الوطن
عند الفجر، أمسكتْ «هويدا» يدى، بكلتا يديها، وهى راقدة على السرير الأبيض، مدثّرةً فى الضمادات، بينما خيط نحيل من الدم الجاف يلوّن الملاءة البيضاء تحت ساقها، لتُشهدَ التاريخَ على لحظة تعسة تعيشها مصرُ.
كانت تهتف: «أنا أنزف، أخرجونى من هنا!»، ركضتُ نحو الطبيب فى غرفته، والغضب يسبقُنى، فالتقانى بابتسامة هادئة ونهض يصحبنى إلى سرير «هويدا»، رفع الغطاء فوجدتُ كلَّ شىء على ما يرام. انحنيتُ أسألها: «لماذا تودين الخروج قبل شفائك؟»، قالت: «لا بد أن أذهب إلى معهد ناصر، الآن، فوراً»، سألتُها: «لماذا؟»، فضغطت بيديها فوق كفى الذى ضمّته بقوة إلى صدرها وهى تهمس: «أستاذة فاطمة، ابنتى مريم هناك، أود أن أراها، هاموت من الخوف عليها، بس أشوفها». كانت قد تجاوزت الرابعة فجراً، بعد ساعات من مذبحة كنيسة «العذراء» بالورّاق، 20 أكتوبر الأحد الماضى. عاهدتُ السيدة هويدا بأن أذهب إلى «مريم» فى الصباح، وأكلمها من هناك لتسمعَ صوتَها، فيطمئنُّ قلبُها الواهنُ، وينام، قالت لى: «بل الآن، وحياة ولادك دلوقت»، أخبرتُها أن مريم نائمةٌ الآن، بعد عملية جراحية دقيقة، ولا يصحُّ أن نزعجها، فلم تترك يدى إلا بعدما استوثقت أننى لا أخلفُ الوعد، وسوف آتيها بصوت طفلتها عند الصباح.
لكننى لم أفِ بوعدى، لم أذهب إلى «مريم» فى معهد ناصر، ولا عدتُ إلى أمها «هويدا» فى مستشفى «الساحل» بتميمة الحياة، لأن الصغيرة الجميلة ماتت مع خيوط الصباح الأولى. الطفلة ذات الاثنى عشر عاماً تلقّى جسدُها النحيلُ ثلاثَ عشرة رصاصةً آثمة؛ رصاصةٌ لكل عام من عمرها، ونظلُّ مَدينين لـ«مريم» برصاصة زائدة، لم تعش عاماً مقابلها!
الطفلة البريئة مريم نبيل سافرت إلى السماء مبكراً عما ينبغى لمثلها أن يحيا، لأن معتوهاً يُصرُّ أن يعودَ معتوهٌ خائنٌ إلى الحُكم بعدما لفظَه شعبٌ بأسره!
بماذا سأردُّ على السيدة هويدا حين أذهب إلى العزاء؟ كيف سأواجهها بعدما أخلفتُ وعدى معها؟ وكيف سأبرر لها ما حدث؟ وبمَ سأجيبها حينما تسألُنى بآية من كتابى: مريم طفلتى «بأى ذنبٍ قُتِلت؟».
«راضى»، الذى اخترقت رصاصةٌ كُليته، التقيتُه بعد خروجه من غرفة العمليات وآثارُ البنج تخاتل عينيه نصف المغمضتين، بادرتُه: «حمداً لله على سلامتك يا شقيقى، سامحْنا على ما فعل السفهاءُ منّا»، فابتسم بوهن وقال: «لا تعتذرى، أنتِ ملاك»، وخزةٌ جديدة أنالُها من أولئك المُسالمين وخزتْ قلبى بالخجل مما نفعله بهم دون سبب، همستُ مُطرقةً: «بل أنتم الملائكةُ، فسامحونا، ويوماً ما سيختفى كل هذا، وتنالون حقوقَكم كاملة، حين تحظى مصرُ بحكومةٍ وحاكمٍ يليقان بها».
كان حفلَ زفافٍ، تمنّى فيه شابٌّ وفتاةٌ أن يبدآ حياةً جديدة، فى بيتٍ صغير، يُعْوزه الثراءُ، لكن يَعمُره الحبُّ ويغمرُه الفرح. لكن أم العريس تلقّى قلبُها رصاصةً فى عُرس ابنها، بدلَ أن تتلقى كلماتِ المباركة والفرح! أتساءَلُ: «كيف لهذين العروسين أن يُكملا حياتَهما بسلام؟ بأىّ مشاعرٍ سينظران إلى صورة زفافهما المُعلّقة على حائط الصالون؛ وكلما شاهداها لمحا خيطاً قاسياً من الدم يسيل فوق فستان العروس الأبيض فيلوّثه، ليذكّرهما أبد الدهر بأن الأمَّ دفعت عمرها ثمناً لهذه الصورة؟ بماذا سيجيبان طفلهما القادمَ حين يسألهما: «تيتا راحت عند ربنا فى السماء إزاى؟»؟
لماذا يقتلُ إنسانٌ إنساناً؟ بل كيف؟ بل بأى حقٍّ؟ هل هو الله؟! اللهُ وحدَه واهبُ الحياة، وهو وحدَه نازعُها.
قال قائلٌ: «الدولة المصرية دائماً ما تشكر الأقباط على ضبط النَّفس. فمتى يأتى اليوم الذى يشكرُ فيه الأقباطُ الدولةَ المصريةَ على (ضبط الجُناة)؟».
Thanks Mr Biaini to tramsmit the honest feelings of patriotic Egyptian whom I admire her strong statments in this diffult time of Egypt so i repeaet it again «الدولة المصرية دائماً ما تشكر الأقباط على ضبط النَّفس. فمتى يأتى اليوم الذى يشكرُ فيه الأقباطُ الدولةَ المصريةَ على (ضبط الجُناة)؟».
ردحذف