سورية تستبدل غزلانها بقرود/ كميل العيد

استبدال الغزلان بقرود، هذا واقعنا اليوم، حيث يغادرنا ويهجرُنا فلذة أكبادنا وخيرة شبابنا وكفاءاتنا إلى بلاد مجهولة ومصير مجهول، ويأتي إلينا حثالة مجتمعات الكون وقرفها من إرهابيين وانغماسيين ومجرمين ومافيات ولصوص ومنبوذين ومعتوهين وسيئي صيت وعديمي القدر. يأتي إلينا عَهَرة السبي ومجاهدي النكاح ومروعي البشر وعديمي الضمير والإنسانية، يأتي لبلادنا أشخاص مهووسون معتوهون، يحملون في جعبهم أحقر آليات وأساليب التحقير الإنساني. وبالمقابل يخرج ويغادر سورية أبناء البلد من أطباء ومهندسين وخريجي جامعات ومهنيين وحرفيين وغيرهم. يغادرون يومياً أهلهم وأصدقاءهم ووطنهم وهم في قمة طاقتهم، ويغامرون بتحمل كل آلام الغربة ومشقة السير في الغابات ومخاطر البحار، فهل من السهل عليهم أن يتركونا ويرحلون إلى المجهول وإلى أجل غير مسمى؟.. وهل سَهلٌ علينا فراقهم، لا أعتقد ذلك، فنحن وأبناؤنا حنونون على بعضنا وعلى وطننا ومن المؤكد أن كل من يهاجر يحلم بالعودة لسورية والاستقرار فيها، يحلم بالعودة لأيام الأمن والاستقرار وراحة البال والسؤال هل هذا سيتحقق ؟.. برأيي هذا مرتبط بالظروف وبقدرتنا على استرداد أبنائنا.
 في الخبرة العالمية عاد إلى الصين في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي عدد كبير من العلماء وغير العلماء والذين كانوا قد غادروا بلادهم نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، عاد معظمهم من الولايات المتحدة الأمريكية، من ظروف عمل ومعيشة هي الأكثر تقدماً في العالم وقدموا للصين الشعبية إنجازات ضخمة في بيئة صعبة وخلال زمن قصير. وتكرر الأمر في الصين نفسها في منتصف السبعينات مع بدء انفتاحها على العالم الخارجي وبعد التطور الجذري الذي تحقق في ميادين المجتمع والاقتصاد. 
أعود للموضوع، السؤال الذي يراودني هل من مسوغ لأبنائنا لدفع كلف قد تصل لعشرة آلاف دولار لكل منهم إضافة لركوب مخاطر البحار والسير في الغابات والجبال وعبور الحدود بطرق غير مشروعة والتعرض لمخاطر العصابات واللصوص في سبيل الحصول على سمة لاجئ في دولة أوروبية ؟.. هل هذا هو الإنسان السوري ؟.. والسؤال الأهم ما الهواجس التي تدفع بشبابنا وزهرة بلادنا لتتحمل مشقة ومخاطر الهجرة ؟.. ربما لا يستطيع أحد الإحاطة الكاملة بالموضوع، ولا سيما الإحاطة بوسائل الحد منه وإيقافه إن أمكن، وهنا يأتي دور المؤسسات البحثية ولاسيما الحكومية منها وخاصة المرتبطة بالجامعات وبوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لتقوم بدورها في تقديم المقترحات لوقف هذا الانهيار البشري الذي يهدد وجودنا ومستقبل أجيالنا. 
 إن التكلفة التاريخية التي تكبدها المجتمع السوري في تكوين وتعليم أبنائه الذين يهجرونه يومياً باهظة في حين حصلت بلاد المهجر على مكاسب أولية تعادل التكلفة التي كانت ستتكبدها لو كان المهاجر قد تكون أساساً داخل حدودها، وهذه التكلفة التاريخية ترتفع كلما زادت درجة تأهيل المهاجر. فما أسباب ازدياد الهجرة ؟..
 من المسلم به بأن الحرب في سورية وحالة الفوبيا التي أصابت قطاعات وشرائح كبيرة من الشعب السوري بكل مكوناته والتي دفعت بآلاف الشباب للهروب من الخدمة الإلزامية، وكذلك حالة الفوضى الموجودة والتي يستغلها بعض ضعاف النفوس، وكذلك تعامل بعض الأجهزة مع المجتمع أدى إلى استفزاز الكفاءات في الوطن وساهم أحياناً في تحفيزها، وحفز الأجيال الأصغر بوجه خاص، على الهجرة، وأصبح الأهل يخشون على أبنائهم ويبيعون كل ما يملكون ليقدموه لفلذة أكبادهم من أجل توريثهم سمة لاجئ. فما العمل ؟.. إن مهمتنا صعبة !.. لقد ضعف الانتماء الوطني سواء على المستوى المجتمعي أو على المستوى العائلي والشخصي، ومقابل ذلك هناك عملية إغراء وسرقة متعمدة من قبل المراكز النشطة في الغرب، لاختطاف خيرة كفاءات بلادنا التي يمكن أن تندمج بسهولة في النشاط العلمي والمهني القائم في الدول الغربية. 
 ولا جدال أن بعض البلدان العربية ولاسيما الخليجية منها تمتلك الآن من الإمكانات المالية ما يمكنها من اجتذاب معظم الكفاءات السورية المهاجرة. ولكن هذه البلدان هي جزء من الحرب الاستعمارية على الشعب السوري ، وهذه البلدان لديها عقدة الإنسان السوري، وهي تخشى أن يشع نور سورية ويحرقها، لهذا عملت على إذكاء الحرب، فأرسلت السلاح بدل الغذاء، ورفضت استقبال السوريين، بل ساهمت في تهجيرهم، لأنها ببساطة تخشى منهم ولا تخشى عليهم.
ولكن، هل تعني المناقشة السابقة أنه ليس هناك من حل لنزيف الكفاءات؟ في تقديري إنه لا يوجد حل ناجع في الأجل القصير، ولكن يمكن التخفيف من الحالة من خلال إجراءات بسيطة يجب دراستها، كالسماح بدفع البدل النقدي بدل الخدمة الإلزامية، لمن يشاء، وبغض النظر إن كان مغترباً أم لا. والعمل على نقل الفزع والخوف الذي يتسبب به الفاسدون للمجتمع إلى الفاسدين نفسهم وإلى كل من يحاول العبث بمعنويات المجتمع وتفزيعه. 

CONVERSATION

0 comments: