..... مع مغيب الشمس وعندما أرى الصائمين ينفرون خفافا وثقالا الى محلات بيع القطايف والفول والحمص والعصائر والمكسرات والخبز بأنواعه المختلفة،ويشترون كل ما يقع تحت ايديهم من مواد غذائية أتخيل بأننا مقبلين على أيام المجاعة الكبرى عام 1929 ،أيام"سفربلك"،وأتحسر على رمضان أيام زمان،وأشعر بأن هذا الشهر الفضيل فقد كل معانيه وقيمه السامية ولم يعد شهراً للعبادة والتضامن وشعور الغني مع الفقير والتطهر من الخطايا والذنوب والترقب الى الله بالعبادة،بل اجد انه تحول الى عادة اجتماعية وشكل من اشكال الاستثمار والاستغلال بأنواعه المختلفة،فهناك من يجد في هذا الشهر فرصة لكي يكرس حضوره ووجوده وزعامته وقيادته الاقتصادية أو الاجتماعية او السياسية،وحتى العشائرية،فهو يقوم بعمل الافطارات الجماعية،ليس بغرض التكفير عن الخطايا والذنوب او التعاطف والتعاضد مع المحتاجين من فقراء ومساكين،بل من أجلت حقيق أغراض واهداف ومنافع شخصية،ومثل هذه التجليات لا تجدها فقط في عمل الافطارات الجماعية مردودة الهدف والقصد والغاية والتي يكون طلب الرحمة والمغفرة اخر ما يكون منها،فأنت ترى في هذا الشهر الفضيل أن الكثيرون من يمارسون الدجل والنفاق والنصب والاحتيال وأيضاً الأشخاص الذين تكثرعلامات الاستفهام على سمعتهم الوطنية يتقاطرون الى المسجد الاقصى والجوامع ويحتلون الصفوف الامامية خلف الامام،وبقدرة قادر يتحولون الى وعاظ وزهاد ونساك واتقياء وورعين من كثرة الخشوع و"الإيمان" تدمع أعينهم،وهم المشهود لهم بأن الشياطين وابليس تتعلم من افعالهم وممارساتهم فيما يخص ممارسة كل اشكال وانواع الدجل والنفاق والعهر والفساد والبلطجة والزعرنة وسوء الائتمان وسعة الذمة والمتاجرة بالدين وحتى التعامل مع العدو ..الخ.
والأمور ليست وقفاً على هذا الحد،بل تجد الصائمين النافرين الى الجهاد عند عودتهم من التسوق يغلقون الطرقات والشوارع ويطلقون أبواق سياراتهم بشكل هستيري،ويستنفرون وترتفع حدة أعصابهم،ومن ثم تتطور الأمور الى المشادات الكلامية والملاسنات ومن بعدها عراك واشتباكات و"طوش" سرعان ما تتحول الى معارك داحس والغبراء،وتجد أن هذه الجموع الصائمة المؤمنة تتحول في لحظات الى مجرد رعاع هائج ليس له علاقة بالدين ولا ينفع لا شعبان ولا رمضان ولا دين ولا قيم ولا أخلاق في تهدئته ولجم هيجانه في مشاهد توحي لك بأننا نعيش في مرحلة ما قبل التاريخ أو أن هناك خلل كبير في ثقافتنا وتربيتنا.
أما من زاوية أخرى فهذا الشهر المفترض فيه ان تقل المصاريف وتخفض الاسعار للسلع والبضائع،حيث أن اليهود غير المؤمنين في فترة اعيادهم وصومهم يقوموا بعمل عروض على كل البضائع وتخفيضاسعارها حتى يتمكن الناس من الشراء والتمتع بالعيد والصوم،ومن هذه الزاوية تجد العديد من الأسر المقدسية تتوجه الى المحلات التجارية الإسرائيلية في القدس الغربية وغيرها لكون الأسعار لنفس السلع والبضائع ارخص مما هي في محلاتنا التجارية،رغم أن الأيدي العاملة في تلك المحلات رواتبها اعلى من رواتب العاملين في المحلات العربية،ونحن اذ لا نشجع او ندعو الى التوجه للمحلات التجارية الإسرائيلية،ولكن بالمقابل يجب ان يكون هناك سياسة اقتصادية تشجع مثل هؤلاء الناس وتخلق لديهم قناعات وحوافز،بضرورة الشراء من المحلات العربية،وهذه مسألة بحاجة الى نقاش جدي للبحث في أسبابه وأين تكمن المشكلة والخلل،وما الذي يدفع المواطنين للشراء من المحلات التجارية الإسرائيلية؟.
أما نحن المؤمنين الأتقياء والورعين،ما ان يهل شهر رمضان حتى تبدأ الأسعار بالارتفاع بشكل جنوني،والتجار الذين قال عنهم النبي المصطفى محمد بأن فئة قليلة جداً جداً منهم سيحشرون مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة في الجنة فهو يعلم ويدرك بأن الجزء الأكبر منهم سيحشر في مكان آخر، فهم يتحينون هذه الفرصة لكي يستغلوا الناس من خلال احتكار البضائع والسلع ورفع الأسعار،وعرض ما هو موجود في مخازنهم من بضائع كاسدة او فاسدة ومنتهية الصلاحية والتاريخ،حتى أن العديد منهم يقومون بإعادة تغليف البضائع واللعب بتواريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية من أجل تسويق البضائع الفاسدة،دون أي وازع أخلاقي او إنساني او ضميري،فهم فقط يحركهم جشعهم وطمعهم ومنفعتهم ومصلحتهم الخاصة،على اعتبار أن الناس في هذا الشهر تقوم بشراء أي شيء يقع تحت أيديها،وهي فرصة لترويج وتسويق مثل هذه البضائع على الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل،حيث أن ضيق الحال وقلة الامكانيات،مع سعر منخفض لأسعار تلك البضائع يغريها بالشراء،وهي لا تدرك بأن ثمن ذلك صحة أفرادها والكثير من الأمراض والموت البطيء.
نحن في شهر رمضان الفضيل نريد ان نجد أن هناك من يدق جدران الخاص،نريد من يعلق الجرس،نريد من خطباء الجوامع التركيز على مثل هذه الظواهر السلبية،أن من يريد القدوم للصلاة في الجامع أو الاقصى ليس مبرراً أو عذراً له،أن يضع أو يركن سيارته بشكل يغلق الطريق او الشارع العام،والقول بأني فعلت ذلك من أجل الصلاة،فهذا عذر أقبح من ذنب،وكذلك تحذير التجار ومطالبتهم بالتخفيف عن الناس ومراعاة ظروفهم الاقتصادية،وليس العمل على استغلالهم بطريقة جشعة تتعارض مع ما كل ما هو إنساني وأخلاقي،نريد منهم القول للجماهير والناس،أن الصوم ليس عن الطعام والشراب فقط،فهذا أسهل أنواع الصوم،ولكن الصوم عن افتعال المشاكل والطوش والاحتراب العشائري والقبلي،فهي الأكثر خطورة على وحدة نسيجنا الاجتماعي في القدس وفلسطين.
نريد منهم في خطبهم التطرق الى من يقومون بتسريب الأملاك والعقارات والأراضي الى اليهود،ويقفون في الصفوف الأمامية في الاقصى والجوامع،بأنه لن يقبل منهم لا توبة ولا صوم ولا صلاة،فهذه الأعمال من الكبائر،التي لا ينفع معها التستر والتمسح بالدين،نريد منهم القول بأن من يجلب حارس أملاك الغائبين إلى أخيه أو أبيه في عقار أو بيت،فهو أيضاً لا مغفرة ولا رحمة له،فهذا العمل وكذلك عمليات التسريب للأملاك والعقارات والأراضي من الكبائر التي لا تقبل فيها لا رحمة ولا توبة.
نريد منهم القول بأن الإفطارات الجماعية المقامة في فنادق خمس نجوم وكذلك العزائم الرمضانية والتي يلقى فيها الكثير من الأكل في حاويات القمامة والكفيل بإطعام مئات الأسر المحتاجة حرام،وبدلاً من أن يخلق ألفة ولحمة اجتماعية،فهو يخلق المزيد من التفكك الاجتماعي والنظرة السلبية إلى واقعنا الاجتماعي.
أنا أدرك بأن جهدا كبيراًًيجب أن يبذل في هذا الجانب،وفي الكثير من جوانب حياتنا الاجتماعية،حتى يكون هناك تعديل ايجابي في سلوكنا،وهذا واجب الجميع ومسؤوليات القيادات الدينية والوطنية والمجتمعية عليها أن تمارس دورها الايجابي والقيادي حتى تتغير الكثير من عاداتنا ومسلكياتنا السلبية والمدمرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق