طريق نحلتين إلى السماء/ جواد بولس

وصلتُ بيت العائلة في قرية الجديدة بحدود العاشرة صباحًا. صافرة خجولة واحدة كانت كافية لاستقدامه. قامة كشعاع. وجه يوحي بالصباح وبسمة طفل متأهب لبدء رحلة عفوية سنلقي حبلها معًا على غاربه.
بجانبي جلس مُلقِيًا تحية ضاحكة عليّ وعلى رفيقنا الدائم عصام خوري. حماسيَّا مستفهمًا عن وجهتنا. لا أعرف أيّها الشاعر، قلت، مردفًا إعجابي بلباسه، بنطلون جينز بلون أزرق فاتح وبلوزة سوداء وعلى ساعده جاكيت زرقاء غامقة ألقاها بـ"عياقة" شباب وبدون تكلّف.
وصلنا أوّل تقاطع طرق. على يميننا عكا وبحرها الهادر، وعلى شمالنا صفد وأخواتها من بنات جليل يكابد ليصون جلالَه. بتلقائية شَمْألت، وبعد شهيقين اتّجهت جنوبًا، فأصبحت دموع "البروة" على يميننا ويافطة شاخصة تستشرع السماء وقابلاتها لتعلن "يسعور" اسمًا لطفل استولده قيصر خلفًا لبروة وئدت وبقيت روحها تشوّش رتابة التلاوة واستكانة التاريخ لطبيعة تغتصب.
لم نعر للمكان همًّا، وأكملنا حديثنا العادي. محمود بجانبي. رجله اليسرى، بليونة ورشاقة تحسد، مطوية ومرفوعة لترتاح على رجله اليمنى. بإبراق عادي أعلمه أنّنا متوجهان إلى الناصرة، فاليوم يومها، بعد أن كنا في عكا وكنا قبلها في أقصى الشمال.
بعد الحادية عشرة بقليل نصل الناصرة. أسوق سيارتي نحو العين وهناك قبالة مطعم "الجنينة" أركنها. بدون مفاوضات وبدون برامج معدة ندخل إلى ذلك المطعم. صاحب المكان وزملاؤه من العاملين يتعرَّفون على ضيفهم ويتجهون مرحِّبين بالأستاذ محمود ومؤكدين أنّهم مشرَّفون اليوم فاهلًا وسهلًا بمحمود درويش في بيته.
شربنا قهوتنا. تحدثنا عن الناصرة وما وفّرته من ذكريات ما زال محمود يحتفظ بها ويتذكّرها من حين إلى حين. يبادرنا محمود بسؤال عمّن نستطيع زيارته من الأصحاب ورفاق عهد الصبا. بتلقائية أخبره أنني سمعت أن صديقنا سالم جبران قد أجرى عملية صعبة وهو على ما يبدو يتماثل إلى الشفاء في بيته. هممتُ باستعراض أسماء أخرى، فقاطعني متأهبًا لزيارة سالم دونما تأجيل.
وصلنا بيت أبي السعيد وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء "عتاقى"، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد ...ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.
كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.
لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه.
رغم محاولته إخفاء ذلك، إلّا أن الوَهن كان باديًا على أبي السعيد. أقلقَنا ضعفه وأخافنا حزنُه البادي. نبرة من يأس خالطت حديثه الممتع وكلما حاول إبعادها عاودَت وسقطَت من طرف لسانه غمّة وهمًّا.
بعد أكثر من ساعة غادرنا بيتَ سالم.الذي تمنى لمحمود عودة سليمة وهو معافى من مرض ومن منفى، ومحمود تمنى لسالم شفاءً كاملًا وراحة بال مصحوبة بسيادة جسد. كانا كنحلتين في مهب الريح محلّقتين على جناحي قدر.
في السيارة توجَّع وقلق محمود على وضع سالم وهو، بحذاقته وبصيرته، استوعب أن حزن سالم الحقيقي هو ذلك الحزن الدفين العتيق، ما وراء الجسد وما يقطر من جرح خفيّ، فسالم القوي المحارب الحاد الحازم الحاسم يتألم ويشقى. "سالم، يا جواد، كان أسبقنا وأقوانا في كتابة الشعر، بداياته كانت أهم من بداياتنا ولكن انشغاله، فيما بعد، بالصحافة الحزبية وبشوؤن السياسة والتنظيم حدّت من استمرار مشروعه الشعري". هكذا شرع محمود يتحدث عن رفيق صباه وطريقه. محمود يستذكر حالًا ويستعيد أهوالًا كابداها معًا في تلك الحقبة الصعبة الغابرة.
"إنّه سياسي خطير وهام وكاتب مقال من الطراز الأول. هو واحد من الجيل الذي أسَّسَ وحمى وبنى وعانى وكتب وثقّف وعلّم". هكذا تكلَّم محمود فسمعته وعصامًا بطرب وهو المقل والمكتفي بالإشارة والهمس. لم يقل محمود كل ما خلّفته في نفسه الزيارة لبيت سالم، هكذا كان إحساسي وشعوري. لقد سكت هو وأنا في رأسي ينقر وجع على وجع، فلم يكن الحزن الغالب على حديث سالم نتيجة عملية جراحية وسوء صحة. سالم يئن من خيبة وجحود أصدقاء تبدّلوا ورفاق هجروا. سالم يتألم من صعوبة حال وقساوة دهر. سالم، هذه الشجرة العريقة الوارفة، يعاني من صحراء هاجمته وأحاطته فأصابه الجفاف الذي أهلك نضارة وأجدب غصونا وزرعا.
كنا حزينين، لا على سالم فقط، بل على قوم سالم. فقومٌ يهملون الأحياء من كبارهم، أبدًا سيبقون على منزلق خطر. وقوم يجحدون حق كشّافتهم لن يوفَّقوا لطريق سلامة. وقوم يدَعُون بنّائيهم لا يأمنون بخيمة وسقف يقيهم، لن ينعموا بدار ولا بديرة.
هناك، على خط السماء الزرقاء، كان لقاء محمود بسالم وداعًا. لقاء نحلتين ووداع الريح للعاصفة. نحلتان على طريق النحل، حيث الريح ما زالت الريح، تعجُّ بعطر من سكن فيها ومن تربَّع عليها ومن سعى معها. فالقدر لن يستحبَّ إلٌا كما رسمه صاحب الجرح سالم، والشذا حتمًا سيضوّعه صاحب الحلم محمود.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق