خلف لقمة العيش لا يبحث عن سواها، وكممته حتى لم يعد يجرؤ على الشكوى من ظلم وقع عليه في ظل نظام حتى القضاء فيه أضحى فاسداً ويباع ويشترى حسب المصلحة، مما جعل المواطن في حالة مؤلمة يرزح تحت الظلم والفقر بينما تنهب ثروات الوطن أمام عينيه دون أن يجرؤ على الاعتراض، حيث أفرزت تلك الفترة الممتدة إلى أربعين سنة مجموعة من المفاهيم الغريبة عن المجتمع، فانتهكت المبادئ والقيم وفرضت بدلا عنها قيماً مغلوطة تثير اشمئزاز المواطن الشريف دون أن يتمكن من الرفض، فمثلاً لا حصراً في ظل حكم الأسدين تحول المفهوم السامي لخدمة العلم إلى ابتزاز مادي و معنوي لشباب سوريا، مما شكل انتهاكاً خطيراً لمفهوم الوطنية، والدفاع عن الوطن، وقلب العديد من المفاهيم والمبادئ فارضاً منظومة أخرى من القيم الفاسدة كالرشوة والمحسوبية والشطارة والبلطجية ليتحول الشارع السوري إلى غابة صغيرة يُسحق فيها المواطن الذي لا يستطيع السير ملتوياً إذ أنه لا يستطيع الوصول إلى حقه لا عن طريق الشرطة ولا عن طريق القضاء ولا عن طريق أية مؤسسة رسمية.
ومن جهة أخرى تشعر الطائفة السنية الكريمة أن منصب رئيس الجمهورية هو حق لها ضمنه الدستور، والأغلبية التي تتمتع بها الطائفة ضمن فسيفساء مكونات الشعب السوري، وأن هذا الحق سلب منها طيلة أربعين عاماً وهي بصدد استرجاعه الآن.
ومن جهة ثالثة تتفق دول الخليج على إسقاط النظام لأسباب منها يتعلق بضعضعة القوة الإيرانية التي أصبحت تؤرق الحكومات الخليجية، وتهدد الاستقرار الداخلي فيها، حيث تعتبر سوريا من أهم حلفاء إيران في المنطقة، بالإضافة إلى حزب الله في لبنان، ومنها يتعلق بكون بعض الحكومات الخليجية حليفاً واضحاً لأمريكا ومصالحها في المنطقة، حيث تهتم أمريكا حالياً بإسقاط النظام لأسباب بعيدة كل البعد عن دعم الديمقراطية، أو مساندة الشعب السوري.
فلعل معظم الشعب السوري علم بوجود الغاز على شاطئ المتوسط، وباندفاع رامي مخلوف المسؤول المالي، وواجهة العائلة الحاكمة المالية للسيطرة على تلك الثروة عن طريق عقود مع شركات الغاز قبيل الثورة بفترة قصيرة، محاولة ُأجهضت في المهد بسبب بداية الثورة السورية، والغاز حالياً هو الثروة الأهم بعد النفط، خاصة بعد اتفاقيات الحد من انبعاث الغازات للحد من الاحتباس الحراري الذي التزمت به الدول الأوروبية، مما رفع أهمية الغاز ليصبح من أهم الثروات الطبيعية، وأبرز ما يميز هذه الثروة كون روسيا وإيران أحد أهم منابعها، وهما الدولتان اللتان تؤيدان النظام السوري حالياَ، "على اعتبار أن الغاز المصري تحت السيطرة حيث كان يصرف لصالح إسرائيل وبسعر أقل من التكلفة"، مما يرشح روسيا على الأقل للتغلغل في السوق الأوروبية، وبالتالي عودتها كقطب ثانٍ يهدد القطب الوحيد الموجود حاليا "أمريكا"، وهكذا فإن مصلحة أمريكا تقتضي بالسيطرة على تلك الثروة، لتبقى قطباً أحاديا يدير العالم من جهة، ولدعم الدولار الذي أصبح مهدداً بربطه بسعر الغاز كما هو مرتبط بسعر البترول ليحتفظ بقيمته، وهي هنا ستستخدم تركيا للضغط على الجانب السوري مقابل مرور خط غاز نابوكو الذي أعلنت أمريكا أنه سيجمع الغاز الموجود في المتوسط بين لبنان وفلسطين وقبرص في الأراضي التركية دون اليونانية مما يحول تركية إلى دولة ثرية، ويساعد على دخولها الاتحاد الأوروبي، بعد إسقاط اليونان،
وهنا سارعت روسيا بالرد,بعد الإعلان عن خط نابوكو, حيث أعلنت شركة غاز بروم التي تأسست عام 1996بأنها ستستثمر في مشاريع غاز من أمريكيا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وبالفعل بدأت بالإعلان عن أربعة خطوط للغاز، أحدها يمر من المتوسط لعدم علم روسيا بوجود احتياطي غاز في المتوسط، تم إلغاؤه بعدها لنفس السبب، من هنا تقتضي المصالح الروسية والصينية المترابطة حالياً بقاء النظام السوري، للحد من السيطرة الأمريكية التي من شأنها أن تقطع الطريق على روسيا والصين إن هي نجحت في مسعاها وأسقطت النظام السوري وحولت سوريا إلى أقاليم طائفية يسهل السيطرة عليها من الجانب التركي والإسرائيلي.
بينما ستبقى بعض فئات الشعب السوري مؤيدة للنظام السوري ولبقائه في الحكم، وأيضا لأسباب مختلفة، فالطائفة العلوية الكريمة تخشى من انتقام سني كاسح يصيبها في حال تولت الطائفة السنية الكريمة الحكم، وهو ما يبرر دخول الجيش المتكون بالغالبية من الطائفة العلوية الكريمة بشكل فاعل ضد الثورة واستخدامه للسلاح ضد المواطن الأعزل، بينما تخشى الطوائف الأخرى المكونة للشعب السوري من تهميشها، أو من استلام التيار الإسلامي ممثلاً بالأخوان دفة الحكم وتحويل سوريا إلى دولة دينية تفرض على الطوائف الأخرى إضافة إلى الطائفة السنية طريقة حياتهم وملبسهم وتفاصيلهم كما هي الحال في إيران والسعودية، وهو خوف مبرر مع التلويح بدخول أفراد من تنظيم القاعدة إلى الأراضي السورية، والدعوة إلى طاعتهم من عدة قنوات لا تنتهج الحيادية، وظهور الشيخ عرعور وغيره على قنوات فضائية مختلفة ليرفعوا من حدة الشعارات الطائفية، ويحثوا الشعب على القتال، دعوة لم تلق الاستجابة المتوقعة بسبب وعي الشعب السوري وثقافته، ورغم أن إعلان دولة دينية في سوريا احتمال مستبعد جدا, كون الطائفة السنية ذاتها لن تقبل بنظام يفرض عليها باسم الدين تفاصيل يعتبرها الغالبية حرية شخصية تابعة لاختيار الفرد، إلا أن ذلك يبقى هاجساً مؤرقاً خاصة مع رفع بعض الأفراد وبصفة شخصية غير منظمة لشعارات طائفية تثير الجدل والخوف في قلوب جميع الطوائف بما فيهم الطائفة السنية الكريمة.
بالإضافة إلى ذلك فإن رفع شعارات غير مقبولة من ضمنها طلب التدخل الخارجي من قبل بعض المتظاهرين يثير الجدل والخوف، ويجعل البعض يؤثر الصمت على جلب الاحتلال الخارجي للوطن، حرصاً على استقلال سوريا، ومنعاً لأي تدخل خارجي تحت ذريعة حماية المتظاهرين، خاصة أن تجربة الدولة العراقية الشقيقة في استيراد الديمقراطية الأمريكية لم تكن يوماً تجربة مشجعة بعد أن تقاسمت إيران وأمريكا العراق، وتحولت أرض العراق إلى جبهة داخلية لحروب طائفية، وتمت تصفية العقول العراقية بأقذر الطرق، ففقد العراق الديمقراطية والاستقلال والأمان معاً إضافة إلى أرواح الآلاف من مواطنيه، وها هي إيران تعلن عن نيتها بشراء جميع المنتجات السورية دون استثناء وبالعملة الصعبة عندما لوحت الدول العربية بالمقاطعة، بينما أرسلت روسيا بارجات حربية إلى موانئ طرطوس لمساندة النظام، وهذا إن كان يدل على شيء فهو يفضح استماتة روسيا وإيران على بقاء النظام خوفاً من انحدار نفوذهما بسقوط حليفهما السوري.
بالإضافة إلى ذلك فإن الفوضى التي سادت بعد الثورات العربية، شكلت هاجساً إضافياً للفئة الصامتة من الشعب، فهي لا تؤيد بقاء النظام، لكنها في الوقت ذاته تخشى أن تعم الفوضى ربوع سوريا بالفراغ السياسي، وأن يدخل في حرب أهلية نتيجة الاقتتال على كرسي الحكم، فتؤثر البقاء على ما هي عليه على أساس أن "الرمد أهون من العمى".
كما أن تكالب جهات سورية خارجية ممثلة بالخدام ورفعت الأسد وغيرهما على التدخل بشكل غير مباشر في مسار الأحداث يقلق جميع فئات وطوائف الشعب السوري الذي يرفض وجود فئات أذاقت الشعب الويلات خلال وجودها في مناصب حيوية جداً في الدولة.
وفي ظل كل هذه المخاوف يبقى الأسد محشوراً في زاوية مخيفة، فإن هو تخلى عن كرسي الحكم ستتم تصفيته من قبل العائلة التي ترفض التخلي عن الحكم وتعتبره حقاً لها إلا إن هو تخلى عن الكرسي المذكور لأحد أفراد أسرته، كما صرح رفعت الأسد في اجتماع في أحد فنادق باريس يوم الأحد 14\11\2011 حيث قال:" يجب تشكيل تحالف عربي دولي للتفاوض مع بشار الأسد في صفقة للتنحي مقابل ضمانات وتسليم السلطة لشخص لديه دعم مالي يؤمن استمرارية جماعته ويجب أن يكون شخصاً من عائلته أنا أو سواي"، والمقصود بأنا هنا رفعت الأسد، أو أحد أفراد عائلة الأسد، وإذا ربطنا الأمر بتبرئته أقصد رفعت الأسد لماهر الأسد من جميع الجرائم المنسوبة إليه خلال الثورة السورية وقبلها، يصبح التنبؤ بهذا الفرد المنتمي لعائلة الأسد والذي يجب إعطائه السلطة ومن يخالف يقتل حسب تصريح آخر لرفعت الأسد في صحيفة لوموند الفرنسية محصوراً بأسماء محددة جداً فإما أن يكون رفعت أو ماهر، وذلك في سابقة تعلن الجمهورية نظاما ملكياً من نوع خاص جدا من فئة "صنع في سوريا"، رغم محاولته التنصل مما صرح به في برنامج "نقطة نظام" من باريس بعد ذلك، والتنصل من مجازر حماة التي قامت بها سرايا الدفاع بقيادته في ثمانينات القرن الماضي، ومجزرة سجن تدمر، متهماً الرئيس بشار الأسد بأنه لا يجيد تحمل المسؤولية، معترفاً باتصاله بقادة الجيش السوري، وبالمنشقين عن الجيش السوري في درعا.
أما إن بقي بشار الأسد على سدة الرئاسة، فسيبقى مهدداً بإسقاطه قسراً من قبل الشعب الغاضب الذي تأجج غضبه مع الممارسات غير الإنسانية التي ينتهجها النظام لإخماد الثورة من جهة، ومن جهة أخرى سئم الذل والفساد والفقر الذي جلبته عائلة الأسد إلى الشارع السوري تحت ذريعة المؤامرة، والحرب المفترضة طيلة سنين والتي تبين في آخر الأمر أنها حرب ضد المواطن نفسه.
--
لبنى ياسين
كاتبة وصحفية سورية
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق