حماس تختبر توازنها/ نقولا ناصر

(نجحت "حماس" في التوفيق بين هويتها "الإخوانية" وبين هويتها الوطنية المقاومة، ونجحت في أن تجعل الواحدة منهما في خدمة الأخرى، لكن صعود "الإخوان" العرب يتحول عمليا الآن إلى ضغط على "حماس" للاختيار بين الهويتين)

تسير حركة المقاومة الإسلامية "حماس" اليوم على وتر مشدود دقيق يفصل فلسطينيا بين ثنائيات الاستراتيجية والتكتيك، والمقاومة والسلطة، والمعارضة ووحدة الصف الوطني، وبين الوطني وبين الإسلامي، وبين الثوابت وبين المتغيرات، تتجاذبها إلى الانحياز قوى لا ترحم ترفض أي توازن للحركة بينها، دوليا بين القطب الأميركي الذي لم يعد أوحدا وبين القطب الروسي – الصيني الصاعد، وإقليميا بين محور سوري – إيراني في مواجهة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي وبين محور دول الخليج العربية – تركيا الذي يسعى إلى نزع فتيل هذه المواجهة بالتفاوض على تسوية سياسية معها عبر وساطة ترعاها الولايات المتحدة.
وتجد حماس نفسها اليوم بالكاد تنجح في توفيق موقفها بين هذه التناقضات الحادة التي تدفعها بقوة قاصدة أن تفقدها توازنها، مما يخلق الكثير من التشويش والغموض الذي يثير بدوره الكثير من سوء الفهم الذي يتطلب منها جهودا مضاعفة لتوضيح موقفها وللحفاظ على توازنها على حد سواء، في امتحان توازن دقيق لم تنجح فيه تاريخيا حركة التحرير الفلسطيني "فتح" التي قادها انحيازها وعدم توازنها إلى المأزق التاريخي الذي يحاصرها الآن.
لقد حرصت الحركة على تأكيد التزامها بألا تكون "جزءا من اي محور عسكري أو سياسي إقليمي" (د. أحمد يوسف مستشار وزارة الخارجية بغزة) وبأن "لا تنحاز لطرف دون آخر" في الشأن الداخلي سواء في سورية أم في غيرها (د. محمود الزهار القيادي في "حماس" ووزير الخارجية الفلسطيني الأسبق).
لكنها تبدو الآن موزعة بين الوطني وبين الإسلامي في خطابها السياسي، فالبند الثاني من الباب الأول من ميثاقها ينص على أن "حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين"، وسبق لمؤسسها الشهيد الشيخ أحمد ياسين ان أعلن بأن "الذين أنشأوا حماس هم أنفسهم الإخوان المسلمون، فنحن حركة إخوانية، حركة مجاهدة هدفها التحرير"، ومن هنا انفتاحها على "الإخوان" الذين أوصلهم ما يسمى "الربيع العربي" إلى السلطة أو إلى المشاركة فيها في مصر وتونس والمغرب وليبيا واليمن، وهنا كذلك تكمن عقدة علاقاتها مع الأردن، ومن هنا كذلك الالتباس الحالي الذي يوحي بأنها قد استبدلت، أو هي على وشك أن تستبدل، تحالفا جديدا لها مع "الإخوان" بتحالفها مع دمشق وطهران الذي احتضنها عندما لفظتها كل العواصم العربية الأخرى.
وكانت جماعة الإخوان الفلسطينية عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987 قد خيرت بين الانخراط فيها أو الانتظار، فتبنت الخيار الأول، وأعلنت تأسيس "حماس"، ثم تأسيس جناحها العسكري "كتائب القسام"، لتختار بذلك التحول إلى حركة تحرر وطني، وهي الصفة التي يكرر رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل وصف الحركة بها حتى الآن، دون أن تتخلى الحركة طبعا عن ميثاقها "الإخواني".
وبالرغم من وصول الرئيس "الإخواني" محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، فإن "الإخوان" ليسوا هم كل السلطة في مصر، ولن يكونوا إذا التزموا بالتعددية السياسية وتبادل السلطة، إضافة إلى المرحلة الانتقالية التي تمر مصر بها، ناهيك عن إعلان مرسي المتكرر عن التزام رئاسته باحترام بلاده لاتفاقياتها "الدولية"، مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي بخاصة، مما لا يؤهل مصر كي تكون بديلا مضمونا لإيران وسورية في دعم "حماس" كحركة مقاومة. وقس على ذلك في كل دول "الربيع العربي" التي وصل "الإخوان" فيها إلى مواقع قيادية.
إن تصدر "الإخوان" السوريين ل"تغيير النظام" في سورية قد يكون أحد العوامل المحرجة التي دفعت قيادات حماس إلى مغادرة دمشق، ودفعت بعضهم إلى إعلان مواقف ضد الحاضنة السورية لحماس كحركة مقاومة (رئيس الوزراء في غزة اسماعيل هنية)، لكن عوامل أخرى مثل دعم الولايات المتحدة لهم، وهي التي تصنف "حماس" جماعة "إرهابية"، ومثل الدعم المقدم لهم من المحور العربي المتحالف مع أميركا والمؤيد للمفاوضات الفلسطينية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي المفاوضات التي تعارضها "حماس"، إضافة إلى عوامل أخرى منها عدم وضوح البرنامج الفلسطيني للمعارضة السورية التي يقودها "الإخوان"، لا تزال أسبابا كافية لتردد "حماس" في القطيعة النهائية مع حاضنتها السورية – الايرانية.
لذلك فإن مكاتبها "ما زالت موجودة في سوريا"، بينما "لم يطرح بعد من أي جانب" موضوع "انتقال المكتب السياسي من دمشق إلى مكان محدد" آخر، كما أكد نائب رئيس المكتب السياسي للحركة د. موسى أبو مرزوق في حوار مع الشرق الأوسط اللندنية قبل يومين، مضيفا: "أما أعضاء المكتب السياسي فهم خارج سوريا"، حيث يقيم هو في القاهرة، ويقيم مشعل في قطر، ومحمد نزال في عمان، وعماد العلمي في غزة. وباستثناء قطر، رفضت مصر والسودان والأردن ولم توافق أي عاصمة عربية أخرى على أن تكون بديلا لدمشق كمقر رئيسي للحركة.
والمفارقة أن خروج قيادات "حماس" من دمشق كان مطلبا أميركيا – إسرائيليا، وكان سببا في التصنيف الأميركي لسورية ك"دولة داعمة للإرهاب"، لكن لا دمشق ولا حماس تبدوان على وشك أن تكافآ على إنجاز هذا المطلب الأميركي – الإسرائيلي، ولو جزئيا.
والمفارقة الثانية أن هوية حماس "الإخوانية" حلت محل الحجة الإيرانية – السورية كذريعة لمنظمة التحرير الفلسطينية لاستمرارها في وضع العراقيل أمام المصالحة مع الحركة، فقد قال عزام الأحمد رئيس حركة "فتح" للحوار الوطني إنهم أبلغوا الرئيس المصري مرسي "بشكل مباشر بأن فوز الإخوان المسلمين في مصر يشجع حماس على التمادي والاستمرار بالانقسام" وأن هناك "من يرعى حركة حماس ضمن قيادة حركة الإخوان المسلمين" (وكالة "معا" في 8/8/2012). 
ومثلما هو مؤكد أن دمشق هي الحاضنة الطبيعية ل"حماس" إذا تمسكت بهويتها كحركة مقاومة للتحرر الوطني، فإن الدوحة ستكون حاضنة طبيعية لها إن تخلت عن هذه الهوية لصالح هويتها "الإخوانية" وسيكون انتقال مقر "حماس" الرئيسي من دمشق إلى الدوحة مؤشرا لا يمكن الخطأ فيه إلى أن "حماس" قد خطت خطوتها الأولى لتكون نسخة مكررة من تجربة فتح التي قادها انحياز كهذا إلى التحول من حركة مقاومة إلى حركة مفاوضة مرتهنة للقرار الأميركي.
لقد نجحت "حماس" حتى الآن في التوفيق بين هويتها "الإخوانية" وبين هويتها الوطنية المقاومة، ونجحت في أن تجعل الواحدة منهما في خدمة الأخرى، لكن صعود "الإخوان" في عدد من أقطار "الربيع العربي" يتحول عمليا الآن إلى ضغط على "حماس" للاختيار بين الهويتين، أكثر مما هو رصيد لها كما هو الانطباع الإعلامي الشائع.
وتدرك دمشق وطهران خطورة امتحان التوازن الدقيق الذي تخوضه "حماس"، لذا فإنهما حريصتان حتى الآن على عدم تصعيب الاختبار التاريخي على الحركة، فتبقيان تحفظاتهما عليها عند الحد الأدنى من العلانية والنقد. وقد تحدث أمين مجلس الأمن القومي الايراني سعيد جليلي أثناء زيارته الأخيرة للبنان وسوريا عن "أصدقائنا في حماس"، مذكرا بأن "الجمهورية العربية السورية هي التي أخذت بيدها ووقفت إلى جانبها وساعدتها ودعمتها" واعتبر صعود "الإخوان" العرب جزءا من "ظاهرة الصحوة الإسلامية" في إشارة إيجابية لهم ولحماس.
وفي المقابل، حرص مشعل على أن يؤكد بأن سيل المتغيرات لا يؤثر في ثوابت حماس، ليقول إنه حضر مؤتمر حركة النهضة التونسية أواسط الشهر الماضي بصفته أحد القيادات "الوطنية" الفلسطينية، ليؤكد "مجددا أن المقاومة هي سبيلنا لتحرير فلسطين، ولا شيء غير المقاومة. إن أرضنا التي تم اغتصابها بالقوة لا يمكن تحريرها إلا بالقوة، هذه سنن التاريخ"، مضيفا "نحن مع بناء استراتيجية فلسطينية موحدة على مبدأ المقاومة"، وداعيا إلى "طي صفحة المفاوضات".
وهذه بالتأكيد ثوابت لحماس تضمن عودتها إن عاجلا أو آجلا إلى الحاضنة السورية – الايرانية للمقاومة، بانتظار أن تحسم هذه الحاضنة أولا الحرب المحتدمة عليها الآن لصالحها، وإلا سوف تجد "حماس" نفسها محاصرة حصارا سوف يفقدها توازنها على الأرجح للسير في الطريق التي قادت "فتح" إلى مأزقها الراهن.
* كاتب عربي من فلسطين        
* nassernicola@ymail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق