كانت الدنيا فتيةً وحلوةً . أقضي وقتي ولعبي مع صديقي المسيحي باسل . لأن بيتهم كان ذا نوافذ خشبية وزجاج ملون . إلا أن المسيحيين أكثر آهتماماً بالتفاصيل من المسلمين . اللوحات وتناسق الألوان والبيانو والتماثيل والنظافة المبالغ فيها.
شجرة عنب في باحة البيت تحتها طاولة منضدة ومضارب حمر . إخوة باسل الكبار يلعبون أحياناً تحت شجرة العنب لعباً يقشعرّ له بدن الربيع.
طلال و جمال و كمال . غاية في البصرية والوسامة والأناقة . جلال بطل الكاراتيه عنده عشيقات مسلمات و مسيحيات تضطر أمه إلى طردهن أحياناً. أما طلال فهو بطل البصرة بلعبة المنضدة . وحده الإبن الأكبر جمال ينزوي للقراءة ويعشق جمال عبد الناصر.
أم جمال السيدة( رؤى) كانت تهتم بي كثيراً . ولأنها قارئة فنجان تشفق عليّ . وتقول : " أرى عذاباً ، فيما سيأتي من حياتك " . مرةً وضعتْ أم جمال يدها على رأسي وقرأتْ صفحةً من إنجيل يوحنا ، ثمّ دعت السيد المسيح أن يُخلّص روحي.
سألها زوجها المتقاعد السكران دائماً ، لماذا تقرئين له من إنجيل يوحنا وليس لوقا أو مرقص ؟ لأن يوحنا شاعر وهذا الولد شاعر يا أبو جمال.
والدي ماركسي متطرف وكلما رأى أم جمال سخر من قراءة الفنجان قائلاً : إلى متى تبيعين الخرافات يا أم جمال ؟ فترد عليه
- و إلى متى تبيع الأوهام با أبو أسعد؟
- أنا أنشر العلم والفلسفة ماذا ترين أنتِ في الفنجان؟
- أرى امرأةً تتألّم فأخفّف عنها الألم.
يقول والدي : عجيبٌ أمر المسلمات لماذا يتقاطرن حتى تهوي أفئدتهن إلى بيتك؟.
- أنتم العرب كنتم مشغولين بالفتوحات والحروب . بينما المسيحيون والفرس انشغلوا بالعلم والحكمة والطب . لهذا ترسختْ عندكم فكرة أن المسيحي والفارسي عنده علم الغيب . نحن المسيحيون نحبكم لأنكم أرحم من الفرس .
ذُعر أبي من قارئة فنجان مسيحية قادرة على دحض مدرس فلسفة ماركسية. حين تهزمه أم باسل كان أبي يجرني بعنف من دشداشة البازا صارخا بي طوال الطريق إلى البيت.
كان لصديقي باسل أخت في العشرين اسمها نوال . في السابعة من عمري كنتُ أحب مراقبة نوال تمشط شعرها وأشعة الشمس تخترق الزجاج الملون لتلون وجهها المشرق .أحب صوتها وطيبة قلبها وابتسامتها و ثيابها.
عندما احتضنتني في عيد الميلاد شعرتُ بدوار وكادت رائحتها أن تفقدني الوعي.
يوم الأحد كنت أذهب إلى بيتها لأراها بعطرها ومرحها وثيابها الأنيقة قبل أن تخرج إلى الكنيسة . الحياة كلها تتفجر من جسدها ، حتى الصبايا المسلمات في الحيّ القديم كُنّ يتغزلن بها . أمّا جارتنا الزنجية فكانت تستعيذ بالله عندما تراها وتقفل بابها بغضب .
في يومٍ من الأيام رقص الفتيان عند باب نوال . وصاحوا " مريم مريمتي " على صوت الأورك وتحت شجرة العنب قال باسل تعال إنه زفاف نوال . خرجت نوال من بيت الشناشيل إلى بيت زوجها ، وخرجت روحي خروج المسيح من أورشليم .
في اليوم التالي أعطتني أم جمال علبة " چكليت " وقالت إن نوال أوصت بها إليّ . كان البيت فارغاً . والشارع والوجوه وشجرة العنب . كل شيء يعاني الفراغ . لم آكل ولم ألعب ثلاثة أيام حتى خاف والدي فأخذني إلى جدي الحاج تركي وقال : يا أبي هذا الولد مريض . فجلبته لك علك تشفيه.
جدي هذا هو الحاج تركي أكبر أسطورة في حياتي .كلما تحدثتُ عنه طلب مني المثقفون أن أكتب . ولأنني لا أتصل خوف أن يقول لي أحدٌ إنه قد مات فهو مواليد ١٩١٤ م ولعله قد مات فعلاً وإلا لماذا أراه يضغط الآن ليخرج من قلمي.
الحاج تركي إبن الإقطاعي ملّا هيجل والسيدة وضحة . جاء هيچل من نجد واستنبط الأرض و وأنجب تركي و عقاب وعدداً كبيرا من البنات.
بنى بيتاً كبيرا من الطابوق الأصفر يحوي أكثر من عشر غرف و أربعة لواوين و مضافة ترى أولها ولكنك لا ترى آخرها . كان الناس يسمون ذلك البيت قصراً.
أدركت ذلك المنزل وبقاياه في طفولتي . كانت الذكريات تخرج من الطابوق ومن النخيل و الجداول المحيطة به.
ألحاج تركي يختلف عن أبيه الذي كان رجل مال و سياسة وعلاقات واسعة . مع بيت النقيب والسعدون وسوق الشيوخ وبني مالك والسدير و عنزة.
وضحة زوجته القاسية كانت تتفقد الملا هيچل بعد الغزوات القبلية القديمة ، ولطالما حملت رأس القتيل من ضفائره لترى وجهه
كان ذلك الرجل عندما ينام يضع رجليه على المخدة ورأسه بلا وسادة . وقد كان محقاً فقد أصابته رصاصة في ساقه وهو نائم بهذه الطريقة.
أما أخوه الحاج عقاب فهو يهوى النساء والصيد والمغامرات لا أكثر.
الحاج تركي كان مختلفاً تماماً ، مسالماً ومؤمناً بالله وبالأرض و ببساتين النخيل . هو بداية دخول التمر ممزوجاً بالإيمان إلى العائلة . ذلك الشيء العجيب الذي وصفه المتنبي ب " حلاوة التوحيد"
وقف الحاج تركي بيني و بين الشمس في ذلك البستان وسألني:
ما بك يا ولدي ؟ أجبتُ : لا شيء .
- صدقْت أعتقد أن المشكلة هي اللاشيء.
سقينا البستان معاً . وجلبنا الحشيش معاً . وفي الليل تناولنا العشاء مع جدتي زاجية التي كانت أعظم شاعر رأيته في حياتي . كانت تتحدث إلى البقرة و تعاتب النخلة و تتشاجر مع الدجاج و إذا شربت ماء عذبا من النهر تتكلم مع الماء الجاري و تشكره على هذا المد .... وحين تمرض تخرج إلى باحة الطار و تشكو إلى الله و يداها إلى النجوم " ربي ماذا فعلت لك ؟ لماذا تحمل عصاك و تركض ورائي "؟.
عمتي أمينة كانت معنا فلم تكن قد تزوجت بعد . قديسة من قديسات الأمومة النادرة . طبعاً هذه الألوهية اختفت تماماً عندما أنجبت ولدها الأول عصام وتحولت إلى أم عادية.
نمتُ باكراً لأن العمل في الحقل هد قواي . في اليوم التالي طلب مني جدي أن أتعرف على أطفال القرية وألعب معهم . لاحظت أن هؤلاء الأطفال يختلفون عن أطفال المدينة . فهم طيبون ويحسنون الظن ومؤدبون للغاية . . لعبنا معاً ، غطسنا في الأنهار وقفزنا الجداول و اصطدنا الأسماك والعصافير و سرقنا البيض من منزل سيدة عمياء اسمها أم سلمان.
عندما جاء أبي وجدني على أحسن حال فسأل جدي كيف أصلحت هذا المعطوب ؟ . فقال له : يعتقد المؤرخون أن عمر بن الخطاب عظيم لأنه ملأ الفراغ بعد وفاة النبي وحمل الناس حملاً على بيعة أبي بكر لكي لا تحدث الفتنة وتضيع الرسالة . لكن هناك فراغاً آخر حذر منه عمر حين قال : " أحذركم عاقبة الفراغ ، فهو أجمع لأبواب المكروه من السكر " . وكما شغل عمر الأمة بالفتوحات والعمل ، شغلني جدي بجمع الحطب واللعب.
في اليوم التالي قمنا بإحراق عُمر .
كان هناك تقليد في تلك القرية القريبة من إيران أن يحتفل الأطفال بذكرى اغتيال عمر بن الخطاب يسمونه فرحة الزهراء . يشعلون ناراً ويقفزون عليها منشدين
" عافاك الله يا فيروز
خلّيت الخنجر مقروز
قزّه قزّه بفّاده
هذا عدوّ السّاده "
الأمهات أعطينني خبزة حارة طيبة من خبز العباس . وكان اللعب حول اللهب ممتعاً حقاً.
عندما رآني عمي القومي حاملاً خبز العباس ، قافزاً بفرح فوق اللهب . ركض نحوي إلا أنني وبأقصى سرعة ركضت ودخلتُ في عباءة جدي . سأله جدي ماذا تريد منه؟
- هذا الكلب يرقص كالمجوسي حول النار ، ويلفظ الغين قاف ، والقاف غين كما يفعل الفرس . يحتفل باغتيال عمر بن الخطاب بطرس القومية العربية وباني الإسلام . المسيحيون يسمون أبناءهم عمر لأنه أوصى بهم قبل أن يموت وقال " قاتلوا من ورائهم ، ولا ترهقوهم " .... وهذا المسلم يحتفل بموته .ضحك جدي وقال :
يا جاهل هؤلاء الأولاد يحبون بعضهم وهذا هو المهم الآن .هذه تقاليد بسبب التخلف زمن العثمانيين والصفويين . غداً يذهبون إلى المدارس ويعرفون أنهم عرب ويفهمون من هو عمر .
أما الآن دع الأولاد وشأنهم . والدي كان يسمع ويضحك . فهو ماركسي متطرف وبالنسبة له حرق عمر وحرق علي هرطقة جميلة . فهو يحب القرامطة والخوارج فسأل جدي:
ومَنْ هو عمر ومن هو عليّ ؟
فقال جدّي بحكمته لأنه يعرف مكر ولده الشيوعي:
رُوي عن أعرابية في مجلس المأمون أنها قالتْ : الحبُّ هو تحريك الساكن ، وتسكين المتحرِّك . عمر بن الخطاب هو تحريك الساكن ، و عليّ بن أبي طالب هو تسكين المتحرِّك . واحد لبناء الدولة الإسلامية ، والآخر لفكر ورسالة هذه الدولة .هذان جناحا الحب العربي في التاريخ.
أكل جدي خبز العباس معي ... وحين سألته ما بال هؤلاء قال : هؤلاء مهابيل.
هؤلاء مهابيل... هي ذات الكلمة التي سيقولها لأحفاده في الرياض بعد عقود طويلة . أحفاده الذين تفقهوا في العلوم والمحاماة والدين والسياسة . حتى أنهم صاروا في مراكز إجتماعية متقدمة جداً هناك . حين زارهم تحلقوا حوله . فهو الحكيم العراقي البسيط المحب لله والناس والعراق . قال لهم " الحرام غالي ، والحلال رخيص " لهذا هو لا يحب المال . لكن أكبرهم وأفقههم قال لجدي:
يا حاج أنت حكيم طيب ، لكن الشيخ أحمد الوائلي أفسد عليك عقيدتك . فضحك وقال : أنتم مهابيل.
جدي لا يخشى في الشيخ أحمد لومة لائم . لأنه لا يسب عمر بن الخطاب ويتكلم بعقلانية . لكنه يستنكر هجومه على عرب الجاهلية واستشهاده بأبيات يعتقد أنها منحولة ومدسوسة . مثل هذا البيت:
" لا يشربُ الماء إلّا مِنْ خليطِ دمٍ
ولمْ ينمْ جارهُ إلّا على وجلِ "
فهو مهما كان بدوي ويعتقد أن العرب أهل مروءة . كانت أناقة الحاج تركي تختلف عن أولاده ( الأفندية ) فهو يلبس الصاية والعباءة والعقال والكوفية والعكازة والنعال .ويضحك عندما يرى رجلاً يمشط أمام مرآة.
يحب الصيف ويكره الشتاء ، ويردد كل يوم حديث النبي قرب المدفأة حتى ينتهي الشتاء
"النار فاكهة الشتاء"
عندما يموت أحد أطبائه المتخرجين من بريطانيا يضحك ويقول: كل العقاقير لا تفيد ، لا خلاص إلا بتقوى الله ويردد
" ليس شيء سوى التّقى
فخذي منهُ أو دعيْ "
أرسل يوماً في طلب صديق عمره السيد نجم الذي كان يقرأ عليه كل شتاء كتاب " العقد الفريد " و يتسامران بحكاياته وقال له : ياسيدنا ...سمعتُ من الشيعة وسمعتُ من السنة وقررت اتباع الإمام مالك . فقال السيد نجم : ولماذا الإمام مالك؟
فقال : ألا يكفي أنني لا أصلي على تربة ، على الأقل أُسبل حين أصلي معكم . والإمام مالك يُسبل . فضحك صاحبه من هذا الداهية الذي يُذكر بدهاة العرب الأوائل.
كان يقول إن العراق هو البلد العربي الوحيد الذي فيه مدرستان .مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة . عندما تفقد البصرة صوابها تعيدها الكوفة إلى الطريق الواضحة . وعندما تفقد الكوفة صوابها تعيدها البصرة ،إلى المحجة البيضاء.
هذه الأيام أرى الكوفة قد فقدتْ صوابها ، وعلى البصرة أن تساعدها وتعيدها إلى طريق العراق القويمة.
هذا الرجل رباني وأدبني لكنني تبعتُ حسين مردان وتركته :
" هذا أنا رجلُ الضباب ومنْ لهُ
في كُلِّ موبقةٍ حديثٌ يُذْكَرُ "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق