البعثيون العراقيون/ أسعد البصري

طلبت مني الممرضة في المستشفى خلع كل ملابسي
وارتداء الملاءة الزرقاء . هكذا ، أخذت أخلع ملابسي قطعة فقطعة
وأعلّقها على الباب. أسمال بالية على جسد بائس
سألتني الممرضة قبل لصق المجسات
على جسدي لأخذ تخطيط القلب
هل تعرف يا أسعد في أية سنةٍ نحن؟ ، وفي أيِّ شهر؟ ، في أيِّ يوم ؟
كانت الساعة الثالثة فجراً عندما سحبوا أربع زجاجات لفحص الدم
بعد حوالي ساعة جاءت طبيبة صينية غاضبة وقالت :
تناول قرص المنوم ، أنت تدخن وتشرب ولا تنام
هذا الخفقان هو ( رهاب ) لهذا أنت خائف الآن . يجب أن تنام فوراً
نمتُ في قسم الإسعاف . ورأيتُ عامر بدر حسون يذكرني
بما قاله قبل عقد ونصف في ضرورة أن ينظر الكاتب إلى يديه بعد الكتابة
ويتأكد أن أحداً لن يُقتل بسببه . الكتابة في نظر عامر
هي حرص وطني على حراسة الجمال
كان عامر يقول لكل أديب شاب عراقي موهوب :
(( اكتب ما تشاء لكن لا تقتل أحداً بقلمك ))
عندما أفقتُ طردوني من المستشفى على عجل بعد أن أعطوني حبوباً مهدّئة
أنا رجلٌ محطَّم ، أقرب إلى الميّت من الحيّ
والكتابة عن حسن العلوي تسبب لي مشاكل صحية
فهو رجل قاسٍ لا يرى في العراقيين
سوى طوائف متناحرة يمكر بعضها ببعض
حسن العلوي هو غياب الحب في الثقافة العراقية
يقول مجنون ليلى :
ضاقت عليَّ بلادُ الله ما رحُبَتْ
يا للرّجالِ فهلْ في الأرضِ مُضْطَرَبُ
~~~~~
وكذلك يقول المتنبي :
وما آنسدّتِ الدّنيا عليّ لضيقها
ولكنَّ طرفاً لا أراكِ بهِ أعْمى
~~~~~~~~
هناك ضيقٌ وآختناق بسبب نقص الحب في هذا العالم
وهذا ما يشخصه ماركيز في روايته حين يقول:
إنَّ العزلة هي نقص الحُب ، وقد يعاني ذلك شخص أو دولة أو حضارة بأكملها
أنا أخشى الغوغاء وأعاني ما كان يعانيه أبو حيان التوحيدي
الذي كان عروبياً يعشق الجاحظ في زمن بويهي شعوبي
حتى أنه اعتزل الناس وآتقى شرهم ليعيش حياة البهاليل والمتسولين
رغم ذلك لم يشتم الرعاع
وقال بقول الحكماء (( لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون
الغريق ، ويطفئون الحريق ، ويؤنسون الطريق ، ويشهدون السوق .))
يرى البعض خطأً أن قسوة العلوي بسبب بعثيته السابقة
وهذا بكل تأكيد غير صحيح
البعثيون كما رأيتهم كانوا يعانون ويتذمرون من الإعلام والأجهزة القمعية
النظام كان يفضل الأبواق والعناصر على الرفاق
فالبعثي أكثر وعياً واعتداداً
بالمقابل تحولت عناصر الأمن والقمع إلى صفوف الميليشيات
والسجون السرية الحالية
وحده البعثي ينبغي اجتثاثه
البعثيون هم الأستاذ عباس عبد اللطيف معلم الإبتدائية
الذي طار صوابه حين سألته عن قصيدة حفظتها للإصطفاف :
حاولن تفديتي وخفن مراقباً
فوضعن أيديهنَّ فوقَ ترائبا
~~~~~~
كيف نقول (( ترائبا )) وليس (( ترائبٍ )) نادى الأستاذ عباس المدير
وكرموني يومها ثم قالوا يا إبني هذه ممنوعة من الصرف
وسوف تتعلم ذلك في الإعدادية
البعثيون هم مدراء الإعدادية الأنيقون
الأستاذ جواد صندل الذي يدور بين الصفوف يراقب نظافة المدرسة والإنضباط
ينظر من نافذة الإدارة نظرته إلى عنقاء تنهض من رمادها
وتنفض الخنوع . كان يقول لي :
يا أسعد لا تقرأ حسب قدرتك على حفظ الشعر
بل على قدرة الناس على الإصغاء . ويالها من نصيحة بألف جمل
و الأستاذ الرائع حميد فاضل خضيّر
الذي كلما خسرت مسابقة المطاردة الشعرية لصالح أخيه الأصغر ميثم يقول :
لكن أنت ستصبح شاعراً وليس ميثم
وفعلاً أصبح ميثم طبيباً بارزاً وأصبحتُ أنا لا شيء أي شاعراً
مرّةً سألنا الأستاذ حميد عن الصورة الشعرية
فكتب أبياتاً ليست من المنهج وقال هذه هي الصورة :
( وأمسِ ،
مرّةً أخرى حلُمت ،
رأيتُ هولاكو معلّقاً وفي يديه قلب .
رأيته يبصق في كتاب ،
وحوله كان رفاق البعثِ يهتفونْ
جاء الحسابُ فلتمُتْ يا مجرمَ القرونْ . )
~~~~~~~~~~~~~~
كان هؤلاء الرجال ولا شك صارمين وحالمين
لكنهم لعبوا معنا كرة المنضدة والطائرة ولم يمدوا يدهم لنقبلها
في الجامعة كان هناك الدكتور عبد الحسن خريج ألمانيا بالجغرافيا
يأتي إلى كليتنا لتدريس إلياس فرح في درس الثقافة القومية
يردد هكذا ( صدقوني ، صدقوني ) وحين نزوره في كليته
لا يجلس خلف مكتبه احتراماً لنا نحن الفتيان
يهبنا دواوين سليمان العيسى ومحمود درويش والسياب
وكتب شبلي العيسمي هدية لنا . يقول أنتم رفاقي وليس طلابي
هذا الحقد على البعثيين لا مبرر له صدقوني
معظم هذه الكتابة الحاقدة على البعثيين من أقبية السجون والمقابر الجماعية
هي إبداع الأمم المتحدة والولايات المتحدة
حيث قاموا بحصار العراقيين وتجويعهم
ثم استقبلوهم في مخيمات تشترط حكاية تعذيب
و لغة ضحية لإعادة التوطين في بلد أجنبي
أنا في الحقيقة أشعر بشفقة شديدة على البعثيين
حيث كان عليهم التعامل مع كل هذه المخلوقات المتآمرة والماكرة
عندما جاء الجنرال غورو عام ١٩٢٠ م إلى سورية
دخلها بعد نصر سريع على الوطني يوسف العظمة
الذي سقط في تلك المعركة شهيداً
لأنه رفض أن يكتب التاريخ احتلال سوريا دون مقاومة
أطلّ غورو من مبنى العبد في ساحة المرجة
وسأل عن قبر صلاح الدين . فوقف أمام القبر ورفسه قائلاً :
( ها قد عدنا صلاح الدين )
كذلك البريطانيون في مدينة الناصرية
نسفوا تمثال المرجع محمد سعيد الحبوبي أبي الوطنية العراقية
الذي نادى بالجهاد منذ ١٩١٧ م ضد الإنكليز
وكان ينفق من ماله الخاص وحين عرض عليه العثمانيون
خمسة آلاف ليرة ذهب لدعمه رفض وقال :
إذا نفذ ما عندي آكل مما يأكل الناس
جورج واشنطن عندما حارب الإحتلال البريطاني لبلاده
أمر أن يحرق بيت كل من يتعامل مع المحتل الإنكليزي
ويُقتل وتُرمى عائلته في البحر
بالمقابل قدم السيد إبراهيم الجعفري سيف ذي الفقار
هدية إلى وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد
المحتل الذي يحتقره مثقفو أمريكا نفسها
وأطلق البريطاني هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل للآداب
عام ٢٠٠٥م على جورج بوش لقب (( القاتل بالجملة )) كيف ينظر
جورج بوش و بريمر إلى الجعفري والمالكي وأمثالهم ؟
هؤلاء في نظرهم ليسوا أكثر من أولئك السوريين الخونة
الذين سحبوا عربة الجنرال غورو من قرية تدمر إلى دمشق بدلاً من البغال
وحين وقفوا أمامه سأل غورو ماذا يريد هؤلاء ؟
فقالوا :المكافأة . فضحك وقال ماذا تأكل البغال ؟ . قالوا الشعير
فأمر لكل واحد منهم بكيس من الشعير ..
نحن نحب الحسين ونفضله على الخلفاء الأمويين
لأنه أكثر نزاهة وسؤدداً . لكن من يُنكر أن الوليد بن عبد الملك
كانت أيامه مملوءة بالفتوح
ذلك الذي فتح الهند والأندلس وبنى مسجد دمشق
وكان يعطي قصاع الفضة على فقراء بيت المقدس
من يستطيع أن يُنكر أن هشام بن عبد الملك
هو الذي بنى أعجوبة الدهر والرخاء بستان هشام
وأن عبد الملك بن مروان هو الذي بنى مدينة شيراز التي أصبحت قلب فارس
يقول ويل ديورانت في قصة الحضارة :
(( وكان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى
المسيحية والصابئة والفارسية قائمة ولاسيما في حران
ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسوها بأذى
فآحتفظت بأمهات الكتب الفلسفية والعلمية
ومعظمها في ترجمته السريانية
 وما لبثت أن ظهرت ترجمتها إلى العربية على أيدي السريان المسيحيين
لقد تمت أول ترجمة في عهد الخليفة مروان بن عبد الملك
فنُقل بأمره من السريانية إلى العربية
ماسرجويه الطبيب أول كتاب طبي
وهو الموسوعة الطبية ، ويسمى بالسريانية ( كناش ) تأليف
أهرون بن إيجه الإسكندري . ))
الأمويون بدأوا حركة حضارية إسلامية وصلت قمتها في العهد العباسي
مع كل هذا المجد أتمنى لو أن مدرسة الحسين بن علي
هي التي حكمت . لأن الحسين قائد عربي يمثل النزاهة والعدالة والكرامة
فماذا يمثل الجعفري والمالكي وحسن العلوي ؟
ليس عندهم كبرياء الوليد ولا نزاهة الحسين
مجرد عملاء تقدم سيف ذي الفقار هدية إلى المحتل
البعثيون علمونا في المدارس تاريخنا القومي
وعلمونا الإعتزاز به لأنه وجداننا القوي الثابت الحقيقي
البعثيون أدركوا مبكرا شراسة الحملة الصفوية التي تخلق عربا مسوخا
و كافحوا التوسع الإيراني بكل ما بالثقافة العربية من قوة و إبداع
أستذكر الآن نصيحة عامر بدر حسون
في وجوب النظر الى أيدينا بعد أن نكتب
هل كان عامر قبل عشرين عاماً يرى دماً سيجري بأقلامنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق