هذا اليوم ذهبت إلى جامع سيدنا أبي بكر الصديق في تورونتو . رائحة المسك والبخور والعمران الباهر في هذا المسجد البعيد جداً عن الشرق . اسم الله و محمد فوق البناء ، صف طويل من التكاتف والصلاة .لا فرق بين طويل و قصير ، ولا أسود و أبيض . ولأن الله موجود لا أحد موجود . ما حاجتنا للوجود في وجوده جل جلاله . أوقفت سيارتي في المكان المخصص لسيارات الجنائز . المسلم لا ينسى الصلاة مهما تركها كما لا ينسى الإنسان السباحة . و إذا كان للإسلام كل هذا الحضور والجاذبية في مدينة عصرية غربية كتورونتو فما هو حضوره يا ترى في الشرق ؟ .
الإسلام الذي نكفر به أحيانا ، نكتب ضده و نقرأ ريتشارد داوكنز لنقده يفتح لنا الأبواب بابتسامة قديمة أكبر من جهلنا . الإسلام كرامة غريبة تشعر بها حيا و ميتا ، مؤمنا و كافرا .
إن بيوت الله في الحقيقة بيت مَن لا بيت له ، و عشيرة مَن لا عشيرة له ، عزاء مَن لا عزاء له . هذه قضية وجدانية في ثقافتنا .مع تقدم السن و تدهور العافية . في لحظات الضيق و المصاب يلجأ المسلم إلى المسجد ما هي المشكلة ؟ .هل حبنا لأطفالنا منطقي ؟ . هل عشقنا للنساء علمي ؟ . هل جنون الإنسان بالمال رغم أنه يعلم بحتمية الموت عقلاني ؟ . هل البكاء مفهوم ؟ . هل كتابة الشعر مثلا قضية طبيعية ؟ .
في القرن السابع عشر وقف ديكارت ( ت ١٦٥٠ ) أمام مرآة وقال : فلأتخيل نفسي بلا جسد فأغمض عينيه واستطاع بسهولة تخيل نفسه بلا جسد . كان يرى نفسه تخترق الجدران و تدخل في الأشياء . ثم وقف وقال فلأتخيل نفسي بلا عقل . لم يستطع تخيل نفسه بلا عقل لأن التخيل يحدث بالعقل . كان ديكارت حينها يعرف الإنسان على أنه عقل و جسد . لكن عجزه التام عن تخيل نفسه بلا عقل قاده إلى مقولته العظيمة التي غيرت الفلسفة " أنا أفكر إذن أنا موجود " . ولكن هل التفكير الحر محصور بمهاجمة الإسلام فقط ؟ .
نحن نعلم اليوم بأن الشاب أدولف هتلر فهم فلسفة نيتشه ( ت ١٩٠٠م ) بشكل خاطيء . حتى صار يرسل كتب الفيلسوف لمعارفه و مريديه . قضى الفيلسوف نيتشه الإحدى عشرة سنة الأخيرة من عمره مجنوناً تماماً حتى باعت أخته المسؤولة عن العناية به التذاكر مقابل النظر إلى أخيها في مصح . مارستْ على أخيها فهمها الخاطيء لإرادة القوة . اليزابيث وهبت هتلر عكاز نيتشه المفضلة للمشي مدعية أن هتلر هو الإنسان الأعلى الذي بشر به أخوها . الجيش النازي كان يوزع كتاب " هكذا تكلم زرادشت " هدية للجنود الألمان في المناسبات . والمأساوي أن نيتشه الذي أعلن موت الدين كان يوقع في ذروة جنونه على الورق باسم " المصلوب " . لم يتخيل نفسه في النهاية سوى شكل جديد من أشكال السيد المسيح ؟ .
الفهم الخاطيء لفلسفة نيتشه هو الذي كلف العالم ثلاثين مليون قتيل ضحايا النازية الألمانية . والفهم الخاطيء لماركس هو الذي كلف البشرية عشرين مليون إنسان بريء ضحايا الستالينية .
هل نسيت الأقليات المسيحية كيف كان اليهود والفلاسفة يهربون إلى الدول المسلمة المتسامحة للنجاة من الحرق بالنار و محاكم التفتيش التي كانت تقيمها الكنيسة في أوربا المسيحية أيام القرون الوسطى ؟ . فكيف أصبح الإسلام أصل الشرور ؟ .
في العراق قبل الإحتلال ، وبالرغم من مساويء النظام السابق ، جعل المسلمون المسيحي ميشيل عفلق أبا روحيا ، وجعلوا المربي في درس الثقافة القومية هو المسيحي الياس فرح ، وكان الرجل الثاني في الدولة هو المسيحي طارق عزيز ولكن حين جاء الأمريكان أصبح الأب الروحي هو السيستاني وأصبح المربي هو أسامة بن لادن ... أليست القضية واضحة ؟ . لقد وضع الإحتلال المسلمين في محنة كبيرة والمؤسف أن نرى بعض المسيحيين متحمسين ضد الإسلام السني بالذات الذي جعل منهم قادة و معلمين للشعب .
معظم المثقفين يعلمون بأن الثقافة نتاج الظروف المادية والإجتماعية . الڤالانتين ( عيد الحب ) الماضي صادف عاصف إعلامية حول اغتصاب السجينات العراقيات في السجون السرية . هذا الڤالانتين صادف اجتياح الأنبار ودك الفلوجة والرمادي بالصواريخ . الشباب الشيعة يبالغون في بغداد والبصرة بالإحتفال في هذه الأعياد بينما الفتيان والفتيات السنة غير مدعوين للمساهمة بهذا الترفيه والمرح المنتشر عالميا ، يرددون آيات قرآنية و شعرا عموديا حماسيا بسبب الظلم و فقدان الشعور بالطمأنينة . يقول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو ( ت ١٩٦٩ م ) " لا يمكن للحياة غير القويمة ، أن تُعاش على نحو قويم " . في العراق اليوم يتم دفع طائقة بعينها دفعا إلى التطرف والعزلة لغرض إبادتها و اجتثاثها .
الأوربيون أول من استخدم السلاح الكيمياوي في الحرب العالمية الأولى . والأمة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي ضد المدنيين هي أمريكا . العالم المتحضر خاض حربين عالميتين قبل ستين عاما فقط راح ضحيتها مئة مليون إنسان . ويقول لك الإسلام إرهابي ؟
في هذا العصر يجعلون الضعيف يشعر بالذنب و عذاب الضمير فوق نهبهم لثرواته بكلمة سحرية تم اختراعها اسمها الإرهاب . يريدون الفلوجة تعتذر لواشنطن لأنها قاومت ، و يريدون ملجأ العامرية يعتذر لسلاح الجو الأمريكي لأنه احترق .
الإسلام أكبر بكثير من تنظيم مسلح دعمته أمريكا في حرب الأفغان ضد الإحتلال السوڤيتي .
في السبعينات من القرن الماضي أرادوا مواجهة الإسلام بالرومانسية . غير أني حين أذهب إلى المحكمة في مركز مدينة أوتاوا وأنظر إلى معاملات الطلاق والنفقة ، أتيقن بأن الإسلام كان واقعيا . القرآن الكريم أكد على عزلة الإنسان الفرد في هذا العالم فهناك دائماً صاحب يفر من صاحبته و بنيه ، وهناك دائماً اعتراف بأن النفس لا تملك شيئا لنفس غيرها . ربما الله هو الحب الحقيقي .
ولا أفشل من مواجهة الوجدان الإسلامي الحضاري بالمشروع الثقافي العلماني العربي . أصلا نحن ليس عندنا ثقافة بل عندنا عبادة أشخاص . لو كتبت الآن قصيدة أهم من قصيدة محمود درويش هل فيكم رجل واحد يقول لي بأنني أهم من محمود درويش ؟ . لماذا إذن نكابر وعقولنا مازالت أسيرة السلطة والشهرة و عبادة الأصنام . أليس الأكرم لنا لو نكسر الأصنام جميعها بسجدة واحدة إلى الله الرحمن الرحيم . أليس في هذه السجدة كرامة أكبر من كل هذا اللغو والجهل الذي نحن فيه ؟ .
وعن تناقض الإسلام مع العلوم نتساءل من الذي كان يوقظنا صباحا للذهاب إلى الجامعات ؟ . أليس آباؤنا المؤمنون المصلون الذين لم يحترموا شيئا بعد الله أكثر من العلوم والتكنولوجيا والطب و شجعوا أبناءهم عليها .
لماذا إذن يستنكر البعض أهمية الصلاة ؟ .
هناك مَن لا يُفرّق بين الإسلام كوجدان ثقافي وبين الإسلام كحزب سياسي . قد يتعرض أي مسلم علماني في لحظة إنسانية إلى الرغبة بالصلاة في مسجد ( صلاة جماعة ) .
" قلت لشجرة اللوز:
حدّثيني عن الله يا أخت،
فأزهرت شجرة اللوز! "
نيكوس كازنتزاكيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق