لن تجدوا في ما سأقول لكم اليوم تفاؤلًا حرصتُ على بثّه حتى عندما عزّ الرجاء وتعثّرت مسيرة. سأكتب عن وجعٍ ومن وجع.
ربما عن جرح الوطن كانت الكتابة "أوقع"، فبذلك سأنهي، وقبلها سأعرّج على جرحي. سأكتب عنك "سعاد" وأعرف أنّكِ كالنسمة تسمع حتى أنفاس الصباح وتسمع، كذلك، أصواتَ التراب. ليلنا داهم. يتسلل ببطءٍ متهيّبًا، فلليل ذاكرة أقوى من الجور. وهو مثلنا يعرف أنّك لن تكوني إلّا كما كنتِ، قطراتِ ماء زلال تسحُّ على شفاه شقّقها الصدى. سأكتب لك "سعاد" وما زال في القنديل زيتٌ وعطر، وصدرك لا آمَن ولا أحنّ.
لا معنى للوقت. كل النصوص تبلى. قصاصات من كلام تتناثر على رصيفكَ المتعب وتلك الموجة العنيدة تبلّلكَ حتى حافة الغرق. تضرب. تنسحب وتعود ناقلة رسائل حاكمِ البحر وسيّدِ الموج. لا وقت للوقت والصوت يهمس بوجهك: عِشْ ولا تأبه لموتك!، لا معنى إلّا للحليب الساكن منذ الصرخة الأولى في جوف حلقكَ. تلك الحقيقة، صرختك وأنت تبكي على أول الرحيل وعلى أول المنفى. تذكّر كيف كان آخر "الطلق" الذي أسكت الوجع وأطلقك في رحلة الفَراش صوبَ القمر. فهيِّئ روحَك للفرح ولا تبكِ على ما كان ولا على ما سيكون. حياتك كانت من "سعاد" من دمها وصلاتها. تباريحها نجومُ ليلك ودعاؤها إكسيرٌ بدونه لا حياة لك.
رأينا، أنا وأربعة إخوتي النور في بيتٍ جليلي. الأب معلّم والأم شريكة ومعلّمة. عائلة متوسطة الحال. لم نعرف معنى للحرمان، من فيض سعادة أسريّة وكثيرٍ من القناعة التي كانت فراشَنا ودينَنا. كلّ شيء كان طبيعيًا، لم تؤذِنا هزّات ولا جراح تركت ندبها علينا. والدي بكى، كما تبكي الرجال، على حياء وبعزة، مرتين؛ عندما توفي، في الناصرة، صديق شبابِه وشريكُ أحلامٍ ووجع، أكرم أبو حنا، وعندما مات صاحب الوعد وبشير مستقبل الأمة والجيل أبو خالد جمال عبد الناصر. أمي، سعاد، لم تبكِ وحاولت أن تخفّف وطأة دموع الرجال بشرحٍ يليق بالعاطفة والحب الإنساني العادي.
كانت فتاةً جميلة. أحبّها كثيرون، لكنّها أحبّت ومالت إلى حيث مال القلب وعلق. قصتهما كانت كالسّر المخبَّأ في ياسمينة بلدية، كلّما هبّ النسيم عبق عطر الحكاية وطار على جناح ملاك. طريقهما واحد. شقِيا معًا وأحبّا مع "أول همسة". رقّا لعذابات أسمهان وتمنَّيا معها "ليت للبرّاق عينًا". عاشقان كما في "همسة حائرة"، التي من أجلها أحبا كلّ "عزيز". الوطن عندهما جرحُ جيل وخوفُه، محرّماتٌ مكتومة، تمامًا كما تتكتَّم البكر على خنجر فتح عليها أبواب جهنّم. في البيت هواء من عزة وكرامة. لم نعرف، نحن الأبناء، مصدر هذه النسائم لكنّنا كنّا نسمعهما يدندنان "نحبها من روحنا ومن دمنا ومن منكم يحبها مثلي أنا". كبرنا نحن، ومعنا كبر حبّنا لها، لسعاد.
لأربعين عامًا عملت معلّمة جابت مدارس ما بقي من وطن وحجارة. لا الحال أسعفتها ولا الأحوال، لكن التعليم رسالة مقدّسة. ماشية على الأقدام في كل فصل ومناخ، رشيقة كالفراشة أو محمّلة زينة الدنيا والجنى، كانت تقطع المسافات بين قرية وقرية لتعلّمَ الحرفَ واللغة فهي من جيل عرف بواطن الرسالة وأيقن أننا هنا سنبقى إن بقيَت اللغة. من أجلهما أحببنا الكتاب واللغة ولأجلهما أحببنا كلّنا "سعاد" أكثر.
مؤمنة لم تحفل بوسيط يقرّب إليها الغيم، مراكب سفر البسطاء إلى حقول الرب، راعيها وصديقها. كانت تصلّي ولا تطلب لنفسها فهي لن تعيشَ سعيدة إلّا إن كان بحرها يزبد سعادة، ولن تهنأ بصحة إلّا إذا سلم الأعزّاء والأحباب من كل سقم وشدة. أحبّت العذراء مريم وصادقتها كما يصادق فلّاحٌ الفجرَ والساقية. لم تكره. لم تحسد ولم تغَر. إنسانة مؤمنة صالحة. قلبها، بيتها/معبدها. كبرنا على إيمانها وبقيت صلاتنا نتمتمها بفرح عظيم "نحبها كروحنا! من منكم يحبها مثلنا" ومنذ ذلك السَّحَر نحب "مريم" لكنّنا نحب "سعاد" أيضًا ونصلي من أجلها، وهي هناك في الجليل مريضة، ليلها طويل ومن وجع.
لربّما كان من الطبيعي والمتوقّع أن أكتب عمّا جرى ويجري من أحداث في وطن "سعاد"، أنا الجليلي الذي أدمن القدسَ ورام الله كما الريح للناي، فلولا الريح ما غنج القصب. فأنا أشهد كلّ يوم ألفَ انطلاقة نحو ميادين الرماية، والفوارس عصبوا عيونهم، فمن بالظلام بحاجة لعين؟. لن أكتب اليوم عن مسرح العبث وصناديق العجب. فها هو الدخان الأسود يهدأ ويحط هناك في سهول جنين وأزقة نابلس. مشهد فلسطين اليوم موسوم باللامنطق. مشهد أقرب إلى أفلام الرعب والإثارة والحركة، لن تعرف فيها ما وراء الستائر ولا بيد من سيكون الخنجر؟ أين الجثة ومن يا ترى المقتول ومن هو القاتل؟. المخرج هو البطل. وفلسطين اليوم وهمٌ سائبٌ في حقول من مرايا، الحقيقة زائغة. الوجع هو الصدى وما تحسبه دمك هو طرطشة وريد أمّك. البطل هو من رَسَم واحتالَ واختال واغتال ومن فرّق فسادَ وانتصر.
لن أتوجّعَ اليوم، لن أبكي ولن أضحك فهنا في فلسطين هذا هو زمن السقوط مع ماء السماء الذي كان منذ القطرة الأولى شحيحًا كالحق. لن أبكي اليوم على أحد، فبكاءُ الرجال حياءٌ وحرام، وعليك يا شوقُ لا تُذرف دمعة ولا تُلطم شامة.
لن أكتب اليوم عن فلسطين الخسارة. للجليل ركبي. وهناك، أعذروني، سأسهر على قنديل "سعاد" ومعًا سنصلّي لها ومن أجلها، فهي البداية وستبقى عزيزة في الأمم.
ربما عن جرح الوطن كانت الكتابة "أوقع"، فبذلك سأنهي، وقبلها سأعرّج على جرحي. سأكتب عنك "سعاد" وأعرف أنّكِ كالنسمة تسمع حتى أنفاس الصباح وتسمع، كذلك، أصواتَ التراب. ليلنا داهم. يتسلل ببطءٍ متهيّبًا، فلليل ذاكرة أقوى من الجور. وهو مثلنا يعرف أنّك لن تكوني إلّا كما كنتِ، قطراتِ ماء زلال تسحُّ على شفاه شقّقها الصدى. سأكتب لك "سعاد" وما زال في القنديل زيتٌ وعطر، وصدرك لا آمَن ولا أحنّ.
لا معنى للوقت. كل النصوص تبلى. قصاصات من كلام تتناثر على رصيفكَ المتعب وتلك الموجة العنيدة تبلّلكَ حتى حافة الغرق. تضرب. تنسحب وتعود ناقلة رسائل حاكمِ البحر وسيّدِ الموج. لا وقت للوقت والصوت يهمس بوجهك: عِشْ ولا تأبه لموتك!، لا معنى إلّا للحليب الساكن منذ الصرخة الأولى في جوف حلقكَ. تلك الحقيقة، صرختك وأنت تبكي على أول الرحيل وعلى أول المنفى. تذكّر كيف كان آخر "الطلق" الذي أسكت الوجع وأطلقك في رحلة الفَراش صوبَ القمر. فهيِّئ روحَك للفرح ولا تبكِ على ما كان ولا على ما سيكون. حياتك كانت من "سعاد" من دمها وصلاتها. تباريحها نجومُ ليلك ودعاؤها إكسيرٌ بدونه لا حياة لك.
رأينا، أنا وأربعة إخوتي النور في بيتٍ جليلي. الأب معلّم والأم شريكة ومعلّمة. عائلة متوسطة الحال. لم نعرف معنى للحرمان، من فيض سعادة أسريّة وكثيرٍ من القناعة التي كانت فراشَنا ودينَنا. كلّ شيء كان طبيعيًا، لم تؤذِنا هزّات ولا جراح تركت ندبها علينا. والدي بكى، كما تبكي الرجال، على حياء وبعزة، مرتين؛ عندما توفي، في الناصرة، صديق شبابِه وشريكُ أحلامٍ ووجع، أكرم أبو حنا، وعندما مات صاحب الوعد وبشير مستقبل الأمة والجيل أبو خالد جمال عبد الناصر. أمي، سعاد، لم تبكِ وحاولت أن تخفّف وطأة دموع الرجال بشرحٍ يليق بالعاطفة والحب الإنساني العادي.
كانت فتاةً جميلة. أحبّها كثيرون، لكنّها أحبّت ومالت إلى حيث مال القلب وعلق. قصتهما كانت كالسّر المخبَّأ في ياسمينة بلدية، كلّما هبّ النسيم عبق عطر الحكاية وطار على جناح ملاك. طريقهما واحد. شقِيا معًا وأحبّا مع "أول همسة". رقّا لعذابات أسمهان وتمنَّيا معها "ليت للبرّاق عينًا". عاشقان كما في "همسة حائرة"، التي من أجلها أحبا كلّ "عزيز". الوطن عندهما جرحُ جيل وخوفُه، محرّماتٌ مكتومة، تمامًا كما تتكتَّم البكر على خنجر فتح عليها أبواب جهنّم. في البيت هواء من عزة وكرامة. لم نعرف، نحن الأبناء، مصدر هذه النسائم لكنّنا كنّا نسمعهما يدندنان "نحبها من روحنا ومن دمنا ومن منكم يحبها مثلي أنا". كبرنا نحن، ومعنا كبر حبّنا لها، لسعاد.
لأربعين عامًا عملت معلّمة جابت مدارس ما بقي من وطن وحجارة. لا الحال أسعفتها ولا الأحوال، لكن التعليم رسالة مقدّسة. ماشية على الأقدام في كل فصل ومناخ، رشيقة كالفراشة أو محمّلة زينة الدنيا والجنى، كانت تقطع المسافات بين قرية وقرية لتعلّمَ الحرفَ واللغة فهي من جيل عرف بواطن الرسالة وأيقن أننا هنا سنبقى إن بقيَت اللغة. من أجلهما أحببنا الكتاب واللغة ولأجلهما أحببنا كلّنا "سعاد" أكثر.
مؤمنة لم تحفل بوسيط يقرّب إليها الغيم، مراكب سفر البسطاء إلى حقول الرب، راعيها وصديقها. كانت تصلّي ولا تطلب لنفسها فهي لن تعيشَ سعيدة إلّا إن كان بحرها يزبد سعادة، ولن تهنأ بصحة إلّا إذا سلم الأعزّاء والأحباب من كل سقم وشدة. أحبّت العذراء مريم وصادقتها كما يصادق فلّاحٌ الفجرَ والساقية. لم تكره. لم تحسد ولم تغَر. إنسانة مؤمنة صالحة. قلبها، بيتها/معبدها. كبرنا على إيمانها وبقيت صلاتنا نتمتمها بفرح عظيم "نحبها كروحنا! من منكم يحبها مثلنا" ومنذ ذلك السَّحَر نحب "مريم" لكنّنا نحب "سعاد" أيضًا ونصلي من أجلها، وهي هناك في الجليل مريضة، ليلها طويل ومن وجع.
لربّما كان من الطبيعي والمتوقّع أن أكتب عمّا جرى ويجري من أحداث في وطن "سعاد"، أنا الجليلي الذي أدمن القدسَ ورام الله كما الريح للناي، فلولا الريح ما غنج القصب. فأنا أشهد كلّ يوم ألفَ انطلاقة نحو ميادين الرماية، والفوارس عصبوا عيونهم، فمن بالظلام بحاجة لعين؟. لن أكتب اليوم عن مسرح العبث وصناديق العجب. فها هو الدخان الأسود يهدأ ويحط هناك في سهول جنين وأزقة نابلس. مشهد فلسطين اليوم موسوم باللامنطق. مشهد أقرب إلى أفلام الرعب والإثارة والحركة، لن تعرف فيها ما وراء الستائر ولا بيد من سيكون الخنجر؟ أين الجثة ومن يا ترى المقتول ومن هو القاتل؟. المخرج هو البطل. وفلسطين اليوم وهمٌ سائبٌ في حقول من مرايا، الحقيقة زائغة. الوجع هو الصدى وما تحسبه دمك هو طرطشة وريد أمّك. البطل هو من رَسَم واحتالَ واختال واغتال ومن فرّق فسادَ وانتصر.
لن أتوجّعَ اليوم، لن أبكي ولن أضحك فهنا في فلسطين هذا هو زمن السقوط مع ماء السماء الذي كان منذ القطرة الأولى شحيحًا كالحق. لن أبكي اليوم على أحد، فبكاءُ الرجال حياءٌ وحرام، وعليك يا شوقُ لا تُذرف دمعة ولا تُلطم شامة.
لن أكتب اليوم عن فلسطين الخسارة. للجليل ركبي. وهناك، أعذروني، سأسهر على قنديل "سعاد" ومعًا سنصلّي لها ومن أجلها، فهي البداية وستبقى عزيزة في الأمم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق