برؤوسٍ مرتفعة، وقاماتٍ منتصبة، وهاماتٍ ممتشقة، وهمم عالية، وخطىً قوية حثيثة، خرج أبطالنا الأسرى الأحرار ضمن الشطر الثاني والأخير من صفقة الأحرار، التي أرغمت العدو على الإفراج عنهم رغماً عنه، وبغير إرادته، وعلى غير عادته، وبهذا العدد الكبير، على الرغم من أنه استفرد وحده بتحديد أسمائهم، واختارهم وحده من بين آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، دون أن يلتزم بمعايير المقاومة، وشروط الآسرين، وضمانات الوسيط المصري، إلا أنه بخروجهم من السجن قد طأطأ الرأس واستسلم، ورضخ لإرادة المقاومة وسلم، وفتح حزيناً بوابات السجون وأبواب الزنازين، ليخرج منها أبطال فلسطين بكل عزةٍ وكبرياء، يعانقون أمهاتهم، ويحتضنون أطفالهم، ويصافحون أحبتهم، ويعفرون جباههم بتراب الأرض الطيبة.
إنها لفرحةٌ عظيمة ملأت قلوب الفلسطينيين، وعمرت بيوتهم، وأسعدت أهلهم، يوم أن خرج الأبطال من سجونهم، وتحرروا من قيدهم، وانطلقوا يغذون الخطى نحو الأهل، ويستعجلون الحافلات نحو بلدات الوطن، ليجدوا الوطن كله في استقبالهم، والأهل يلوحون لهم، والأرض تتزين من أجلهم، والدنيا كلها تترقب وصولهم، فكانت فرحة غامرة لا تقل عن الفرحة التي عمت قلوبنا عند إتمام القسم الأول من الصفقة، التي خرج فيها من السجن من قد ظن العدو أنه لن يخرج منها أبداً، وأنه سيقضي بقية عمره فيها ولن ينعم بالحرية يوماً، فجاء من بعدهم أسرى أبطال، ورجالٌ أماجد، ومقاومون أشداء، ليتمموا الفرحة، ويستكملوا البسمة التي رسمها الأولون على الشفاه والعيون.
إنهم جميعاً أبناء الشعب الفلسطيني، وأصحاب هذا الوطن، وأهل هذا الشعب، نفرح بهم جميعاً، ونخرج لاستقبالهم، ونهب للترحيب بهم، ونقيم الاحتفالات من أجلهم، ونرفع الرأس بهم، ونحمد الله أن من علينا بحريتهم، وأكرمنا بالاجتماع بهم، فلا فرق بينهم، ولا تفضيل لبعضهم، ولا يختلفون عن غيرهم، فكلهم قاوم من أجل فلسطين، وكلهم قاتل من أجلها، وضحى في سبيلها، وعمل على تحريرها، ولم يكن يفكر يوماً أنه يعمل لحركةٍ أو منظمةٍ أو حزب، بل ضحوا جميعاً من أجل وطنهم العزيز الغالي، وقدموا زهرة عمرهم من أجله على مذبح الحرية وأبواب النصر، ولأجل هذا الهدف اعتقلوا، وبسببه دخلوا السجون وغابوا عن الأهل والأحباب، فاستحقوا منا الحب، وكانوا جديرين بهذا الاستقبال الذي يليق بهم.
لا تظنوا أن العدو فرحٌ بهذه الصفقة، وأنه سعيدٌ بها وراضٍ عنها، أو أنه نجح في إحباط الشعب الفلسطيني وخيب آمالهم، إنه على العكس من ذلك تماماً، فهو حزينٌ وهو ينفذ هذه الصفقة، وذليلٌ وهو يلتزم بها، ويشعر بالهوان وهو يضطر للإفراج عن أسرى فلسطينيين أياً كانت انتماءاتهم، وقد اعتصرهم الألم وهم يرون الأسرى الفلسطينيين يترجلون بعزةٍ من حافلاتهم، ويسجدون على الأرض قبل أن تصافح أيديهم أهلهم، يحمدون الله ويشكرون فضله، وقد انفطرت قلوب الإسرائيليين حسرة وهم يرون آلاف الفلسطينيين يستقبلون أولادهم وأحبتهم، يمطرونهم بالقبلات، ويضمونهم بقوة إلى صدروهم، يعانقونهم بكل الشوق والمحبة، فلا نظن أن العدو الإسرائيلي كان فرحاً وهو يرى مظاهر الفرحة والبهجة تطغى على الأرض الفلسطينية كلها.
الإسرائيليون لا يعجبهم إلا الفلسطيني الميت، ولا يرضيهم إلا الفلسطيني الأسير المسربل بالقيود والأغلال، فهم لا يحبون الفلسطيني الحر الطليق، المقاوم المقاتل، الصلب العنيد الذي لا يخضع ولا يلين، الذي يعشق المقاومة ويتمنى الشهادة، فمخطئ من يظن أن الاحتلال الإسرائيلي انتقى أسرى موالين له، أو متعاونين معه، أو لا يؤمنون بخيار المقاومة، ولا يعتمدون نهج القوة في التعامل معه، بل إن الأسرى جميعاً المفرج عنهم والذين ما زالوا رهن القيد والاعتقال مقاومين، ولا يؤمنون بغير المقاومة طريقاً وحيداً لتحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات.
علينا جميعاً أن نحترم هذه الصفقة وأن نقدر الذين قاموا بها وأشرفوا على تنفيذها، وألا نبخس في قدر الذين أفرج عنهم، وألا نبدي الندم، أو نتمنى غير الذي كان، فهؤلاء أبطالنا، وجميعهم أسرى يجب أن يتحرروا من سجونهم، ويعودوا إلى بيوتهم، فلو بقي لأحدهم في السجن يوماً واحداً، فإن حريته تسعدنا، وعودته تدخل الفرحة إلى قلوبنا، ولعل أحداً لا يعرف قيمة الحرية إلا الذين ذاقوا مرارة الأسر، وعرفوا ذل القيد والسجان، فالأسرى يحلمون بالحرية في ليلهم ونهارهم، ويتمنون اليوم الذي يعودون فيه إلى بيوتهم وأسرهم، فلا نقتل فرحة أهلهم، ولا نطفئ البسمة من على شفاههم، ولا نغتال السعادة المتفجرة في قلوبهم، ولنشاركهم الفرحة والسعادة، ولنبارك لهم حريتهم، ولا نشعرهم بأننا كنا نتمنى آخرين، وننتظر خروج غيرهم، بل كنا ننتظرهم، وسننتظر غداً إخوانهم ومن بقي في السجون بعدهم، وسيأتي اليوم الذي يغدون فيه جميعاً أحراراً معنا، يقاومون من جديد، ويرابطون على أرضهم ويقاتلون عدوهم، حتى يأتي اليوم الذي يجلوه عنها، ويغدو وطناً حراً سيداً مستقلاً.
أهلاً وسهلاً بكم أيها الأسرى الأحرار، مرحى بكم بين أهلكم وأحبابكم، أهلاً بكم تعودون إلى عمق الوطن، تضيؤون سماء فلسطين، وتعبقون أجواءها بالطيب والعبق، وتمنحون الشعب أملاً والأهل سعادة، وتزرعون في الأرض غرساً جديداً للمقاومة، يغيظ العدو، ويعمق الحقد في قلبه، ويصبغ بالحزن أيامه، ويجعل الذل لباسه، والعبودية مآله، ويعلمه أننا لا ننسى أسرانا، ولا نفرط في عطاء مقاومينا، ولا نساوم على دمائهم وتضحياتهم، ولا نقبل لهم بغير العزة، ولا نرتضي لهم غير الرفعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق