في الذّكرى الثّامنة للرّحيل درويش سيّد الشِّعر وشاعر الشُّعراء/ فراس حج محمد


لم يكن درويش شاعرا كأيّ شاعر، فقد كان شاعرا متنوِّعا ومتعدّدا ليس في موسيقاه الشِّعرية الثَّريّة وحسب، بل في صوره وألفاظه وموضوعاته، فقد كتب الحياة بتفاصيلها من اليوميّ العاديّ إلى الفلسفيّ والفكريّ، وكتب عن طفولته وصباه وكهولته وشيخوخته، وعن فرحه وحزنه ويأسه وخوفه وأمله وتطلّعاته، وعن مرضه وحصاره وموته المرتقب، وكتب عن أمّه وجدّه وأصدقائه، وعن الشّهداء والمعتقلين والثوار، وعن الأعداء الحقيقيين والمحتملين، ومنح الآخرين أصواتهم ليقولوا بحريّة آراءهم ورؤاهم، وحاورهم، فكما كتب عن الفلسطيني المعذب، كتب عن الآخر الإسرائيليّ واليهوديّ والرّجل الأبيض، ووثّق معاناة البشريّة بكلّ ما تحمل من شجن وألم، كما أنّه كتب الحبّ أبدع القصائد وأجملها، فكأنّه عاشق ولَّهه الحبّ، وأشقاه!
لقد حمل شعر درويش ثيماتٍ متنوّعة ثقافيّة وفكريّة، ووظّف كلّ مصادر الثّقافة العالميّة والعربيّة والمحليّة، فتجد في قصائده العبارات القرآنيّة والإنجليّة والتوارتيّة، وتجد الحكايات والأساطير، والموروثات الشعبيّة، وكلّها جاءت في صياغة درويشيّة خاصّة، تحمل طابعه المميَّز، لم يكرِّر أحدا، ولم يكرّر نفسه، فكان كلُّ عمل من أعماله إضافة حقيقيّة للشّعر، يربط سابقه بلاحقه ويضيف عليه، فتتناسل الأفكار وتتطوَّر كالكائن الحيّ الّذي ينمو ويشتدّ ويزداد خبرة وتجربة كلّما تقدّم في مراحل عمره المتتابعة، مستفيدا من إنجازات القصيدة الحديثة، ومضيفا عليها من إبداعه، فجاءت القصائد متعدّدة في أشكالها التّعبيرية بين القصيدة القصيرة (قصيدة الومضة) والقصيدة المطولة الّتي تستغرق ديوانا كاملا، ووجِدت في شعره القصائد الدراميّة الملحميّة كما تساوقت مع القصيدة البسيطة في بنيتها التركيبيّة، لتبنيَ عالم درويش الشِّعريّ المكتمل في تجربته ورؤاه الإبداعيّة.
لقد اعتنى درويش بشعره عناية فاقت عناية أيّ شاعر آخر بشعره، فألهم النُّقاد والدارسين، وألزمهم السّير في ركابه ومتابعته، وكان حريصا على أن يمثّل مدرسة "الصّنعة"في الشّعر الحديث، ليواصل هذه الطّريق مع من سبقه من الشُّعراء، كأوس بن حجر والمتنبي وأبي تمام، وبعث الألفاظ من مراقدها المعجميّة وجعلها حيّة في صور نابضة بالحيويّة، تختال في النّصّ كأنّها المولود الجديد المتفتِّح صوته في قصيدته.
وكما كان درويش شاعرا، فقد كان مفكرا وناثرا وناقدا أيضا، فقد بثّ في كتبه النثرية، لا سيما رسائله مع سميح القاسم كثيرا من أفكاره النّقدية المتقدّمة حول الشّعر وطبيعته وتلقّيه، وكان يدرك تمام الإدراك طبيعة الشّعر وصنعته، ويلحظ ذلك كلّ من قرأ حواراته الزاخرة بالآراء النّقدية والتّحليلية. وبذلك يكون هذا الشاعر الفذّ قد ترك مكتبة ضخمة من الأعمال الإبداعية، التي توالدت على ضفافها الكثير من الدراسات النّقدية والمقالات والحوارات، ولم يستطع أيّ شاعر أو ناقد أو دارس أو متذوق للشّعر إلا أن يكون له نصيب من شعر درويش شاء ذلك أم أبى، وسواء أأحبّ الشّاعر أم كرهه، آتفق معه أم اختلف، محقّقا تلك المقولة بحق "مالئ الدنيا وشاغل النّاس"، فحضوره في الوعيّ الثقافيّ والجمعيّ لا يُختلف فيه ولا عليه، مؤثّرا في الحركة الشّعرية، لذلك فهو سيّد الشِّعر وشاعر الشُّعراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب "في ذكرى محمود درويش"، الصادر عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، 2016

للقدر رأي آخر/ أشرف دوس

بعد مرور عدة أيام من اختفائه، وعلى إثر انبعاث روائح غريبة من المكان، تفقد الجيران منزل الأستاذ كما يطلق علية الجميع، ليجدوا جثته شبه متحللة، وهو ممدد على سريرة،  كان يرتدي بذلته السوداء مع ربطة عنق كحلية وقميص ابيض  تغير  لونه من اثر التحلل

 وقد عثر أحدهم على مجموعة أوراق خطّها الأستاذ بيده تحكى قصته كاملة أعيد نشرها دون تدخل منى وكما هي.

فكرت كثيرا  ما معنى الحياة ووجدت أنها حلم  طويل ومزعج يوقظنا منه الموت  وهى كقطار ما اجتازه مر، و ما هو مقبل عليه  رحلة في عالم الغيب

 والدين هو البوصلة التي تساعد الإنسان على الحفاظ على اتجاهاته السليمة في هذه الرحلة القاسية والإيمان يهذب أرواحنا .. ويملؤها طمأنينة .

ونحن مطالبون أن نحياها كما هي . وأن لم يكنْ من الموتِ بدٌ فمن العجزِ أن تموتَ جبانا وخائفا ومرعوبا .

فالحياة أمانة الخالق و يوم تُسترد منك لا تحتج لأنها في الحقيقة ليست ملكك.ونحن عادة نحكم على الأمور من منظورنا المحدود..

سالت نفسي هل أحتاج فعليا لأسرة وأحتاج لامرأة لأسعدها وتسعدني وتشاركني الحلم والأمل ؟

والواقع بحثت  عنها كثيرا جدا لكنني لم أجدها وبعد هذه الرحلة المجهدة أصبحت أبحث عن إنسانة تهتم بى وترعاني فقط.

أريد أن أرتاح ليس عندي جهد للشجار الدائم سمة الارتباط هذه الأيام، أريد امرأة تحاول وتجتهد في أن تصنع رجلًا وتقف بجانبه وتريحه تجيد التعامل مع إنسان قلق وحالم لا أريدها أن تعاملني كرجل تقليدي يلهث خلف المال والجنس والسلطة.

 وأنا لا يكفيني من المرأة عواطفها تجاهي وليس كافيًا أن تحبني لابد أن تصادقني بصدق و تصبح أختي وصديقتي وعشيقتي وأمي وتعرف كيف تسمعني وأنا أيضا أسمعها وتحبني بإحساس ملتهب وتشاركني اللحظة بصدق ، ولن أجعلها تندم على مساندتها لي ورحلتها معي،

 والحقيقة أنني لم أعد أحتمل امرأة لديها مشاكل نفسية وعقد داخلية ولا تفكر وتعيش لتحقق أحلامها الخاصة المحدودة في أن تكون زوجة وأم ولها أسرة ودخل مناسب.

أريدها أن تعرف أنى رجل ناضج يحمل قلب ومشاعر طفل صغير صادق وصادم فعليها أن تعاملني هكذا،

 وأعرف أن مواصفاتي صعبة ومعقدة في اختيار المناسب ولهذا دائما ما أفشل ولا تدوم علاقاتي العاطفية سوى أيام قليلة وأحيانا ساعات.

أحب بكل ما أملك من مشاعر وأحاسيس وبصدق وقوة، ثم أكتشف أن من أحببتها إنسانة مختلفة  عن  حلمي  كثيرا وقد يكون لها طموحها الخاص فيبدأ الصدام بين أحلامي وأحلامها وتموت الحكاية من البداية.

وأخاف أن أظل هكذا أو تمر أيامي دون أن أعيش لحظة صدق ودفء واحدة.

عشت حياتي كلها كطائر حر طليق يرفض العيش داخل صندوق مغلق يحب الحياة والحرية، ما اقسي أن تعيش وحيدًا طوال حياتك ؟

وأحيانا وعندما كان يتملكني الشعور بالوحدة كانت قدمي تدفعني للسفر داخل وخارج البلاد في رحلة هروب للعيش في الفنادق والقرى السياحية والأماكن الراقية حتى أجد ابتسامة صافية وصادقة أو وردة جميلة في استقبالي أو منظر طبيعي يشدني له بقوة.

وطالما انك عثرت على رسالتي الأخيرة وشعرت بكلماتي ألان أكون قد غادرت الحياة فانشرها لعل قصتي تفيد أحدا واجد من يدعو لي بالرحمة.

 

الرصافي من ثورة شموخه ... حتى استكانة قنوطه !..لماذا؟/ كريم مرزة الأسدي

ثلاث حلقات

في ( موشح المرزباني ) : حدّث أحمد بن خلاد عن أبيه قال : قلت لبشار : أنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت . قال : وما ذاك ؟ قلت : بينما تقول شعراً تثير به النقع ،  وتخلع به القلب. مثل قولك :
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ً **هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمـا
إذا ما أعرنا سيداً من قبيــــلةٍ  **ذرى منبر ٍ، صلّى  علينا  وسلّمـــا
تقول : 
ربــــــــــابة ربّة الــــــبيتِ ***تـصـــــب الخلَ في الزيــــــــتِ
لــــــــها عشر دجـــاجــاتٍ ** وديـــــكٌ حـــسـن الصـــــــــوتِ
فقال : لكل وجه موضع  ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في ربابة جاريتي ، وأنا لا أكل البيض من السوق ،  وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك ،فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها ، فهذا عندها من قولي  ،  أحسن من ( قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ) عندك .
هذا هو بشار في أوجّه  ، وهذا هو بشار في حضيضهِ ،  ووفر لنا قناعة ترضيه .. وهذه الرواية تجرنا للحديث عن الرصافي ضيفنا الكبير لهذه الحلقات .. فالرصافي الذي يهزّنا بشموخه العالي إعجاباً وإكباراً اذ يقول :
هي المنى كثغور الغيدِ تبتسمُ *** إذا تطرّبها الصمصامة الخذمُ
وإن شأو المعالي ليس يدركه*** عزمٌ تسرّب في أثنائه الســأمُ
وكلّ من يدّعي بالمجد سابقة ً ** وعاش غير مجيدٍ فهو متـــهمُ
لا أخالك تصدق أن هذا الشاعر الشامخ يقف إبان قنوطه مشجعاً ومصفقاً لكل من يدخن سجائر ( غازي ) ،  بل يطلب أن يجازى على عمله بهذين البيتين الهزيلين :
دخن سـيجارة ( غازي ) ***في وقفـةٍ واجتــيازِ
وجازِ نصـحـي بـخير ٍ*** إن كنت مـمـن يجازي
أوجد بشار كما قلنا لنفسه العذر، إذ قال شعره لجارية واحدة يفهمها وتفهمه ،  ولكن ما عذر شاعرنا الكبير ،  وهو يلقي بهذا الشعر لعموم الناس .. للشعب .. لشبابه .. لرجاله .. لشيوخه .. إن لم نقل لنسائه ! ثم ياترى مسؤولية من أن يلجأ شاعر مثل الرصافي الكبير ،  وفي أواخر ايامه لمثل هذا ( الغازي ) ،  وهذا الـ ( يُجازي ) !
 
أما شاعرنا فأوجد لنفسه عذراً ،  ولطم التاريخ بأنامله العشر مع كفتيه قائلاً :
قد انقلب الزّمان بنا فأمست***بغاث الطير تختصر النسورا
وساء تقلّب  الأيـام حتـى *** حمدنا من زعازعها الدبـــورا

هذا هو حكم الزمان .. وهذه هي اعتبارات المجتمع .. وهذا هو قدر الشاعر .. والعجيب أن شاعرنا لم يكتف بإيجاد العذر لنفسه ،  بل دفعه شرف نبلهِ   ، وسعة إدراكه   ، وصدق مشاعره  أن يجد مبرراً حتى لقومه  ،  وأبناء عصره على ما لحقه في حياته من إجحافهم له ، وازدرائهم إياه  ،  وتحملهم عليه  ،  وذلك قبل وفاته  ،  رحمه الله :
لو يملك الأمر قومي في مواطنهم *** ما كان حقي لديهم قطٌ مهضـوما
لكنّما أمرهم مـلك  لأجـنـبـــــــهم **  فليس من عجب إن عشت مظلوما
فمن هو شاعرنا الكبير الذي أراد له أستاذه وشيخه ( محمود شكري الألوسي )  ،  أن يكون نظيراً للمتصوف البغدادي الشهير . في ذلك الصوب – ( معروف الكرخي )  فنعته بـ ( معروف الرصافي ! ) ، فتلاقفته الأيام وسارت به مع دهرها.
 ولد شاعرنا في بيت صغير بمحلة ( القراغول ) من محلات رصافة بغداد سنة 1291 هـ حسب ما ذكره عبد المسيح وزير  ،  ونقله راوية الرصافي الأستاذ مصطفى علي في كتابه ( أدب معروف الرصافي ) ،  وهذه السنة توافق 1874 م  ،  ونحن ننفرد بهذا التاريخ خلافاً لما ذهب إليه كل من أرّخ للرصافي ،  وكتب عنه بأنها كانت 1875 أو 1877  ،  ونحن نرجح تاريخنا ، وذلك في دار جدّه لأمه  ، لأن والديه كانا يسكنان تلك الدار مع أخواله وخالاته  ،  وهو ثاني أخوين ولدتهما أمّه  ،  لم يعش منهما إلا الشاعر ،  فأخوه البكر توفي وهو في مهد الطفولة ،   وشاعرنا معروف هو ابن عبد الغني محمود ينسب إلى عشيرة ( الجبّارة ) التي تعتبر من القبائل الكردية  ،  غير إن هذه العشيرة معروفة عند أكثر الاكراد بأنها علوية النسب  ،  لذلك يشير كل من كتب عن الرصافي إلى هذه الناحية  ،  والرصافي لقلة ارتباطه بعشيرة أبيه القاطنة في منطقة تقع بين محافظتي كركوك والسليمانية ، ولعدم احتكاكه بها ،  لم يتحدث عنها  ،  ولا عن أسرته إلا قليلاً ، بل كان يتهرب من الإجابة عن أصل أبيه وينتسب إلى ( آدم ) :

أجـــل أن القبـائـل مـن معــــدّ ****علوا فـتسـنـموا المـجـد التليـدا
وإنّ لهاشم ٍ في الدهر مـــــجداً  *** بناه لها الـــذي هـشـم الـثريـدا
ومذ  قام ( ابن عبد الله ) فيهم  ** **أقـــام لـكـــلّ مـكرمــةٍ عــمودا
فهم فتحوا البلاد ودوّخــــوها ****** وقادوا في معاركها الجـــنودا
الرصافي لم يتمتع بوجه أبيه كثيراً  ،  إذ كان هذا الأب عريفاً في جيش العثمانيين  ،  واشترك بحربهم مع الروس  ،  ولما  رجع انخرط في سلك الدرك ( صنف الخيالة)  ،  وأصبح عريفاً في قسم ( البغالة )  ،  فقضى معظم العمر في الأسفار والتجوال  ،  وقلما وجد في بغداد  ،  لذلك كان اجتماع صاحب الترجمة بوالده قليلاً  ،  ومن الجدير ذكره أن المؤرخين قد ذكروا عنه أنه كان متديناً ،  كثير الصلاة وكثير قراءة القرآن الكريم ,حاد المزاج  ،  إذا غصب أخاف  ،  وإذا ضرب أوجع  ،  وكان يحسن التكلم باللغات العربية والتركية والكردية  ،  ويقرأ العربية ويكتبها  ، قراءة وكتابة بسيطتين ، وهذا يعني أنه كان يمتلك قدرات عقليه عالية  ،  لم تسنح له الظروف بالبروز والظهور  ،  ولكن ورّثها لابنه الـ ( معروف )  ،  كما ورّث شاعرنا  ذكاء أمه  ،  واكتسب قوة شخصيته من قوة شخصيتها  ،  فهذه المرأه حلت محل أبيه في تولي امر تربيته  ،  وكان تأثيرها على ابنها حاسماً بعيد المدى  ،  يقول الرصافي ( كانت مرجعي في كل شيء حتى بعد مجاوزتي العقد الأول من حياتي  ،  لأني كنت لا أرى أبي إلا قليلاً  ،  فهي التي كانت ترسلني إلى الكتاب وأنا صغير ، وهي التي كانت تجهز لي ما يلزم لذلك ) فبالرغم من فقرها  ،  وأصلها المتواضع ، كانت حريصة على الأرتفاع بابنها فوق طبقتة الدنيا ،  فدفعته إلى الدرس  ،  وغرست فيه حب العلم وتحصيله ، وعلى ما يبدو  ، كانت لهذه الأم منزلة اجتماعية كبيرة  ،  وعلاقات حميمة  ،وشخصية محببة  ،  فلها ( في قلوب أهل محلتها محبة عميقة ،  واحترام عظيم  ،  وكانوا يتخذونها حكماً في أمورهم  ,ويعرضون عليها مشاكلهم ) , ولا ريب قد أثرت هذه العلاقات الاجتماعية الطيبة  ،  والشعور الإنساني النبيل في نفسية شاعرنا منذ الطفولة  ،  فأنعكست على شعره  ،  حتى شغل الجانب الاجتماعي نصف الجزء الأول من ديوانه ،  وهي من  أروع قصائد ه إطلاقاً  ، فلا يريد للمرأة ( الطلاق)  ،  لأنه لا يريد لأمّه أن تطلق  ،  ويتقطر قلبه أسى علــى ( ام اليتيم )  ، لانه لايريد لأمه أن تترمل ،  ولما وجدها في ( الأرملة المرضعة )  ،  سكب كل أحزانه وأشجانه ،  وكل ما يعرف القلب من آلآم صادقة  ،  وكل ما يفيض الشاعر من أحاسيس جياشة :

لقيتها ليتني ما كنت ألقاهـــــا*** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثةُ ٌ، والرجل حافيــــةٌ **والدمع تذرفه في الخدّ عينــــاها
تقول ياربّ ! لا تتـــرك بلا لبن ٍ** هذه الرضيعة وارحمني وأيـــاها
كانت مصيبتها بالفقر واحدة ً *** ومــــوت والـدهـا بـالـيتـم ثـنـّاها

القصيدة لوحة فنية رائعة رسمت بريشة فنان قدير  ،  ليرجع إليها من يشاء في ديوانه ،  ولك أن تتذكر كم من ( أرملة مرضعة ) في عراقنا الحبيب هذا اليوم  ،  وكم من ( مطلقة ) ، و ( ام يتيم ) ،  و ( يتيم في العيد )  ،  و ( دار الأيتام )  ،  و ( فقر وسقام )   ،  و( يتيم مخدوع ) ،  واخيراً كم ( سجن في بغداد )  ،  و نكرر هذا اليوم هذه  العناوين لبعض قصائد شاعرنا الاجتماعية التي نظم عقودها بمهارة فنية عالية  ،  والحقيقة هنا تكمن قوة الرصافي وعبقريته الفذة  ،  وقد تشربها من نفس أمه وروحها ،  وفي الدرجة الثانية فيما أحسب يأتي شعره السياسي ،  وليس له شعر آخر يستحق به الخلود عدا هذين المجالين  ، فقد بلغ بهما القمة .
على كل حال ماتت ام شاعرنا الكبير في بغداد  ،  وهو غائب عنها في اسطنبول أثناء الحرب العالمية الأولى  ،  ولم يخبر بوفاتها حتى رجوعه العراق سنة 1921 م  ،  مما جعله يطفح بالندامة ويشعر بعقدة الذنب  ، بالرغم من أنه كان يرسل إليها الدراهم لذلك يقول ( أما اليوم فكلما ذكرتها جاشت نفسي بالأحزان  ،  لأني أشعر أنني لم يساعدني الحظ على القيام بالواجب الذي لها علي ... ولذا أصبح اليوم وأمسي وأنا في ذكرى محزنة ومؤلمة جداً  .)  
إنها الام الصالحة الخيرة الطيبة  ،  يقتضي الوفاء منه أن يحزن لفراقها  ،  ومنا أن نتذكرها بالخير حيث دفعت ابنها لإن يجود بأروع القصائد الإنسانية في مجالي الأمومة والطفولة  ، ونرجع إلى طفولة الرصافي حيث بدأ حياته الدراسية عند أحد الكتاب حتى ختم القرآن الكريم ،  وتعلم مبادىء الكتابة  ،  وانتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية ، وكانت تتألف من ثلاثة صفوف ،  وبعد تخرجه منها التحق بالمدرسة الرشيدية العسكرية ،  وكانت بمستوى المدارس المتوسطة ، وفي الصف الرابع من مدرسته الأخيرة رسب في الامتحان لعدم إجادته اللغة التركية  ، ولعدم التزامه بالانضباط العسكري ، لنزعته الحرّه  ،  لذلك اضطر أن يترك المدارس الرسمية   ،  ويتجه إلى طلب العلوم الدينية  ، فألتحق بالشيخ ( محمود شكري الألوسي ) سنة 1924م  ،  ولازمه اثنى عشر عاماً  ،  والعلامة الألوسي هو مؤلف ( نهاية الأرب في أحوال العرب ) الذي طارت شهرته بالآفاق  ،  ونال عليه جائزة اللغات الشرقية في ستوكهولم  ،  بالإضافة إلى  أن شاعرنا تتلمذ على يدي الشيخ عباس القصاب ، والشيخ قاسم القيسي  ، وغيرها في تلك المرحلة من حياته  ،  واستطاع لهمته العالية  ،  وجهوده المثمرة ،  وتطلعاته الخيرة أن يكون ( الرصافي ) :

همم الرجال مقيسةٌ بزمانــها ***وسعادة الأوطان في عمرانـها
وأساس عمران البلاد تعاونٌ  ***متواصل الأسباب من سكانـها
وتعاون الأقوام ليس بحاصلٍ  ***إلاّ بنشر العلم في أوطانــــــها
والعلـم ليــــــس بنافع ٍ إلاّ إذا  *** جرت به الأعمال خيل رهانها
إن التجارب للشيوخ وإنّمـــا ****أمل البلاد يكون في شبّـانــــها

- 2 -
قال ابن الرومي :
رقــادك لا تسهر لي اللــــــيل ضلّة ً ***ولا تتجشم فيّ حوكَ القصائدِ
أبــي وأبــوك الشيــــــخ آدم تـلتقي ****مناسبنا في ملتقىً منه واحد ِ
فلا تهجني حسبي من الخزي أننّي   ***  وأيـّــــاك ضمّتني ولادة  والدِ
تعجبني هذه الأبيات الرائعة للشاعر العبقري ابن الرومي ،  والشيء بالشيء يذكر، حول المشاحنات الأدبية والحزازات الشخصية  ،  والنزاعات الأنانية ،  والصراعات السياسية التي يقع بين حبائلها عمالقة الفكر والأدب  ،  ناهيك عن عامة الناس وعوامهم ،  متناسين في لحظات الصراع غير المشروع ، ما الإنسان إلا نطفة من قبل ، وجيفة من بعد – وأنا استعير هذا المعنى من الامام علي ( عليه السلام ) - فلا يبقى بينهما إلا العمل الصالح ، والخلف النافع ، والذكر الطيب  ،  وشاعرنا اشار إلى نسبه الأولي متجاوزاً كل آبائه وأجداده كما أسلفنا ، ولكن الرصافي وقع بين هذه الأحابيل ، وأشد من هذا  ، شأنه شأن العظام ، من حيث يدري أو لا يدري ،والعباقرة عادة لا يصنعون الأحابيل ، بل يقعون فيها جبراً أو اختياراً ،  لك أن تقول ما تشاء ، ونحن نسجل ، كان  الرجل  جريئاً ، ولعله من أكثر شعراء العراق المعاصرين جرأة وصراحة ،لايخشى لومة لائم  ، ولا صولة صائل  ، ينتفض ثائراً ، وينطق هادراً ، ويقذف بحممه وجهاً لو جه حتى تصل القمة :  
لهم ملك تأبى عصابـــــة رأسه**** لها غيرسيف التيمسيين عاصــــــبا
لقد عاش في عزّ بحــيـث أذلّهم *** وقـد  ساءهم  من  حيث  سرّ  الأجانبا
وليس له  من أمــرهم غير أنّهُ  *** * يعــدّد  أيـاماً  ويـقـــبــض  راتــبـــا
تسألني هل نحن مع هذا الشعر ام ضده ؟ وهل عراقنا اليوم أولى بهذه الابيات أم عراق أيامه ؟! وهل كان الشاعر صادقاً في قوله أم منفعلاً في طرحه ؟! فالرجل ذهب إلى رحمة الله ، وصار في ذمة التاريخ ، ويقال أن الملك فيصل اجتمع بالرصافي بعد ذلك  فقال له : ( أأنا أعدّد أياماً واقبض راتباً يا معروف ؟ فأجابه : أرجو أن لاتكون منهم يامولاي ) ، وأنا الآن لست محللاً سياسياً  ، بل ناقداً أدبياً  ، وأفسر الأمر من حيث هو ، لا من حيث أنا وأنت ، والذي أريد أن أقوله في هذه النقطة  كان الرجل جريئاً وفي منتهى الجرأة  ، ومن هنا جاء العنوان ( من ثورة شموخه ) ، واذا تريد أكثر ، فلنرجع الى إلخلف سنلاحظ  ، إن الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان المستبد عبد الحميد عقب إعلان الدستور ( 10 تموز 1908م) اقرأ معي :

في شهر تموز صادفنا لما وعدت*** بيض الصوارم بالدستور تنجيزا
أمست لنا قســــمة بالـملك عادلة ** حكماً وكانت على علاّتها ضيزى
قمــــنا على الملك الجبار نقرعهُ ***بالسيف منصلتاً, والرمح مهروزا
فالشاه في شهر تموز ٍ هوى وكذا ***عبد الحميد هوى في شهر تموزا
بل ذهب أيضاً إلى أكثر من هذا .. إلى مقارعة الدولة العثمانية بأسرها يقول في قصيدته ( تنبيه النيام ) : 
عجبت لقوم يخضــعون لدولةٍ ***يسوسهم بالموبقات عميدهـــا
وأعجب من ذا أنّهم يرهبونها ***وأموالها منهم, ومنهم جنودها
ونحن نعذر ، ولا نعجب من الرصافي ، إذ كان من مؤيدي هذه الدولة المستبدة في طور من أطوار حياته ، وبعد ( تنبيه النيام ) ! حتى أنه وقف ضد الإصلاحيين العرب في بلاد الشام ، فبعد أن مدحهم في قصيدته ( في معرض السيف )  ، نجد أنه قد هجاهم بمرارة في قصيدتهِ ( ما هكذأ ) و ( في ليلة نابغة )  ، لذلك كتب عنه الشيخ محمد رضا الشبيبي بقساوة لا تتحمل  ، منها ( وكان موقف الرصافي من هذه الحركة موقف الخصم الشديد ، وهو لا يقل عن موقف أي تركي معتز بنعرته القومية...)   ،  ويقصد الشيخ ( حركة الاصلاح ) ،  ولا نريد الاطالة في هذا الموضوع لانه خارج بحثنا ،  ولكن لكي لا يقال عن كاتب هذه السطور تناسى  ، ولكن مرة أخرى تجدر الإشارة إلى أن ليس كل الحق مع الشيخ الشبيبي  ، فالرصافي عاش عصره ، زمن الهيمنة الفرنسية والإنكليزية على الوطن العربي  ، وكان الرصافي يرى من المنظور التاريخي والإسلامي أن العثمانيين أقرب إلى العرب ، ولاسيما عندما عقد الإصلاحيون مؤتمرهم في باريس في 17حزيران /1912 م   ، فوجد في ذلك تعاوناً مع الأجنبي ،  ورؤية الرصافي استمرت لدى بعض العراقيين حتى أن ثورة النجف التي قادها نجم البقال سنة 1917  تصب في هذا الإتجاه ، على كل حال ، يقول  شاعرنا  في ( ما هكذا ) :
  
لو كان في غير ( باريز ٍ ) تآلـبهم ***ماكنت أحسبهم قوماً مناكيـــــــــبا
لكن ( باريز ) مازالت  مطامعــها ***  ترنوا إلى الشام تصعيداً وتصويبا
هل يأمن القوم أن يحتل ســاحتهم *** جيشٌ يدكّ من الشام الأهاضيـــــبا

وصدقت نبؤته من بعد ،  إذ دكّ الفرنسيون هضاب الشام ،  وقدمت الشام الآف الشهداء في سبيل نيل حريتها واستقلالها  ،  وهذا لا يعني الاتراك كانوا أرحم على العرب من الفرنسيين ، ولكن أيضاً يجب أن نتذكر ظروف الرصافي وعصره  ، إذ كان يعيش في عاصمة الدولة العثمانية  ، ويأخذ المعلومات والحقائق عن طريق الحكام  من  الاتحاديين , وهم وصحافتهم وبياناتهم كانت مصدر الأنباء بالنسبة له ولغيره ، وكان يسمع فقط وجهة نظر الحكام مدعمة بالوثائق والأسانيد ،  ولا تصله أنباء ما يجري في الولايات العربية إلاّ عن هذا الطريق ، وإلا فالرجل شعلة خالصة من الوطنية والإخلاص والحب لقومه لا تشوبها أيّة شائبة :
 
يابني يــــــعرب ما هذا المنام ***أو ما أسفر صبح النوّمِ ِ ؟
أين من كان بكم يرعى الذمام  ***ويلبّي دعوة الـمهتضمِ
أفـــــــــلا يلذعكم مني الملام**** فلقد ألفظ جـمراً من فمِ

نرجع إلى سيرة حياة شاعرنا، لنتابع معه رحلة العمر ، إذ تركناه قد تخرج أيدي شيوخه  ، فنحن الآن إذن في بدايات القرن العشرين ، حيث يمارس شاعرنا مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية ببغداد  ، ثم ينتقل إلى مدرسة ( مندلي ) لمدة سنة دراسية  ، ويعود بعدها إلى بغداد ليحاضر في إحدى المدارس الثانوية في الأدب العربي ، وينظم أثناء ذلك أروع القصائد في الاجتماع والثورة على الظلم ، ويبعثها للنشر في الصحف المصرية  ،  وخاصة جريدة ( المؤيد )  ، ومجلة (المقتطف ) وغيرهما  ، وكان يرتدي حينذاك العمامة والجبة  ، ولم يكن الرجل في بحبوبة من العيش الرغيد ،  والعمر السعيد ، بل كان فقيرا  ، لا تسعفه ذات يد ،  وكم مرة صارع هوى نفسه ، فتغلب عليه  ،  واخضع رغبته وشهوته  ،  لشهوة حالته المادية :
وأقنع بالقوت الزهيـــــــــد لطيبه ***حذار وقوعي في خبيث المطاعم ِ
وأترك ما قد تشتهي النفس ميله *** لما تشتهيــــــــه قلّة في دراهمي
  
بقى شاعرنا في وظيفته التعليمية حتى ( تموز 1908م )  ،  إذ أعلن الدستور العثماني  ، فترجم للعربية النشيد الوطني العثماني الذي وضعه الشاعر التركي المشهور ( توفيق فكرت ) ، مما أدى إلى زيادة شهرته  ، وتغلغل نفوذه في عاصمة الدولة العثمانية ،  وشيوع ذكره أكثر فأكثر في جميع أنحاء الوطن العربي  ،  فأختير رئيساً لتحرير القسم العربي في صحيفة ( بغداد ) وهي اول صحيفة أهلية غير رسمية تصدر في بغداد  ، وقد أصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي  ، ( صدر العدد الأول منها في ( 6 اب 1908 م ) باللغتين العربية والتركية  ،  ووردت إليه دعوة من ( أحمد جودت ) صاحب صحيفة ( إقدام ) التركية ليعمل محرراً في صحيفته ،  فشدّ الرحال إلى الأستانة في أوائل ( 1909 م ) على ما أرجح  ،  ولما وصل إليها خذله صاحب الدعوة , فرجع خائباً مروراً بسالونيك وأثناء وجوده فيها سمع  بإنتصار المستبدة , وإلغاء الدستور  ، وحل مجلس ( المبعوثان )  ،  وذلك في 31 آذار 1909 م   ، فذهب شاعرنا إلى بيروت  ،  وأعوزه المال هناك   ، فبادر السيد محمد جمال الدين صاحب ( المكتبة الأهلية ) في بيروت إلى شراء  مجموعة شعره التي صدرت باسم ( ديوان الرصافي ) عام 1910 م وهو أول ديوان يطبع له  ، وعاد إلى بغداد وعلى الأرجح الى العمل في رئاسة تحرير القسم العربي بصحيفة ( بغداد ) إلى أواخر أيامها  ، ثم سافر إلى أسطنبول ( الآستانة ) مرة ثانية , وتولى رئاسة تحرير صحيفة ( سبيل الرشاد ) العربية إثر برقية جاءته من ( جمعية الأصدقاء العرب ) ،  وكُلف هناك بإلقاء محاظرات في ألأدب العربي في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الأوقاف ، وكان الرصافي يتمتع بمنزلة اجتماعية رفيعة  ، وقام بتدريس طلعت باشا وزير الداخلية  ، وكان هذا العمل على مايبدو هو سبب في اختياره نائباً في مجلس المبعوثان ( النواب ) العثماني عام 1912م وذلك عن لواء المنتفك ، ونستنتج من شعره أنّه كان عضواً فعّالاً متكلماً يبدي رأيه بجرأة ،  حتى أنه يستهزأ من نواب بغداد الصامتين في المجلس ( هو محسوب على نواب المنتفك ) , فعندما يهجو رجلاً مغروراً جاهلاً يشبهه بنواب بغداد قائلاً :
  
وشـــــامخ الأنف ما ينفكّ مكتسباً *** ثوب التكبّر في بحبوبة النادي
قد لازم الصمت عبئأً في مجالسه  *** كأنما هو من نــواب بـــــــغدادِ

وفي ذلك الحين تزوج شاعرنا الكبير ثيباً من بنات أزمير اسمها بلقيس  ، شقيقة طبيب تركي مشهور يدعى الدكتور( أكرم أمين بك ) ،  وهي زوجته كما يزعم بعض المؤرخين ، فالشاعر يروي لنا ساعة توديع زوجته حين اضطر الى مغادرة الاستانة بعد خرابها , حيث أصبحت شبح عاصمة لمملكة كانت كبرى ،  وأصبح هو بين أحضان شعب يعاني من مرارة الهزيمة  ،  وذلك بعد الحرب العالمية الأولى قائلاً :

تقول ابنة الأقــــوام وهي تلومني***وأدمعها رقراقة في المـحاجرٍ
إلى كم تجدّ البين عنّي مسافـــــراً *** أما تستلذ  العيش غير مسافرِ
ولا غرو أن أبكي أسى من بكائها***  فأعظم ما يشجي بكاء الحرائرِ
وقلت لها : إنّيِ امرؤ لي   لبــانة ٌ*** منوط ٌ مداها بالنجوم   الزواهرِ
تعوّذت إلا أستنيم إلـــــــى المنى*** وآلا  أرى إلاّ بهيـئة   ثائـــــــــرِ
 ِ
لا طلاق ولا هم يحزنون  ،  هذا بكاء من الطرفين  ،  وهذا اللوم والعتاب وانكسار الخاطر ، والشاعر يطمح للنجوم الزواهر  ،  وأن يرى بهيئة ثائر  ،  وتحت قدميه ركام الاستكانة ، وأمامه شحوب الآستانة ، وراحل إلى المجهول  ، لا أهل ولا سكن ! تركها في الآستانة ، وعند مكوث الشاعر في بغداد، رغب بالعودة إليها ’ وطلب سلفة على رواتبه لتذليل عقبات السفر ولكنه لم يوّفق لما أراد :
  
قد عاقني الإملاق عن سفري إلى ****من طال معتلجاً إليه حنيني
وأنا المشوق ، ولست ممن شاقهم****بقر العذيب ولا مها   يبرين
لكن قلبي لايــــــــــــزال   يشوقــــه**  ظبيّ ٌ أقـــــام بدار قسطنطين

المهم شاعرنا قرر الرجوع إلى وطنه ، ولكن العراق أيضاً تحتله القوات الإنگليزية إحتلالاً عسكرياً  ، فما العمل ؟ ! يمم وجهه شطر دمشق  ، ومنها إلى القدس حيث جاءته دعوة للعمل كمدرس بمدرسة المعلمين في القدس الشريف ، فأشتغل هنالك بالتدريس من سنة ( 1918 – 1921 م ) ، وكان موضع تقدير في مجتمع مدينته المقدسة  ، فدعي إلى المآدب والاحتفالات ،وطلب إليه إنشاد الشعر  ، ولكن لم تهز ّه أحداث العراق ، فلم يشارك في الثورة العراقية الكبرى عام 1920 ، فلم نعثر على أي قصيدة له فيها.
 
ورجال الثورة وافقوا على تنصيب ( فيصل ) ملكاً على عرش العراق    ،  وهو قد هجا من قبل والده الشريف حسين بأبيات قاسية , لذلك عند عودته للعراق سنة ( 1921 م ) لم يسعفه الحظ إلاّ بوظيفة دون طموحه الكبير  ،  وأقل مما يستحقه بكثير، وهي وظيفة ( نائب رئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ) ، فقضي فيها نحو سنة ونصف  ، وأثناء وجوده ببغداد  ، أقام المعهد العلمي حفلة تكريمية لأمين الريحاني ( أيلول سنة 1923 ) ألقى الشاعر فيها قصيدة تعد من غرر قصائده فما أحوجنا إليها في هذه الأيام الحالكة :
لو ما تـــــرى قطر العراق بحسنه**** قد فاق مقفره على مأهولــــهِ
فلقد عفا المجد القديــــــم بأرضه ****  وعليه جرّ الدهر ذيل خمولـهِ
وإذا نظرت إلى قلوب رجـــــــالهِ ****  فأنظر حديد الطرف غير كليلهِ
تجد الرجال قلوبها شتى الهــــوى ****  مدّ الشقاق بها حبالة غولـــهِ
متناكرين لدى الخطوب تناكــــــراً **** يعيا لســـان الشعر عن تمثيلــهِ
فالجارُ ليس بمأمن من جــــــــــارهِ  *** والخلّ  ليس بواثقٍ  بخليلــــــهِ
وإذا تكلم عالمٌ في أمرهـــــــــــــــم **** حفروا ذمـــام العلم في تجهيلـهِ
حالٌ لو افتكر الحكيــــــــــمِ بكنهه ****  طــــول الزمان لعُيّ عن  تعليلــهِ
من أين يرجى للــــــــــعراق تقدمٌ *** *** وسبيل  ممتلكيه  غير سبيلـــهِ
لا خير في وطن ٍ يكون الســـــــيف *****عند جبانه  , والمال عند بخيلــهِ
والرأي عند طريده   والعلــــــــــــم  *** *عند غريبه  والحكم عند   دخيلهِ
وقد استبد قليله بكثيـــــــــــــــــرهِ   ***  ظلماً   وذل     كثيره  لقلــــــــيلهِ
إني إذا جدّ المقـــــــــــــال بموقفٍ **** فضلتُ مجمله علـــــــــى تفضيلــهِ

- 3 - 
بادىء ذي بدء ،  يقتضي العدل والإنصاف - وأنا أمرُّ بشيخوختي  ، وأقف على مسافة واحدة بين الملك فيصل الأول (1) و الرصافي ، رحمهما الله -عندما أضع نفسي محامياً عن جرأة الشاعر وشموخه ، أن لا أبخس ملك العراق الأول - لمن لا يعرف تاريخ العراق الحديث -عبقريته وحلمه ودماثة خلقه وحنكته ونزاهته ، وهو لا ريب من أروع الحكام الذين تسلموا زمام القيادة منذ زوال  الاستبداد العثماني  ، وهذا ما أتفق عليه المؤرخون المنصفون . 
على كل حال ،  نرجع بكم القهقرى لعهد الكلمة والقول الجريء ، والعقل  المتلقي الرشيد ، إلى عقد العشرينات من ذاك القرن المسمى  بالعشرين ،  والرصافي الكبير قد تجاوز من العمر خمسة وأربعين عاماً ، والإنسان عادة في هذا السن يكون في قمة نضوجه العقلي ، والفكري والجسدي , فلا هو بالشيخ العاجز ، ولا هو بالشاب الطائش ، يعرف ما يريد من الحياة ، وماذا تريد منه ، وهكذا كان  شاعرنا الرصافي قد عركته الدنيا وعاركها ، وقلبته وقلبها  ، وزاد على نضوجه شموخه النفسي ، وثورته العارمة حتى بلغ قمة القمم  ،  وذروة الجرأة في قصيدته التي تلاقفتها الأجيال ،  ورددتها الألسن من يومه إلى يومنا  ،  ونعتها  بـ  (حكومة الاغتراب ) :
أنا بالحكومة والسياسة أعرف *** أألام  في   تفنيدها   وأعنف
سأقول فيها ما أقول ولم  أخف **من أن يقولوا  : شاعرٌ متطرف
ثم يمسك الرصافي بقلمه المعول ، ليضرب هيكل الدولة المصطنع من قمة رأسه إلى درك أساسه  ، ليجعله عصفا مأكولا ، وهباءً منثورا ، كأن لم يكن شيئاً مذكورا:
علم  ٌودستورٌ  ومجلس  أمــةٍ  ****كل عن المعنى الصحيح محرفّ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها  *** أمّا معانيها فليس  تــــــــــــعرف
من  يقرأ الدستور  يعلم   أنه ****  وفقا  لصـــك   الأنتداب  مصنّف 
من ينظر العلم المرفرف يلقـه  ***في عزّ غير بني  البلاد   يــرفرف\

ولا تخفى استعارته ( للعلم ) ويعني به الملك  ،  ليصب جحيمه عليه ،  والملك يغض الطرف عنه ،  ولا يبالي منه حكمة وحنكة  ، بدليل الأبيات التي اعقبت البيت الاخير، اذ انه يواصل بلا  هوادة تمزيق الصورة المزيفة بنظره  للديمقراطية :
من  بات  مجلسنا  يصدق  أنه **** لمراد  غير  الناخبين  مؤلف
من بات  مطرد الوزارة  يلقها **** بقيود أهل الاستشارة  ترسف
ولا نستطيع ان نواصل معك اتمام القصيدة ، اذ يدعو فيها للثورة ،  ويهدد بزحف الجيوش ، ويوعد بطول الحساب  ، ونتف  اللحى ، إن كانت هنالك ثمّة لحى يحسب لها حساب ، ونختمها بما ختمه :
إن لم نماحك بالسيوف خصومنا ****فالمجد باكٍ ، والعلى يتأفف
والحقيقة أن الرصافي قد مهد لهذه القصيدة بعدّة قصائد سبقتها ،منها ( كيف نحن في العراق ) ،يسخر فيها من الدولة والإنكليز , ويشبه معاهدة ( 10 / 10 / 1922 م ) بالقيد الذي يوضع في يد  الأسير، وما الأسير إلا شعب العراق !
أيكفينا من الدولات أنّــــــــا  *** تعلق في الديار لنا البنـــود
و إنّا بعد ذلك في أفتقـــــــارٍ ٍ *** إلى مــا الأجنبيّ به يجـــود
وكم  عند الحكومة من رجال ٍ  *** تراهم سادة ، وهم العبـــيد
أما  والله لو كنـــــــــا  قروداً   **** لمـا رضيت قرابتنا القرودُ !
ثم لماذا ؟
هل تريد أن ازيدك من تصنيفات شاعرنا الجريء ، أم أتوقف عن سرد قصة ( غادة الانتداب ) ؟
أعتقد أنك معي قراءة ، ومع  الرصافي شاعرية وتخيلاً  ، فمن تخيلاته العجيبة الغريبة ، تشبيهه للحكومة بفتاة كخضراء الدمن ، ظاهرها جميل ، وباطنها خبيث ، والعياذ بالله ، ويواصل الرصافي الشامخ قذائفه بكل عنفوان وجرأة ، بلسان ولا أسلط ، وقساوة ولا أعنف ،  و بسخرية ولا أهزأ ،وبأسلوب ولا أسهل  ، يحفظه القاصي والداني  ، و  يفهمة العام والخاص ، ويجعل  لعنة الله  على الظالمين ، فلا داعي للتخيل  والتبسيط فكل ما فيها صعب بسيط , سهل ممتنع ،فهذه ( الوزارة المذنبة  ( :
أهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة
إن ديك الدهر قد باض بـبـغــداد  وزاره !
هي للجاهل عزّ،  ولذي العلم حـقـــــاره
حبّبت للوطنــــي الـحـرّ أن يــهجـر داره
كم وزير ٍ هو كالوزر على ظهر  الوزارة
ووزير ملحق كالذيل في عجز   الحمــارة
أمع الذلة كبر ا، أم مع الجبن   جســـــاره
كيف لا تخشون للأحرار في البطش مهارة
على ما يبدو لنا أن الملك أخذ الشاعر بحلم الداهية , وحقد البعير،فالسياسة فن الممكن، والشعر فن اللاممكن ، الشاعر يطلب المثالية ، والسياسي يتشبث بالواقعية ، ولا نطيل ، المهم ، شاعرنا لم يسلم من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين على جرأته الغير معهودة ، سواء في قصائده السياسية ،  أو في ثورته الفكرية ( فصارع خصوما ًأشّداء تألبوا عليه  ، وأثاروا الرأي العام مرات عديدة ، وهم في كل مرة يثيرونه فيها  ،  يضربون على وتر الدين  ، وهو وتر حساس جداً  , يثور الناس إذا سمعوه ) , حتى أن البعض أفتى بكفره ، وخروجه عن الدين  ،  ووقف معه في شدته الشيخ عبد الوهاب النائب  ،  والشيخ مهدي الخالصي ، لذلك عند وفاة الأخير في مشهد ودفنه هناك ( 12 رمضان 1343 هـ / 6 نيسان 1925 م )  ،  رثاه بقصيدة رائعة فضح فيها الآلاعيب التي أدّت إلى أبعاد العلماء الأعلام عام ( 1923 ) ، وهم الشيخ الخالصي ، والسيد أبو الحسن الموسوي ، والشيخ محمد حسين النائني ، المهم ألقاها في الحفل التأبيني الذي أقامه نادي الإصلاح في بغداد :
أدهق  الدهر  بالمنية   كأسه **** من  قديم ٍ، وطــاف يسقى  أناســــــه
أنا أبكي عليه من جهة  العلـ  **** م ، وأغضي عن خوضه في السياسه
لا لأنّي  أراه  فيها   ملومــــــاً ****بل  لأني  أعيب  فعــــــــــــل الساسه
ليس في هذه الهنات السياسيا  ****ت إلا ّ ما  ينجلي  عن  خساســــــــــه
قد  أبت  هذه  السياســـة   إلا ّ**** أن   تكون  الغشاشـــــــــة الدّساســـه
من هنا بدأ يدرك شاعرنا بوضوح أن اللعبة لم تكن سهلة قط ، ولابد من دفع الثمن ، والثمن باهض وباهض على حساب شرف سمعته ، وحط ّ كبريائه ، ولقمة خبزه ، واذا زاد فهو كافر مرتد  وهناك من يصفق ، وهناك من يردد عن جهل عابر ، أو علم مقصود ، لذلك أخذ شاعرنا يتأرجح صعوداً وهبوطاً ، يأخذه الجزر مرة ، ويعيده المدّ أخرى ، فوجدت بذور القنوط في نفسه الكبيرة مكمناً ...
لنرجع إلى سيرة حياته مرة ثانية  ، ونرى ما حلّ بشاعرنا ، إذ تركناه في ( أيلول 1923 ) موظفاً هامشياً في وزارة المعارف ، وفي السنة نفسها سافر إلى الأستانة على ألا يعود إلى العراق يائساً مكسور الجناح ، وبقى هناك سبعة أشهر ولم يقاوم ، فعاد مضطراً إلى العراق عن طريق بيروت 1923 :
آب المسافر   للديارٍ ***على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب ** لما  تعجل  في  ذهابه !!
وفي هذه السنة أصدر جريدته ( الأمل ) التي صدر العدد الأول منها في 1/ 10 /1923 ولم يصدر منها سوى ثمانية وستين عدداً ، وتوقفت عن الصدور ، وبقى مدة بغير عمل حكومي ، وعندما ألف ياسين الهاشمي وزارنه سنة 1934  ، وكان الشيخ الشبيبي وزير معارفها ، أعيد الرصافي إلى الوظيفة , وأصبح مفتشاً للغة العربية حتى عام 1927 ،  ثم نقل إلى تدريس اللغة العربية وآدابها بدار المعلمين ، وفي سنة 1928 استقال ولم يعد إلى التوظيف ، ولكن لما تولى عبد المحسن السعدون رئاسته الثانية في ( 14 / 1 / 1928 م )  ، أستطاع أن يقنع الملك  بترشيح الرصافي لمجلس النواب ، وفي ( 19 / 5 / 1928 ) صار لأول مرة عضواً فيه ،  وبعد أن مرت عليه أيام عسيرة جداً  ، لا يجد فيها ما يلبسه إلا العتيق البالي ،فخاطب السعدون يشكي حاله قائلاً :
وليس العري من ثوب معيباً   ***لكاسي النفس من حلل الإباء
ومــــــا ضرّ المهند فقد جفن ٍ** * إذا ما كان محمود المـــضاء
فأن لم تــــدرك الأيام  عريي  *** * بثوب منك ياغمر الـــــرداء
لبست قرار بيتي في نهاري  *** * ولم اخلعه إلا في المســـــاء !
ومهما يكن من أمر ، تعدّ الايام النيابية الاولى من أسعد أيامه ، جددت لديه الطموح للمضي قدماً نحو كرسي الوزارة , ولكن يصح على طموحه المثل الشعبي المعروف ( عرب وين , طنبوره وين ) ، كان شعر الرصافي لا يمكن له أن يسعى بصاحبه إلى أعتاب الوزارة ، فمن الحال المحال الجمع بين الماء والنار , والشيء ونقيضه  ,فلا يوجد أي انسجام بين رغبته وسلوكه ( أقصد الشعري ) ، فما أن جاء المستر ( كراين )  ,وأقيمت حفلة كبرى لتكريمه ، ودعي الرصافي إليها ، وهو نائب حتى نسى كل آماله  ، فوقف في الحفل ، وألقى قصيدة رائعة تفضح الحكم القائم وتعريته :
جئت يامستر كراين*** فانظر الشرق وعاين
فـهــو للغــرب أسيرٌ ** أسر مديون ٍ لدائـــــن
غاصباً منه المواني*** شاحناً فيه السفائــــن
حافراً فيه  المــعادن ***نابشاً فيه الدفائــــــن !
وما أن نشرت معاهدة ( 19 / 7 / 1930 م ) حتى انقض عليها كالمارد الجبار دون  أي حساب للعواقب ،  ساحقاً بقدميه العاريتين كل طموحاته الوظيفية وآماله المستقبلية :
كتبوا لنا تلك العهود وإنما **  وضعوا بها قفلاً على الأغلال
شلّت أكف موقعيها أيـّهـم *** حلّت عليهم لعنة الأجيـــــــال
فتحت له أبواب الانتخابات النيابية لمجالس أربعة أخرى ، في ( 1/11/1930 عن لواء العمارة ) ،  و ( 8/3/1932 عن لواء بغداد )  ، و ( 8/8/1935 عن لواء الدليم )  ، وكذلك في ( 22/12/1937) , وللإنصاف والحق مرة ثانية ,إن الشاعر بلغ أعلى الرتب السياسية والاجتماعية في عهدي الملكين فيصل الأول ، وابنه غازي (2) ,لذلك عندما توفي الملك فيصل الأول ( 8/ أيلول /1933 ) ، رثاه في قصيدة ,كأنها وثيقة اعتراف بحنكة الفيصل وشجاعته وسداد رأيه ، إقرأمعي بعض  ما  قال فيها :
قضى بدر المكــــارم والمعالــــي **وحيدرة المعارك  والمـغازي
بنى مجــــداًعراقيـــــــــاًجديـــــداً**فأسسه على المجد الحجازي
وسار من السياسة في طريـــــق *** بحسن الرأي معلمة الـطراز
فما ترك الجهود بلا نجـــــــــــاح *** ولا فرصا تمر بلا انتــــــهاز
إذا اعتزم الأمور مضى وأمضى ***وإن سل المهند قال : مـــاز ! 
  ومهما يكن ، وكانت في أوائل عام 1933 ضاقت به الأمور المالية ، وضجر من صخب بغداد ، وآلاعيب ساستها ، فهاجر إلى الفلوجة بدعوة من ( آل العريم ) ، وعاش مكرماً معززاً بينهم ، وبقى في الفلوجة حتى ( أيار 1941 )  ، عندما دخل الجيش الانكليزي إلى المدينة الآمنة ، و بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني حيث تركها إلى بغداد عائداً ، وكانت حينذاك تحت سيطرة الوصي عبد الإله ومن خلفه نوري السعيد  ، فنزل ضيفاً في بيت صديقه السيد ( خيري الهنداوي ) ، ومعه خادمه  ( عبد) حتى عثر على دار بجوار بيت صديقه ، ثم انتقل بعد ذلك إلى دار في محلة ( السفينة ) بالأعظمية ، وهي الدار التي توفي فيها ، وكان الرجل في عامه السابع والستين ،عندما نزل بغداد ( 1941 )  ، ولكن لم تهده السنوات العجاف ، ولا صراعات الأيام ودسائسها ، بل ظلّ شامخاً بقامته العملاقة ، ولم تجرأ سنواته السبعون على النيل من هيبته ووقاره ورزانته  ، وفي خلال هذه الفترة الزمنية هجا نوري السعيد هجاءً مقذعاً ، وخصوصاً بعد اخفاق ثورة الكيلاني :
نوحي على المجد التليد *** يانفس والحكم الرشيد
نوحي على  أبطالـــــــه *** وكماته الغرّ الاســـــود
عصفت بهم ريح الطغاة  *** وهدّهم  حكـــــم السعيد
وفتح الرصافي دكاناً صغيراً قرب بيته لبيع السجائر فكسدت سوقها ،  وظل الرصافي يعيش مرارة العوز  ، و عذاب الفاقة  ، حتى باع الفرش والسجاد  ،  ومقتيات بيته المتواضع  ليستعين بثمنها على العيش ،  حتى رق ّ عليه أحد المعجبين بشعره ويدعى ( مظهر الشاوي ) فأجرى عليه راتباً ،  وسبب مأساته ، إن صح التعبير – خلاصتها  :
عاهدت نفسي والأيام شاهدةٌ  **أن لا أقرّ على جور السلاطينِ
ولا أصادقُ  كذّاباً ولو  ملكاً ****ولا أخالطُ  ُ أخوانَ الشياطين
فما كان الرجل قادراَ على كتم صوته ، أو يهادن الآخرين  ،  وللقول ثمن ،  وللجرأة ضريبة  ،وللخصومة أعداء ،  وأرى أنّ الدهر وضعه في ظروف أرحم بكثير مما سيأتى بها له ولغيره  لو عاصروا سلاطين  مَنْ جاء مِنْ بعد  وبعد - يا بئس ما رأينا - ! !
و إليه نعود  ،  والعود أحمد  ،  ففي سنة 1944 وهو في عامه السبعين ،  يصارع الشيخوخة والأمراض والعلل ،  أثيرت حوله ضجّة كبيرة تتهمه بالكفر والإلحاد , إثر صدور كتابه ( رسالة التعليقات ) ،  وتدخلت مديرية الاوقاف العامة لحسم الامر ،  فطلبت من العلامة ( فهمي المدرس ) إبداء الرأي في  كتابه , وبعد دراسته قال  :( وبالاجمال لم يظهر لنا كتاب تعليقات الرصافي ما يمس حرمة الدين ،  بل ظهر أنه قوي الايمان بالله ورسوله ،  راسخ الاعتقاد بما جاء القرآن , ومن كفرّ مسلماً فقد كفر ) وبالمناسبة للرصافي سبعة عشر مؤلفاً تركها للأجيال ،  ثم لبى نداء ربه صباح الجمعة ( 16/3/1945 ) واحسبه كان يردد:
ويل ٌ لبغداد مما سوف   تـــذكره  **عنّي وعنــها الليــالي في  الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعــها *** على  جوانــب  وادٍ ليــــس يسقيني
ماكنت أحسب إنّي مذ بكيت بها ****قومي , بكيت على من سوف يبكيني
رحم الله الرصافي، ورحم تلك الأيام ، بكينا عليه ، فمن الذي سيبكي علينا يا ترى ؟!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملك فيصل الأول ولد في الطائف في 20 أيار 1883م , وتوفي في برن عاصمة سويسرة مستشفيا في 8 أيلول 1933،  وهو نجل الملك حسين (1854-1931 ) شريف مكة ، وقائد الثورة العربية (1916) ،  وأمه الشريفة عابدية بنت شريف مكة عبد الله كامل باشا , حكمت الأسرة الحجاز أكثر من سبعة قرون منذ 1201م حيث جدهم المؤسس قتادة بن أدريس الحسني , أما الملك فيصل الأول فحكم العرااق مابين  ( 23 ب 1921- 8 أيلول 1933) ، وحكمت الأسرة في العراق الى (14 تموز 1958 ) كما هو معلوم ،  وللملك فيصل تاريخ حافل في السياسة على المستوى العربي والوطني ،  كان الرجل نابغة من نوابغ دهره ، غاية اللطف في معاشرته  ،  داهية في حكمه ، عفيفا لم يطمع بمال  ،  ولم يؤثل ثرؤة , تزوج في اسطنبول سنة 1905 من ابنة عمه الشريفة حزيمة بنت الشريف ناصر بن علي توفيت في بغداد سنة 1935, انجبت له الملك غازي  ،  والحقيقة أنّ بؤس الرصافي وقنوطه لم يُحدثا في عهد الملك  فيصل الأول ولا حتى في عهد نجله الغازي.
 (2) الملك غازي ولد في مكة المكرمة بتاريخ 21 أذار 1912 من أبويه السالفي الذكر ، عاش في كنف جده الشريف حسين وجيء به إلى بغداد في 5 تشرين الاول 1924 , ونودي به وليا للعهد ’ كمل دراسته في كلية هارو بلندن ,ودخل الكلية العسكرية ببغداد وتخرج منها حزيران سنة 1932 ,واقترن بابنة عمه الأميرة عالية بنت الملك علي في كانون الثاني 1934, ووضعت له ابنه الملك فيصل الثاني في 3 أيار 1935 , كان الملك غازي شاباًمتحمسا نزقا ً, طيب القلب والعاطفة ,غير متمرس في السياسة  , لم يطل عهده ,إذ قضى أجله في حادث اصطدام سيارته بأحد شوارع بغداد في 4 نيسان 1939م, وقيل في مصرعه الأقاويل ,    مدحه الجواهري ونعاه , ورثاه أيضا عبد الحسين الأزري وغيرهما من الشعراء والكتاب

انتصارات جبهوية: او فرحة الخائبين/ نبيل عودة

قرأت بيان مركز الجبهة في بلدية الناصرة السيد شريف زعبي حول تغريم المحكمة بلدية الناصرة ب 7 الاف شيكل، اي تغريم كل مواطن في الناصرة بجزء من هذا المبلغ.
وهذه ليست المرة الأولى ، وربما لن تكون الأخيرة. لهجة البيان تذكرني بفرحة انسان خائب ، خسر عالمه ولم يتبق له الا الانتقام ولو من جميع مواطني بلده.
ما اريد ان اهمس به لشريف الزعبي ان يتأكد من جديد من موضع مركزية الشمس او مركزية الأرض، من الذي يدور حول الآخر؟ الشمس حول الأرض ام الأرض حول الشمس؟ وقارن ذلك بواقع الحال في بلدية الناصرة، من الشمس ومن الكوكب ومن يدور حول الآخر ؟
كان والدي، رحمه الله، يقول بسخرية:" ما أكثر الجنرالات عند العرب.. كلما ازداد عددهم ازداد ضياعنا، كثرة بياناتهم العسكرية توهم السامع أنهم مشغولون بالحروب ضد أعداء الوطن، يبدو أن المواطن صار يفهم تكتيكات الحرب أفضل من أكبر جنرال"، اليوم عندما استعيد أقواله وأستعرض تصرفات الجبهة وجنرالاتها السياسيين والبلديين في  شتى الميادين، خاصة في عاصمة الجماهير العربية ، مدينة الناصرة، أعرف تماما ما كان يقصده والدي!!
كم كنت اتمنى لو اعادت الجبهة وحزبها الشيوعي التفكير بما اوصلهم الى خسارة كل مواقعهم تقريبا في السلطات المحلية، وان يستنتجوا النتائج الضرورية، ان يعرفوا حجمهم وضرورة عقلنة تصرفاتهم وبياناتهم، والنزول عن جحش توزيع التهم لكل من لا يروق لهم او ينتقدهم، ربما كانوا كسبوا بعض الاحترام وبعض الشفقة من الجمهور الذي ملهم ومل شعاراتهم وانتصاراتهم التي تشبه انتصارات دون كيخوت مصارع طواحين الهواء.
المحكمة غرمت مدينة الناصرة ومواطنيها، هل هذا فخر لكم؟ ما حدث في الناصرة كان عاصفة اطاحت بفكركم وعقلياتكم التي أصبحت بضاعة قديمة فاسدة لا تصلح للتسويق.
قال لي والدي وأنا في بداية طريقي السياسية ان الانقلابات لم تجلب للعرب إلا رؤساء مؤبدين في الرئاسة، زادوا فقر الشعب وطوروا بجدارة أجهزة الأمن والقمع.. وحذرني لا تتفاءل كثيرا بالقيادات الشيوعية لحزبنا او لأي حزب آخر.. اليوم نستقبلهم برحابة صدر ، غدا سيجدون من هو افضل منا بالنسبة لهم وسيعطونك ظهورهم. للأسف لم افهم هذه المعادلة الا على جلدي.
نصيحتي يا استاذ شريف زعبي الذي احترمه وأحترم غيرته على مدينته، لكني على ثقة انك تدفع  او ستدفع ثمنا صعبا سبقناك الى دفعه.. انت الآن في جسم سياسي بدأ يتفكك منذ سنوات التسعين من القرن الماضي.. جسم يديره قادة لم ينجزوا الا الفشل.. جسم خسر كل مواقعه تقريبا في السلطات المحلية. لماذا لم ينزعجوا مع خسارة اول موقع؟ كيف نفهم جسما سياسيا فقد حسه الاجتماعي بين رفاقه داخل التنظيم؟ هل تعرف ما اعني؟ كيف يمكن ان نفهم ان قائد سياسي يعيش بعشرات الاف الشواقل بين دخل شهري وخدمات متنوعة يحصل عليها مجانا كعضو كنيست، طبعا بدون صندوك التقاعد وغيرها من الهبات الضخمة، وموظف حزب يقوم بعمل اسود لا يتجاوز دخله ال 5 الاف شاقل ، هل هذه هي ماركسيتكم وشيوعيتكم وعدالة تفكيركم ونضالكم من اجل المساواة؟
اذا كان هذا الواقع السائد داخل التنظيم، هل من غبي يظن انه تبقى من فكره الشيوعي، الاشتراكية، المساواة  والعدالة الاجتماعية أي نقطة بيضاء تستحق الرعاية؟
ستدفع بلدية الناصرة الغرامة، لكنه ليس انتصارا الا لخائب الرجا.. وسيعوم قليلي العقل على شبر من الماء.. وقد يصفق  المتزعمين في الحزب بظن انم انجزوا مكسبا سيعيد لهم مجدهم في الناصرة اولا والوسط العربي ثانيا. لا يا شاطرين، هذه التصرفات تعني انه حان الوقت لاسقاطكم نهائيا من الكنيست أيضا ومن مجتمعنا ثانيا. لا تنسوا ان علي سلام حرك الاف المصوتين لدعمكم. لو كنتم عاقلون لوجدتم الطريق الى التعاون من اجل الناصرة. علي سلام ليس نبتة غريبة في بلدية الناصرة، علي سلام اشغل منصب نائب رئيس وقائم باعمال الرئيس كاحد اعضاء الكتلة الجبهوية. تصرفاتكم وتآمركم عليه وعلى اقرب مؤيديكم دفعته ودفعت سكان الناصرة لسحب الثقة منكم.
 هل المشاريع التي يواصل علي سلام تنفيذها تشكل تجاوزا يستحق عليها التهجم والذهاب الى المحاكم؟ انتم اخترتم طريقا غبية، طريق التخريب وليس البناء، طريق وضع العراقيل وايجاد الحجج الواهية لتسجلوا انتصارات لا تليق الا بالخائبين.
كل التبريرات التي ساقها بيان شريف الزعبي لا تبرر هذا العداء، لا تبرر النظر لبلدية الناصرة ورئيسها كأنهم اعداء. المنافسة على تقديم الخدمات ليست عداء. ان من يحرككم كالدمي سيقودكم الى مآزق شخصية.. اجعلوا وعيكم معيارا  لمواقفكم قبل فوات الأوان!!
تذكروا ما اقوله لكم..انا السابق وانتم اللاحقون. والثمن سيكون قاسيا..وانا جربت طريقكم من قبلكم!!
راجعوا كتابات شيوعيين قدموا اجمل سنوات عمرهم للحزب ، فلم يحظوا الا بتهم غبية وعداء بهيمي. الحمدلله انكم لستم سلطة ، والا كان مصيرنا النفي الى "الغولاغ" في سيبيريا لعشرين سنة على الأقل. 
يخافون ان ينجز علي سلام الجامعة في الناصرة التي اشبعونا ثرثرة حولها. يخافون ان ينجز علي سلام مبنى الثقافة الذي لم يحركوا ساكنا للبدء فيها قبل 40 سنة. لا يريدون ان يروا علي سلام ينجز مبني البلدية الجديد والحضاري الذي كان يجب ان ينجز قبل ثلاثين سنة على الأقل. نعرف ان هناك مشاكل في الحصول على الميزانيات، لكنكم لم تحركوا ساكنا . من لا يتحرك ويصر على تنفيذ المشاريع الحيوية لا يستطيع توفير الميزانيات الضرورية. ما الذي أشغلكم؟ رأب تصدع حزبكم الشيوعي؟ فشل اعلامكم الحزبي؟ عبادة قيادات لدرجة رؤيتهم أشباه آلهة ؟انتم كنتم جهازا للشعارات وترويج اتهامات لكل من ينتقدكم  وقد مللنا شعاراتكم واتهاماتكم ومروجيها.
 انا على ثقة ان الزوابع التي تثيرها الجبهة هدفها افشال نشاط البلدية التطويري، لا يريدون ان يروا الناصرة ترقى بسلم التطور برئاسة علي سلام . واسمحوا لي بأن أختتم مقالي بتصريح علي سلام في رده على بيان الزعبي:" "اهم مشروع قمت به لاهل الناصرة والوسط العربي اسقطت الجبهة والحزب الشيوعي"".

رواية راكوشا لنهى محمود: حكاية حب ما بين الطيف والحلم/ عبد القادر كعبان

إن المبدعة نهى محمود وهي تبحث عن أفق جديد في كتابة الرواية، عادت إلى حكايا شهرزاد في ألف ليلة وليلة لتجعلها تكنيكا في سرد روايتها القصيرة "راكوشا" (2009)، وهي حكاية حب ما بين الطيف والحلم، تدور في فلكها جملة من الشخصيات التي لا تحمل أسماء من باب التجريب، على غرار ما هو متداول في الأعمال الروائية بشكل عام.
إذا ولينا وجوهنا شطر رواية "راكوشا" سنجدها تحكي لنا عن قصة بطلين وهما فتاة الورد والولد الحزين، حيث يقوم كلاهما بالبوح للآخر عن الألم والوجع منذ الصفحات الأولى، كما جاء ذلك على لسان السارد: "في الأيام التالية فتحت للولد الحزين قلبها لأنه حزين مثلها. هكذا يبدو الأمر محتملا عندما نتقاسم الحزن فيتفتت. الولد الحزين يقتسم معها الأشياء قسمة غير عادلة.. يمتص حزنها وأرقها ومخاوفها ويمرر لها بعضا من قلقه وتساؤلاته." (ص 14).
سيقف القارئ منذ الوهلة الأولى على دور الكاتبة في استخدام فن الحكي ببراعة، فيتعرف على تلك الشخصيات التي قد يقابلها في يومياته كحكاية الولد الذي يأكل العدس على الرصيف والذي تحمله أمواج الجرأة ليسأل فتاة الورد عن سر علاقتها بالولد الحزين: "يسألها إن كانت تحب الولد الحزين.. تستغرب جرأته وتعاتبه أن يظن ذلك.. تؤكد له أنها ترهب الحب وأنها لن تقع فيه أبدا. يقول لها إنها لو أحبت الولد الحزين ستكون محظوظة.." (ص 16).
تحدثنا الكاتبة أيضا عن حكاية طفلة صغيرة تشبه بطلتها - فتاة الورد- وكيف تصبح صديقتها، وهي ابنة فتاة الشيشة والولد العصبي الذي فارق الحياة في المستشفى، أين تبوح لنا بتلك النقاط المشتركة بينهما كما في هذا المقطع: "تلعبان معا بالحمار الأزرق الصغير الذي يخص الفتاة التي تحب الورد. تقلد الطفلة صديقتها التي تحب الورد في كل شيء، وتفاجأ فتاة الورد أنها هي الأخرى تتصرف كالطفلة وأن لها نفس انفعالاتها.." (ص 19).
تستحضر البطلة صورا من الماضي الذي يعود إلى عالم الطفولة الجميلة والبريئة، وكأنها تبحث عن الخلاص من صمتها الحزين، أين تتذكر تلك العلاقة الوطيدة بالحب التي جمعت بين والديها، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "تراقب علاقة أبويها منذ الصغر.. يعامل هو أمها على أنها ملكة في البيت الصغير الدافئ. يتأزم الأب إذا ما أرهقت الأم نفسها في أعمال البيت. يساعدها في المطبخ ويدللها ويراقصها وتحكي له كل ليلة كل ما قرأت وشاهدت وهو يسمع. يحكي لها هو كل ما واجه في يومه وعن كل من قابل من بشر. يقتسمان النكات والأسرار والحكايا." (ص 20).
ما نلاحظه هو أن الكاتبة تسافر عبر حكايا بطلتها لتضيء فوانيس الحب الذي يظل يلاحقه الحزن، غير أن هذا النص يتلاحم مع الحلم الذي يراود بدوره فتاة الورد، وهذا ما غذى عملية السرد بديمومة حركته وتحوله: "تفكر كثيرا في الولد الحزين. تفكر أن تصنع بينهما عالما افتراضيا أكثر بهجة. تشتري فنجانين من القهوة تتقاسم معه القهوة في الصباح في شرفة حجرتها، رغم عدم حضوره للمشهد. تتركه يصفف لها شعرها الغجري المتكسر... تتشاجر معه لأنه يعتبر الوزة كائنا لطيفا.. تصر أن البطة هي الكائن اللطيف. يهمس لها بأن البطة تأكل الذباب.. تغضب منه.. تكذبه تماما وتصر أن الوزة هي التي تفعل ذلك. لا يصلان لنهاية ولا لحل.. تقاطعه وتخبره أنها تحبه." (ص 26).
تدخل نهى محمود ببطلتها إلى عالم الأنثى وخباياه، حيث تجعل الجسد موقعا للتأسيس الذي يمثل نواته الحكائية والدلالية، كما جاء ذلك في المقطع السردي الآتي: "لم يعد هناك من يصنع لها قطع السكر تلك. تستخدم صديقاتها ماكينة الكهرباء.. سريعة، نظيفة وآمنة. عندها فوبيا من استخدام الكهرباء. لا تتخيل نفسها تضع آلة على جسدها وطرفها الآخر 'فيشة' توصل الكهرباء. ترفض تماما ذلك الاختراع. تحب قطع السكر. تشتريها الآن من الصيدليات.. علبة بلاستيكية حمراء برائحة ماء الورد –النوع الذي تفضله. هكذا يمكنها أن تسحب منه قطعه في ليالي الصيف الحارة الهادئة.." (ص 30).
تبقى حكاية فتاة الورد المغرمة بالحب، في هذه الرواية، هي القابضة على خيال المتلقي وفكره، وتبقى اللغة التي تعمل على تفجير الحلم هي السائدة، كما هو شأن تلك الكاميرا التي اشترتها بطلة الكاتبة المولعة بالتصوير سعيا منها في التقاط صور مع الفتى الحزين: "يختار أيام الإجازات للتسكع في الشوارع والتقاط الصور الولد يطبق على أناملها وهو يعبر بهم الأرصفة والطرق. يشتري لها قطع الحلوى بنكهة الفراولة.." (ص 45).
تستوقفنا الأحلام التي تراها فتاة الورد في منامها، والتي تتمثل في صورة لذاتها وصورة للآخر، كما هو شأن ما جمع بينها وبين عجوز المقهى، وكأننا أمام رسالة مشفرة تستدعي التأويل: "من وقت لآخر كان عجوز المقهى يزور البنت التي تحب الورد في منامها. تراه يرتدي ملابس رواد فضاء يحمل سلة فضية يوزع منها فطائر المخبز ويبتسم." (ص 32).
تضيء عملية السرد أبعادا رمزية حيث تعكس تلك العلاقة الحالمة بين ال "هي" –فتاة الورد- وال "هو" –الفتى الحزين- لكن سرعان ما تنجلي بمحاولة البطلة التخلص من تلك المشاعر حيث تستعين بجلسة الزار: "يرتج جسد سيدة الزار وهي توزع البخور في مخبرتها.. تقف أمام فتاة الورد وتنفخ في المخبرة تستنشق الفتاة بخورها. صوت السيدة السمراء التي تحتفي ببنات الحبشة في أغانيها يرج المكان 'حي، صلي على النبي، يا حزينة القلب.. يا مجروحة الروح.. صلي على النبي." (ص 54).
تكسر المبدعة نهى محمود نمطية الخطاب السردي، أين تعتمد على المجاز لسرد حكاية البطلة التي أشارت إليها من خلال قصة راكوشا التي يعلن عنها عنوان هذه الرواية بشكل غير مباشر، ليكون لهذا العمل الأدبي بعده المغاير ونكهته المميزة، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "هكذا تقول الحكاية إن ورابية فتى بقلب يحمل الحزن دون الحب وإن راكوشا فتاة رقيقة تنتظر الحب. تنادي هي ومن معها في القبيلة كل ليلة 14 يوما حتى اكتمال القمر. ينادون الفتى 'ورابيه'. يجملون راكوشا وينتظرون. يطلقون البخور والغناء والنداء.. 'آه يا ورابيه يا اسمر يا جميل  تعالى نلعب مع العروسة." (ص 55).
وعلى الرغم من ذلك، تفشل فتاة الورد في كل محاولاتها لنسيان الولد الحزين، حيث ظلت تقابله وتحبه حتى أنها أصبحت تقاسمه ذكرياتها، كما يقول السارد: "البنت تحكي له عن مدرستها الثانوية.. وعن المكان الذي شجت فيه دماغ ذلك الولد الذي عاكسها ومشى خلفها شارعين كاملين حتى اضطرت لالتقاط طوبة من الأرض ورميه بها." (ص 68). 
على العموم، هناك تزاوج بين العالم الخارجي والعالم الداخلي في حكايا بطلة "راكوشا"، وهو الذي يخلق عالما حميميا مع المتلقي ليرتبط بنفسية فتاة الورد، والتي نجدها ساردة وفاعلة على حد سواء في أحداث هذا العمل الروائي.
في الختام، يظل الحب هاجس بطلة المبدعة نهى محمود ومرجع حكاياتها، التي تحمل بين ثناياها العديد من المعاني والرموز، قد تعيد إلى أذهاننا  أسلوب الأديبة إيزابيل الليندي في سرد حكايات "إيفا لونا" بشكل غير مباشر، ربما لأن كاتبة "راكوشا" قد تأثرت كغيرها بأعمال هذه الساحرة التشيلية التي لا تغيب. 

المصدر
(1) نهى محمود: راكوشا، دار ميريت، القاهرة،2009.
*كاتب وناقد جزائري

وورلد فيجين مسمار العدو الجديد/ د. مصطفى يوسف اللداوي

استغلت دوائر الكيان الصهيوني المختلفة، السياسية والأمنية والإعلامية، قضية اعتقال الفلسطيني محمد الحلبي، العامل في منظمة وورلد فيجين المسيحية الأمريكية، أسوأ استغلال وأبشع توظيف، وقامت بأوسع وأسرع عملية تسريب معلومات عن القضية التي لم تنته فصولها بعد، لتصدم العالم الغربي المسيحي بها، الذي يتبناها ويرعاها، ويمولها ويشغلها، لتشعره بتأنيب الضمير، وخطأ تعاونه مع الفلسطينيين، ولتخوفه على أمواله التي يقدمها ويتبرع بها، وليخبرها أنها لا تصل إلى مستحقيها ولا تستخدم في أماكنها الصحيحة، وأنها تتعرض لعملية خداع وتضليل من بعض العاملين فيها، الذين يستغلون قدراتها المالية واسمها الدولي وبعدها المسيحي في نقل أموالٍ إلى المقاومة الفلسطينية، وتحديداً إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي توظفها في تمويل العمليات العسكرية التي تنفذ ضدهم.

تولت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى جانب المخابرات ووسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة كبر الحملة الدبلوماسية القذرة، وحمل ملفها مديرها العام دوري غولد، مستشار وزير الخارجية رئيس الحكومة الإسرائيلية، المعروف بمكره ودهائه، وخبرته وتجربته في التحريض والتأليب وإثارة الشبهات وتحريك الظنون، والمفوض في إدارة العديد من الملفات الدولية والإقليمية، فذهب بعيداً في حملته ضد الفلسطينيين عموماً وضد حركة حماس على وجه الخصوص، وكلف العاملين في سفارات كيانه في مختلف أنحاء العالم الغربي والمسيحي، ببيان ما تقوم به منظمة وورلد فيجن التي يمولها المسيحيون، ويعمل فيها أكثر من أربعين ألف موظف على مدى العالم كله، وكان غولد قد حصل على موافقة نتنياهو لتسعير الحملة، وتوسيع نطاقها، والمضي بها إلى أبعد حدٍ ممكن.

ورغم أن عائلة المعتقل محمد الحلبي قد نفت جميع التهم التي وجهتها المخابرات الإسرائيلية لابنها، وأكدت أنها تلفيقات وافتراءات من الشاباك الإسرائيلي، وأنها تريد بها التضييق على الفلسطينيين عموماً، وعلى سكان قطاع غزة على وجهه التحديد، وأكدت العائلة في معرض نفيها للتهم الموجهة وتشكيكها بها، أن ابنها يهتم بالشؤون الإنسانية لشعبه الفلسطيني من خلال المؤسسة التي يعمل بها، التي تعنى بالمشاريع الفلسطينية، وتهتم بتمويل بعضها، وتؤازر العائلات الفلسطينية وتقدم العون للمحتاجين والمرضى منهم، وهو لذلك يحترم قوانينها ويلتزم بنظمها ولا يخالفها، ولا يقبل بإحراجها أو الإساءة إليها، رغم أن مساندة الشعب الفلسطيني ونصرته ليست جريمة يعاقب عليها القانون، ولا عيباً يتهرب منه الإنسان ويتوارى بسببه خوفاً وحياءً.

أما محامي محمد الحلبي فقد أنكر الاتهامات التي أوردتها المخابرات الإسرائيلية، وأكد أن موكله لم يدلِ بها، رغم أنه يتعرض لتعذيبٍ شديدٍ وضغوطٍ قاسية، إذ اعتادت المخابرات الإسرائيلية على استخدام وسائل غير مشروعة في الحصول على اعترافات المعتقلين، ولهذا فقد طالب بأن يزور موكله وأن يجتمع به على انفراد، كما طالب بالاطلاع على أوراق القضية وأدلة الاتهام واعترافات موكله إن وجدت.

لكن السلطات الإسرائيلية تريد بما أشاعت أن تبرر الاعتقال، وأن تضيق على الفلسطينيين عموماً، وأن تضرب الثقة بينهم وبين الدول الغربية التي تدعمه وتساندها، وما يعنيها كثيراً هو ردود الفعل الأولية، وقد لا تكون مهتمة بعد ذلك بالأمر إن تراجعت عن الاتهامات، وتبين أنها كانت تكذب وتفتري، لأن تداعيات الحدث تكون قد أخذت مجراها وآتت نتائجها المرجوة.

كما أنها تريد أن تبرر للرأي العام الغربي والدولي ممارساتها القمعية والعنصرية المهينة التي تمارسها ضد المواطنين الفلسطينيين الذين يتنقلون عبر معبر إيريز، حيث يتعرضون خلال انتقالهم لأعمال تفتيش مهينة، وتحقيقٍ شديد، وتعذيبٍ مذل، ومساوماتٍ غير أخلاقية، بادعاء أن من بينهم مشاركين بأعمال عدائية، ومتورطين في عمليات تمويلٍ وتخطيطٍ وتوجيه، وأنهم يستغلون التسهيلات الممنوحة لهم للقيام بأعمالٍ غير مشروعة.

استمرت الحملة الإسرائيلية المحمومة لتشوية صورة المنظمة، رغم إعلان مجلس إدارتها الصريح بأنه لا علاقة لمندوبها بحركة حماس، وأن عملها في قطاع غزة لا يتجاوز الحاجات الإنسانية للسكان، وأنها ومندوبيها لا يتعاطون السياسة، ولا يبنون مواقفهم أو يوظفون مساعداتهم بناءً على الميول السياسية للسكان، ولا يتعاملون مع التنظيمات والفصائل الفلسطينية المختلفة، ولهذا طالب المسؤولون عنها السلطات الإسرائيلية بتقديم أدلتهم وبيان ما يثب ادعاءاتهم قبل توجيه التهمة إليهم وإلى مندوبيهم، وكانت حركة حماس قد أعلنت من قبل أنه لا علاقة لها بمحمد الحلبي، ولم يسبق له أن تعامل معها بالمال، واتهمت المخابرات الإسرائيلية بتشويه الحائق وتزوير الوقائع خدمةً لأهدافها ومصالحها.

للأسف فقد صدقت بعض الحكومات الغربية المزاعم والأباطيل الإسرائيلية، وجمدت على الفور تعاملها مع منظمة وورلد فيجن، وأوقفت دعمها المالي المقدم لها بغية مساعدة الشعب الفلسطيني، وطالبت الحكومة الإسرائيلية بمزيدٍ من التوضحيات والمعلومات حول القضية، في حين أجلت بعض الدول قرارها في انتظار المزيد من المعلومات، ولكن الجهود الإسرائيلية لن تكتفي بتجميد دولةٍ أو دولتين مساهمتهما في هذه المنظمة، بل ستواصل سعيها ليكون القرار الأمريكي والغربي شاملاً، وهو ما بدأت ثماره تظهر في استراليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

تندرج هذه القضية التي أثارتها المخابرات الإسرائيلية ضمن الحرب الدولية التي يشنها العدو بالتعاون مع الإدارة الأمريكية، بقصد تجفيف المنابع المالية لحركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، وهي حربٌ قديمةٌ بدأتها منذ سنوات، وجندت فيها بنوكاً كبرى، وبيوت مالٍ دولية، ورجال أعمالٍ كبار، وجعلت منهم حراساً وجنوداً لها، يضيقون على الشعب الفلسطيني ويحرمونه، وكان بعضهم قد التزم بالدور المنوط به اقتناعاً، بينما خضع آخرون للسياسة الأمريكية خوفاً من العقوبات الاقتصادية التي قد تفرض عليها، أو هروباً من المقاطعة التي قد تجمد أنشطتها المالية، خاصةً أن الإدارة الأمريكية تتابع عبر بنوكها الكبرى حركة رأس المال في المنطقة العربية، وتتابع التحويلات المالية، وتراقب المصارف ومكاتب الصيرفة والتحويل وغيرها من بيوت المال، وتصدر تقاريرها الدورية التي تخيف البنوك وتقلق الدول.

يحق للاجئ الفلسطيني في لبنان أن يورِّث ما يملك/ علي هويدي

عدَّل مجلس النواب اللبناني قانون إكتساب غير اللبنانيين الحقوق العينية العقارية للعام 1969، وجاء في التعديل الذي صدر بتاريخ 3/4/2001 ويحمل الرقم 296 بأن "لا يجوز تملك أي حق عيني من أي نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها أو لأي شخص إذا كان التملك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين"، وقد فُسر التعديل على أنه يمنع بشكل خاص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من إكتساب الحقوق العينية العقارية بما فيها الحق في الإرث.

يُعتبر القانون المعدَّل مُبهماً كما وصفته سارة غانم المسؤولة القانونية في المجلس النرويجي للاجئين، جاء وصف غانم خلال حلقة النقاش التي عقدها برنامج تقديم المعلومات والإستشارات والمساعدة القانونية التابع للمجلس بتاريخ الأربعاء 3/8/2016 في لبنان تحت عنوان "مفاهيم السكن، الأرض والملكية، قانون الـ 2001 المعدل والحالات الإختبارية للاجئين الفلسطينيين الذين تمكنوا من تسجيل إرثهم العقاري في لبنان"، إذ يعيش اللاجئون الفلسطينيون حالة من الخوف والقلق على عقاراتهم التي تملكوها قبل تعديل القانون، وكيفية إنتقالها بعد وفاتهم لذلك يبادر الكثير من أصحاب العقارات المملوكة، إما إلى تسجيلها بأسماء أشخاص لبنانيين أو أجانب يحملون جنسيات أخرى مع عدم ضمانات الإلتزام في المستقبل، وحصلت كثير من الحالات التي تنكرت لأصحاب المنزل أو العقار والكثير من المشاكل المرافقة، أو يلجأ الفلسطيني إلى بيع أملاكه قبل الوفاة كخيار آخر ولو بأبخس الأثمان لضمان عدم مصادرتها أو فقدانها في متاهات المراجعات القانونية، والإستفادة من المبالغ النقدية، خاصة أن ما يشاع في أوساط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بأن "لا يحق لأقارب المتوفي أو المتوفية من الفلسطينيين سواء كانوا زوجات أو أزواج أو أبناء أو بنات أو أقارب.. أن يرثوا العقارات بعد الوفاة، إنما الأملاك تنتقل إلى دار الفتوى، وحتى الكثيرون لا يعرفون مصيرها بعد الوفاة..".

أكد حالة عدم وضوح القانون، ما ذكرته غانم عن زيارة قام فيها المجلس النرويجي للاجئين إلى لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني كشفت فيها لجنة الحوار عن مراسلات جرت بينها وبين أمانة سر السجل العقاري في لبنان تفيد بأن "لا يوجد أي مشكلة من إنتقال الإرث للاجئ الفلسطيني بعد دفع الضريبة المستحقة"، ولمتابعة هذا الموضوع بشكل عملي  تابع "المجلس" حالة إختبارية للاجئ فلسطيني أسماه (X)، والده فلسطيني ووالدته لبنانية متوفية، بحيث جرى متابعة الموضوع خلال سنة كاملة بدأت مع توكيل السيد (X) لمحامٍ من المجلس النرويجي وتقديم الطلب إلى وزارة المالية والذي يجب أن يكون خلال 90 يوم من تاريخ الوفاة، وإلا على الورثة دفع غرامة مالية، ومن ثم إلى المحكمة الشرعية كون السيد (X) مسلماً سنياً، وبعدها مجدداً إلى وزارة المالية، فتعيين مُثمِّن للعقار، ثم وزارة المالية من جديد، فكاتب العدل، فالسجل العقاري، فاصدار صك الملكية بتاريخ 13/2/2015.

هذه الخطوة الإختبارية عدا عن أنها ضحضت ما يشاع، من المفترض أن تشكل حافزاً لعدم خوف أو قلق اللاجئين الفلسطينيين بعد الآن على مصير الأملاك بعد الوفاة، والمبادرة الى إجراء المعاملات لإنتقال الإرث، نأمل في المستقبل أن يكون هناك ثغرات أخرى في القانون المبهم يمكن الولوج منها للحصول على المزيد من الحقوق الإنسانية للاجئين، وربما هناك قوانين هي الأخرى فيها حالة من عدم الوضوح والبحث فيها على المستوى القانوني والخبراء، ربما نجد فيها ما فيه فائدة للبنانيين والفلسطينيين على حد سواء.

ذكرياتي مع المرحوم اللواء مصطفى النويهي/ أنطوني ولسن

    هذا المقال، نُشر لي في جريدة "الهيرالد" ـ رسالة لبنان والشرق الأوسط ـ، بتاريخ 28/5/1999.

   ولأنه يحمل ذكرياتي، كمصري، عن رجل عظيم، عاصرته، وتعاملت معه،  وعن قدرته العسكرية في الضبط والربط؛ رأيت أن أنقله لكم؛ للمقارنة بين ذلك الزمان ، في الستينات من القرن الماضي، وما يحدث الآن على أرض مصر!

    اللواء مصطفي النويهي، رحمه الله، يعتبر أقوى شخصية عسكرية عرفتها وزارة الداخلية المصرية في ذلك الوقت. يهابه كل عسكري من الجندي الى أعلى رتبة عسكرية بالوزارة. رجل ضبط وربط وانضباط، ولا يقبل أبداً الخلط بين الحياة المدنية، والحياة العسكرية!

    دار لغط كثير في دهاليز المصلحة (مصلحة الأحوال المدنية)، وطرقاتها، عن خبر تعيين اللواء مصطفي النويهي مديراً عاماً للمصلحة!

   تلقت الأذن الخبر في دهشة واستغراب؛ لأن المدير الحالي لا يمكن (زحزحته) من مكانه وان لم يرقَ الى منصب المدير، الا أنه له صلاحيات المدير العام كاملة متكاملة!

   لم يكْذُب الخبر، وحضر اللواء النويهي، واستلم عمله مديراً عاماً لمصلحة تحمل اسم الأحوال المدنية، ولكنها تتبع لوزارة الداخلية، والمسؤولون فيها من الضباط، ضباط الشرطة العسكريين التي أرادت الوزارة احالتهم على المعاش مبكراً؛ فأسندت اليهم العمل في المصلحة، سواء في المركز الرئيسي، أو أي فرع من فروعها المنتشرة في طول البلاد، وعرضها!

   تذمروا فيما بينهم، حتى أكثرهم عسكرية " العقيد فريد سلطان"، كان قد بدأ يستطعم الحياة المدنية، وان كان مازال مرتدياً الزي العسكري!

   جاء المدير الجديد؛ فانقلبت المصلحة رأساً على عقب. تكهرب الجو، واضطربت الأعصاب، وساد المكان جو من الرهبة. لا أكذب لو قلت من الرعب والخوف!

   في صباح أحد الأيام، نادى علي رئيسي (العقيد محمد نصار خليل)، وطلب مني أن أتوجه الى مكتب سيادة المدير؛ العام لأنه طلبني بالأسم!

   حدجته بعيني، متسائلاً عما يمكن ان يريدني فيه سيادته. هزَ كتفيه معبراً عن عدم معرفته. استأذنت منه، وتوجهت الى مكتب سيادة المدير العام!

   نقرت على الباب. سمعت صوت قوي يطلب مني الدخول. دخلت على الرجل، فاذ به يقف ماداً يده للمصافحة، مبتسما مرحباً. أسرعت الخطى، ووضعت يدي في يده مصافحاً ومرحباً به مديراً عاماً للمصلحة!

   عاد الرجل الى جلسته مستأذناً مني السماح له بدقائق قليلة؛ حتى ينهي العمل الذي بيده!

    أثناء ذلك، دخل أحد ضباط المصلحة القدامى، وأدى التحية العسكرية المضبوطة. رفع اللواء مصطفى النويهي يده محيياً رداً على تحية الضابط، لكنه لم يرفع عينيه عن الورق الذي أمامه. استمر الضابط في وقفته العسكرية مدة من الزمن قد تكون بضعة دقائق. لكن الضابط بدأ يتململ في وقفته واسترخى قليلاً، فرفع اللواء النويهي رأسه وتطلع اليه بعين غاضبة. فعاد الضابط المسكين الى وقفته العسكرية!

    كل هذا وأنا جالس على كرسي أمام مكتب سيادته، ضارباً أخماساً في أسداس عن عسى ما يريده مني سيادته!

    مرت الدقائق، وكأنها ساعات. أنهى سيادته ما كان من عمل، سلمه بعد ذلك للضابط، وأمره بالأنصراف، فانصرف بعد أن أدى التحية العسكرية. لم أرَ مثل هذا المشهد طوال وجودي بالمصلحة!

    المهم أن المدير العام تأسف على انتظاري طويلاً في مكتبه، وقال لي:

  سأدخل في الموضوع مباشرة. اني أبحث عن موظف كفء، ليتولى مهام سكرتيري الخاص. من دراستي لملفات الموظفين، اخترت أحد الموظفين من خريجي الجامعات، لكنه أعتذر. فوقع اختياري عليك أنت يا بطل.. فما رأيك؟

    كانت مفاجأة غير متوقعة اطلاقاً، كل ما سمح به خيالي من تصور هو أنه لربما يريد ارسالي الى مهمة خاصة؛ لأعادة ترتيب أو تنظيم أحد المكاتب في أي مكان في الجمهورية. أما أن أكون سكرتيره الخاص، فهذا أمر لم أكن أتوقع، أو أحلم به!

   وجاءت اجابتي، كالأتي:

   انه لشرف عظيم جداً يا أفندم أنا لا أستحقه، لكن اذا كان هذا هو اختياركم، فلي طلب بسيط، أرجو أن تفتح لي سيادتكم قلبكم للحديث عنه!

   ـ تفضل يا أبني.. تكلم!.

   ـ دعني أسأل سيادتكم! اذا تركتم هذا المكان الى مكان وعمل آخر في الوزارة.. هل سأكون مع سيادتكم؟

   ـ لا أظن! لكن ما الذي يجعلك تظن انني لن أبقى هنا؟

   ـ لأن رجل مثلكم لا مكان له هنا! مكانكم في منصب أدق وأكثر أهمية من هذا المكان. لذا لو سمحت لي أن أقول لسيادتكم أنني أرفض العمل مع من سيأتي من بعدكم، لأنني لن أكون سكرتيره الخاص في المصلحة فقط، وسيادتكم تعرفون وأنا لا أصلح لهذا!.

    ساد صمت قصير بيننا، قطعته قائلاً:

   ـ لكن يا أفندم عندي الموظف الذي سيبذل قصارى جهده للعمل مع سيادتكم، وأيضاً مع من سيأتي بعدكم! لو سمحتم لي أن أعود الى عملي وأرسله لكم!.

   أرسلت له أحد الموظفين الذين يعملون معي، بعد أن أخبرت رئيسي المباشر، بما دار بيننا دون التلميح بمسألة نقل سيادة المدير العام الى مكان أخر. وذلك لحكمة أرتأيتها لأن نظريتي بنيتها على أن هذا الجو العسكري البغيض على نفس كل من يعمل بالمصلحة، سيخلق حالة تذمر شديد بين الضباط زد على ذلك ان القائم بأعمال المدير العام لن يسكت عن هذا الأمر، مهما عينت الوزارة من مدراء.. فما بالنا بمدير مثل اللواء مصطفى النويهي!

  في أقل من مدة ستة أشهر مضت على ذلك اللقاء، كنت أسير ضمن طابور المودعين لسيادة المدير العام! وما أن وضعت يدي في يده مصافحاً، حتى شدَ على يدي مما حدا بي أن أضع كف يدي اليسرى فوق يده، مودعاً، مما لا حظه رئيسي المباشر الذي ما أن رآني حتى قال:

  ـ أف، الحمد لله، استرحنا منه.

  شيء آخر حدث، فقد منحتني المصلحة في ذلك العام وأثناء فترة وجوده (اللواء مصطفى النويهي)، مكافأة مالية على عملي. وكانت المكافأة المالية الوحيدة واليتيمة طيلة خدمتي، التي امتدت الى سبعة عشر عاماً!

الصَّيف هذا الثَّقيل الخطو/ فراس حج محمد

يحوِّلنا الصَّيف إلى كائناتٍ كسولةٍ، تعشق الفيسبوك والصُّوَر والفيديوهات، وتَجَرُّع الوقت بالنَّميمة والشَّتيمة والسُّباب العلنيّ المريض.
ومن كان جريئا ذا حظٍّ عظيم مثلي فإنَّ النَّوْم حليفه الإستراتيجيّ.
يحوِّلنا الصَّيف إلى كائنات عديمة الجدوى ليس لها فائدة سوى اختراع الفراغ وملئه بوجبات الطَّعام وممارسة الألعاب الإلكترونيّة، لنعيش طفولة غير بريئة مطلقا.
الصَّيف ثقيل الظِّلِّ لا دماء له، وليس فيه حرارة في عروق الكسالى، يجرجر ساعاته كعجوز هرم، لا يشبع من الشَّكوى والاستمتاع بالهباء.
الصَّيف محاولة في كل شيء سوى أن يكون وقتا جميلا. فلا يصلحُ للتَّنزِّه إلا لاصطياد الثَّعابين وسحق الحشرات. روحه مثقلة بالتّعب المشبع بالعرق وحبيبات الرَّمل وماؤه آسنة في الينابيع تجالد عن نفس شاربها ولا تروي.
الصَّيف قصيدة مُهَدَّمة وركن بيت تَكَسَّر تحت نعال الخطوات البطيئة في الطرقاتِ والشَّمس حارسة شرسة وقابلة للقتال في كل شعاع مرسل وعنيفْ.
الصَّيف مثل صالون التّجميل كلُّ ما فيه صناعيّ، الجمال صناعيٌّ، والرائحة القابعة في جسد النساء صناعية ترفيّة ثقيلة وطارئة تحاول قتل الملل، حتّى العاملات صناعيّات مصطنعات، ضحكاتهنّ مطرّزة على الوجوه تتبخّر مثل رائحة المُزيل.
الصَّيف حقيقة مجازية في اجتثاث الطبيعةِ. فصلُ الاكتئاب الحادّ. الصّيف هجاء العاشقين وموت الغزل الأنثويّ. الصَّيف ذاك الثّقيل الخطو كلّما حاولتُ إنشاء أغنيةٍ تلاشى لحنها مع طنين أجنحة الذُّباب. 

الفطري والمكتسب بين ديكارت وهيوم/ د زهير الخويلدي

استهلال :

" ثمة طبيعة أساسية وثمة عدة إكتسابات، تتداخل مع هذه الطبيعة، وتحاكيها دون أن تختلط بها "1[1]

يبدو في الظاهر أن الفطري هو ذلك الجانب البيولوجي/الغريزي الذي يولد مع الإنسان. أما المكتسب فيتمثل في جميع أشكال السلوكات الثقافية التي خلقها الإنسان من خلال تفاعله مع أمثاله. ولكن إذا كان إدغار موران E. Morin قد رأى أن الإنسان كائن بيولوجي كلية، وكائن ثقافي كلية ؛ فإن التصورين، البيولوجي الصرف والسوسيو- ثقافي، لا يشاطرانه الرأي. ولعل السبب الذي يكمن وراء ذلك أن الطرح البيولوجي يعتبر الإنسان كائنا بيولوجيا بالدرجة الأولى، لأن جميع مكوناته وتشكيلاته المستقبلية محددة بالوراثة. فالصبغيات والجينات تحمل جميع ما سيؤول إليه الإنسان في المستقبل.

 إذا كان منديل Mendel تحدد انتقال الخصائص الوراثية من جيل إلى آخر، فإن كثيرا من البيولوجيين يؤكدون تعميم ذلك على السلوكات النفسية. وبناء على ذلك تقلص النظرة البيولوجية من دور المحيط، حيث يرى أغست فايزمان A. Weismann أن المحيط يؤثر على الخلايا الجسمية soma ولا يمكن أن يؤثر، إلا باحتمال ضعيف جدا، على الخلايا الجنسية germen المسؤولة عن انتقال الخصائص الوراثية. أما النظرة السوسيوثقافية، فإنها تعتبر الإنسان منتوجا ثقافيا بالدرجة الأولى. فير ى دوركايم Durkheim أن الظواهر الإجتماعية بمثابة "أشياء"، فلا يمكن للإنسان أن يتجاهلها وإلا تعرض للقهر الذي يمكن أن تمارسه عليه. ومن ثمة فإن السلوكات السيكولوجية لايمكن أن تفسر بعوامل بيولوجية أو فطرية لأنها نتاج اجتماعي. هكذا يرى لوسيان مالصون L. Malson – من خلال أطروحته "الأطفال المتوحشون" – أن عزل الطفل البشري عن بني جنسه، سيجعل منه كائنا غريبا ؛ لأنه ليست هناك غريزة خاصة بالنوع البشري. فإنسانية الإنسان تتوقف على وجوده داخل محيط ثقافي. وفي هذا الإطار تطرح الإشكالية التالية : كيف كان الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الثقافة ؟ أو بتعبير آخر، كيف كان الإنسان قبل أن يعرف الحياة الاجتماعية؟ كما يمكن طرح السؤال التالي : ما الذي يلعب الدور الأساسي في شخصية الإنسان ؟ هل الفطري أم المكتسب؟

في الواقع يجب التمييز بين الطبيعة الخارجية وهي مجموع الموجودات والأشياء الماثلة في العالم خارج المنتجات المصنوعة من طرف البشر والطبيعة الداخلية وهي مجموع السمات والقوى التي جبل عليها الإنسان وتمثل الجانب الطبيعي البيولوجي وتتكون من رغبات وغرائز ودوافع وبواعث ومثيرات وأمزجة. لكن هل الجانب الطبيعي في الكائن البشري من الأمور الفطرية الموروثة أم من العادات المكتسبة؟ ما المقصود بالفطرة ؟ وهل تتعارض مع التجربة والتاريخ؟ وماذا يكتسب المرء في حياته؟ ثم كيف تشكلت النظرة الميكانيكية للطبيعة على أنقاض تحطيم فكرة الكوسموس ونهاية العالم المغلق؟

والحق أن"ما يطرح مشكلا في تعبير فطري ومكتسب ليس لا الفطري ولا المكتسب (إذ يمكن تحديدهما بسهولة)، بل هو حرف الواو الذي يرمز إلى نوع العلاقة بينهما. لكن هذا الحرف الذي هو بمثابة كمين سيدفعنا إلى الحذر تجاه عملية الجمع هذه، التي هي عملية ضرورية في الحياة اليومية."2[2]

-1- الآليات البيولوجية  مثل الذكاء وصنف الدم ولون البشرة ودائرة الرأس والمعلومات التي يحملها إلي الإرث التناسلي تمثل ماهو فطري في الإنسان. وبعبارة ديكارت الفطري هو النور الطبيعي للعقل.

-2-المواد المتوفرة من العلاقة بالمحيط والطاقة والحالة العاطفية تمثل ماهو مكتسب لدى الإنسان. وبعبارة دفيد هيوم المكتسب هي المعارف التي يحصل عليها المرء بحكم تكرار التجارب والعادة.

غير أن العلاقة بين الفطري والمكتسب متداخلة وناتجة عن العديد من العوامل المتفاعلة ومن الخطأ المنطقي دراستها عن طريق الفصل بينها واستبدال الواقع بالنماذج وبالتالي تقع في محظور نفي الطبيعة التي تزعم أنها تحاول دراستها. فماهي حصة كل من الفطري والمكتسب في الطبيعة؟ وكيف تتم معرفة الطبيعة ؟ هل بالاعتماد على العقل وما يتضمنه من أفكار أم بواسطة التجربة؟ وما الهدف من معرفتها؟

إذا كانت الفلسفة الإغريقية قد جعلت من الطبيعة معارا معرفيا فإن مفهوم الطبيعة مع ديكارت لم يحافظ على نفس المعنى بل ارتبط بتشكل العلوم الطبيعية وأعطيت للرياضيات والمنهج التجريبي  الشرعية المعرفية لدراسة الظواهر الفيزيائية وتكيس الملاحظات وبلورة الفروض واستنتاج القوانين.

بناء على ذلك تحولت فكرة الطبيعة في العلم الحديث إلى آلية تسمح للبشر بأن يحددوا موقعهم من الكون وصارت تتيح إمكانية تحويل المعطى غالى المبني والخام إلى المرسكل وبلوغ الحيواني فيه.لقد أصبح الإنسان في الحضارة الحديثة سيدا ومالكا للطبيعة3[3] وأصبغ عليها بعض الخصائص التي لا تنتمي إلى كائن طبيعي آخر سواه وهي كيفيات مرتبطة بتكوينه الفزيولوجي والنفسي ومقاصده، كما صار بإمكانه دراسة وقراءة الكتاب الكبير بواسطة استعمال لغة رياضية بدل الكتابة على نص مستقل.لقد حلت الفلسفة الطبيعية محل الفلسفة التأملية وشرعت في دراسة ظواهر الكون ومعرفة القوة والنار والهواء والأجرام وحركة الأجسام التي توجد في محيط الإنسان ويمكن أن يستعملها بصورة خاصة. فماهي رؤية الفلسفة الديكارتية للمعطيات الفطرية؟

1-    وجهة نظر ديكارت:

لقد بين ديكارت بأن الجسم آلة عضوية تتكون من عدة أجهزة وغدد وتحكمها قوانين دقيقة وكشف عن وجود طبائع ثابتة لا يمكن للشك أن ينكرها وحدد مفهوم الحقيقة بالانطلاق من النور الطبيعي للعقل.

يصرح ديكارت حول هذا الموضوع:" بالنسبة إليَّ، أميز بين نوعين من الغرائز: الأولى هي فينا من حيث نحن بشر وكائنات عقلية بشكل محض، وهي النور الطبيعي ...، أما الأخرى توجد فينا من حيث نحن حيوانات وتدل على الدافع الخصوصي في الطبيعة نحو المحافظة على الجسم الخاص بنا "4[4].

لقد ساهم ديكارت إلى جانب كل من غاليلي وكوبرنيك وكبلر ونيوتن في قيام علم الطبيعة في العصر الحديث وأوكل إلى هذا العلم مهمة دراسة الطبيعة بهدف معرفتها بشكل دقيق بواسطة الرياضيات والمنهج التجريبي و السيطرة على الظواهر والتحكم بها عن طريق التقنية والصناعة وتشييد طبيعة ثانية.

كما نصص ديكارت على أن الامتداد هو أساس الطبيعة المادية بينما الفكر هو أساس البعد الروحي وجعل من الميتافيزيقا أساس الفيزياء، ومن المعلوم أنه لم يثبت  أثناء رحلة الشك حتى التأمل الخامس سوى وجود الذات والإله، بل اكتفى بالتمييز بين النفس والجسد، أما في التأملات ( الخامس والسادس) فإنه قد انطلق إلى إثبات وجود العالم وحقيقة الأشياء.  ما تناوله ديكارت في هذا الشأن ليس وجود المادة في حد ذاتها أو الأجسام المادية أو العالم في كليته بل حقائق الحساب والهندسة، ويذهب إلى التمييز بين معرفة العالم باعتباره مادة ومكوناً من أشياء مادية، والمعرفة الرياضية، ويقر بأن المعرفة الرياضية تتمتع ببداهة وصدق داخلي، والضمان الوحيد لهذا الصدق الداخلي هو أن الإنسان قادر على الحكم في المسائل الرياضية بيقين، وهذه القدرة على الحكم الصحيح ليست زيفاً أو خداعاً، لأن الإله هو الذي يضمن وصول الإنسان إلى اليقين في الرياضيات طالما استخدم ملكة الحكم لديه على نحو صحيح. والحقائق الرياضية من حساب وهندسة يتوصل إليها العقل وحده دون الاعتماد على الحواس ودون العودة إلى التجربة. فكيف استخدم ديكارت الرياضيات من أجل قراءة كتاب الطبيعة المفتوح؟ وماهو المفتاح المعتمد في هذه القراءة؟

يبدو أن ديكارت كان يعتقد في وجود حقائق رياضية مستقلة عن العالم المادي، ويري بأن فهذه الحقائق موجودة فطريا وموضوعة على مستوى الفكر وليست في حاجة إلى العالم المادي كي تتحقق وما على العقل إلا اكتشافها بنفسه بدون الاستعانة بالإدراك الحسي ودون التثبت بالتجارب.

مقتضى القول أن الطبيعة حسب ديكارت هي مادة في الأساس وهي مختلفة من حيث الجوهر عن الرياضيات التي هي مفكر خالص وتتمتع بالصحة واليقين ويمكن الاستعانة بها لتفسير ظواهر الطبيعة دون الجزم بأنها التعبير الحقيقى عن جوهر الطبيعة وماهيتها، كما سيفعل من بعده سبينوزا ونيوتن.

أما عن طبيعة الأشياء المادية فإنه يميز فيها بين ما يدركه العقل من صفات الأولية للأشياء، مثل الامتداد والشكل والعدد،  وما تدركه  الحواس.من صفات ثانوية مثل اللون والطعم والرائحة والملمس. ويذهب ديكارت إلى أنه طالما يدرك العقل الصفات الأولية في الأشياء بوضوح وتميز فمعنى هذا أن هذه الصفات موجودة بالفعل في المادة وهي ما تشكل ماهيتها، أما الصفات الثانوية فليست في المادة نفسها بل هي ناتجة عن تأثر الحواس بالمادة، وآيته على ذلك تغير هذه الصفات الثانوية.

في هذا المنظور إن المادة في الأساس امتداد وعدد وشكل وحركة. هذه الصفات الأولية هي حقيقية لأن العقل هو الذي يدركها ويستقبلها وترد عليه دون أن يتأثر بها، أما الصفات الثانوية فلا تستقبلها الحواس من المادة بل تتأثر بها وحسب، والاستقبال يختلف عن التأثر إذ أن الاستقبال لشيء موجود بالفعل، في حين أن التأثر يعود إلى طريقة التركيب وطبيعة الحواس، وبالتالي فنحن لا نعرف من الأشياء على الحقيقة إلا ما نستقبله منها بوضوح وتميز وهو الامتداد والحركة والعدد، أما ما تتأثر به حواسنا فلسنا على يقين من أنه داخل في طبيعة المادة، بل هو صفات ثانوية فيها يمكن أن تتغير مع بقاء الصفات الأولية للمادة كما هي.

اللافت للنظر أن الذهن البشري حسب ديكارت يملك معانٍ وتصوّرات لم تنبثق عن الحسّ وإنّما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. إن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ الولادة، وبالتالي هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية وهذه التصوّرات الفطرية Innées عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة ) وما إليها من أفكار تتميّز بالوضوح الكامل في العقل البشري مثل الوجود والكمال والذات والجوهر والماهية والنظام والترتيب.

 علاوة على ذلك إن العقل ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون. زد على ذلك إن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي، والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.

لقد جعل ديكارت الطبيعة آلة كبيرة وجعل اللغة ميزة طبيعية لدى البشر يتفوق بها على الحيوان وتصور الحيوانات في شكل آلات5[5] تعمل أعضاؤها وفق قوانين وبرهن من خلال تجربة الشمعة على بقاء الجوهر الممتد بالرغم من ذهاب كيفياته الحسية6[6]  ووضع تنظيما جديدا للعالم ومنح الذات إمكانيات جديدة للهيمنة عليه وأسس عقلانية الفيزياء الرياضية على أنقاض فكرة العالم المغلق وعزز مكانة المادة في العلم.

علاوة على ذلك انطلق من فكرة دور النور الطبيعي في البرهنة على وجود الله في التأمل الثالث من أجل رسم الحدود بين الطبيعة والفكر وبين الفيزياء والميتافيزيقا وأقحم الواقع في السبب والأثر معا. ولا يمكن وضع المعارف التي يحصل عليها الذهن بواسطة النور الطبيعي موضع شك ، لكن هذا الإقرار يفضي إلى مشكل هو شكل العلاقة بين  النور الطبيعي ومعايير الحقيقة كالوضوح والتميز.  كما يفترض أن يكون هذا النور الطبيعي منغرسا في الأنفس البشرية بواسطة الله وبالتالي يصعب التمييز بين نظام الطبيعة والنظام الميتافيزيقي وبين الحقيقة الموضوعية واليقين المطلق  وبين الصرخة الطبيعية والكلام البشري7[7].

لكن تبقى الغاية التي جعلها ديكارت لهذه المعرفة  الطبيعية - وهي السيطرة على الطبيعة وتملكها8[8] – محل أخذ ورد لذلك تم انتقاد هذا الهدف من طرف"ميشيل سير" الذي تساءل : إذا كان الهدف من العلم الطبيعي هو التحكم في الطبيعة، فهل يمكن التحكم في تحكمنا ؟ بمعنى هل نستطيع السيطرة على العنف البشري الذي دمر الطبيعة بدعوى السيطرة عليها ؟ إنها فكرة خطيرة هيمنت على الحضارة الغربية منذ ديكارت أفضت إلى تكاثر التصنيع التقني وكانت لها أثار سلبية على الطبيعة وعلى الوجود البشري ذاته.

2-    وجهة نظر هيوم:

 من جهة مقابلة يتعامل هيوم مع كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة قيمية وأخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد، فهو يرى كما ذكرنا أن المعارف البشرية تنقسم إلى:
1 - فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي والإحيائي والرياضي .
2 - ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية ، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية . وكان في ذلك , منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته القيمية وما يتضمن من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم . لذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو ( محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية ) .
لم يكن هيوم هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي وذلك بتتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى و دراسة المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس ، وإدراك الأخلاق انطلاقاً من الأحاسيس والعواطف والانفعالات .
وكان البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية , فهو يرى أن علم النفس يجب أن يكون المنطلق . وأن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية , ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث. وكان هدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية مع نيوتن في مجال الموضوعات الأخلاقية، والهدف من تشريح الطبيعة الإنسانية هو الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة.

ينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً فقد نظر إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم الوظائف النفسية . فقد انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الأحاسيس والمشاعر والانفعالات، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق . ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس.
والمنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية , يصبح بحثاً عن الوظيفة ويمثل المنهج العلمي الذي يقوم بالدراسة العلمية للطبيعة البشرية وذلك برفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، ويترك البحث التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، وهو يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف.

" يجب علينا ممارسة تجاربنا في هذا العلم من الملاحظة الدقيقة والحذرة للحياة الإنسانية، وأخذها كما تظهر في العالم، عن طريق سلوك البشر في اجتماعهم وتسيير شؤونهم وفي مشاعرهم" .
ونظر هيوم لطبيعة المعرفة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار الناتج عن طريقة عمل عقلنا . يقول هيوم في ذلك:" هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي ".
على هذا الأساس ينطلق في بحثه في الطبيعة البشرية من أفكار أساسية ، وعن طريق ملاحظة سلوك البشر، ويرى أن هذه الأفكار تذهب إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني ، سواء كان معرفياً أو قيمياً أو أخلاقياً ، هو الإحساسات والعواطف والانفعالات أولاً , فعن طريق الإحساسات نتعرف على الوجود وتتكون لدينا أفكار عنه , فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأزرق نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم , وبالتالي نسعى للحصول على اللذة وتجنب الألم .
فالطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شيء ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر. والهدف الأساسي هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية وأهم توجهاتها التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي : الأحاسيس والعواطف والانفعالات، ولذلك يعلي من شأنها ويعطيها الأولوية على العقل ذاته، بل انه يجعل العقل نفسه خاضعاً لها : "العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يخدمها ويطيعها "9[9]
إذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الإحساس والعاطفة والانفعال لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فهو يرى إن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي ، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. لكنه يبقي للعقل دورا تنظيميا محدودا ويصر على أن العقل والمنطق ليس له دور كبير في حياة البشر وسلوكهم . كما أن دوره متواضع في مجال الاعتقاد ، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل دور كبير في الاعتقاد الذي يتبناه الإنسان . كما يطلق هيوم على موضوعات العقل إدراكات، ويقسمها إلى نوعين: الانطباعات والأفكار ، ويميز بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى. فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية نفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأل مرة في النفس. وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة. وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً ذهنية عن الادراكات الحسية. إنّ الفارق بين التصوّر والاعتقاد ليس في المحتوى، بل في طريقة إدراكه، وهكذا نعرف أنّ الوجود ليس صفة وليس له فكرة خاصّة به تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شيء معيّن نقول عنه: أنّه موجود.فالوجود ليس عنصراً من عناصر فكرتنا عن الأشياء.

لقد كان الهدف الأساسي الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة حسية انفعالية في الأساس , فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار10[10] . لكن هل يرتكز التصور الهيومي للطبيعة على الاعتقاد أم على العادة؟ وكيف أدى إنكاره للسببية في الطبيعة إلى القول بالاحتمال والاسمية؟
يقدم هيوم نظرية خاصة في الجوهر،  يرفض فيها أن يكون للجوهر وجود حقيقي في الأشياء ويذهب إلى أنه مجرد طريقتنا نحن في التفكير، وهو يختزل الجوهر إلى الانطباعات . وسبب حضور هذه الفكرة في أذهاننا ,هي عادة عقلية في جمع صفات جزئية وأفكار بسيطة ترتبط معاً بعلاقات تحدثها المخيلة، ويطلق عليها اسماً عاماً بهدف امكان التواصل مع الآخرين وإفهامهم ماذا نقصد. وبالتالي فالجوهر ليس سوى اسم كلي لمجموعة من الصفات والأفكار البسيطة. فالمعرفة عند هيوم هي إقامة علاقة بين الأفكار، سواء كانت هذه الأفكار ترجع مباشرة إلى انطباعات الحواس أو كانت ترجع إلى انطباعات التفكير.

إن كل العلاقات التي يمكن أن تظهر بين الأفكار تتمثل في سبعة: التطابق , والهوية , والعلاقات الزمانية والمكانية، والكم أو العدد، ودرجات الكيف، والتضاد، والسببية. ويقسم هيوم هذه العلاقات إلى نوعين: الأول يعتمد حصرياً على الأفكار التي تقارنها ببعضها البعض، وذلك مثل التطابق والتضاد ودرجات الكيف وأعداد الكم. أما النوع الثاني فيعتمد على شيء من الاستدلال مثل الهوية والعلاقات الزمانية والمكانية والسببية. فعلى سبيل المثال فإن السببية لا تعتمد على إقامة مقارنة بين فكرة وأخرى بل تعتمد على استدلال من السبب إلى النتيجة أو العكس . والاحتمال هو الاستدلال من افتراضات، وينقسم إلى نوعين: نوع يؤسس على الصدفة ونوع ينشأ عن الأسباب. فكل استدلال يبني على وجود شيء بالصدفة يتصف بأنه احتمالي وعشوائي , والاستدلال المؤسس على الأسباب أيضاً احتمالي عال، لأنه يفترض أن الحالات التي تثبت فيها صلة بين سبب ونتيجة سوف تتكرر، أو أن السبب الذي أحدث نتيجة في الماضي سوف يحدث نفس النتيجة في المستقبل، لكن ليس هناك ما يؤكد لنا هذا الانتظام (الحتمي) بين السبب والنتيجة في الحالات التي لم تخضع بعد للتثبت التجريبي. لكن كيف أدى تبرير الاعتقاد من الناحية الفلسفية إلى الإقرار بأهمية الدين الطبيعي إلى جانب الدين المدني؟

خاتمة:

من المعلوم أن الطبيعة تدل على كل ماهو مدركperceptible  وكل ماهو متصورconcevable  وتتعارض مع ماهو صناعيartificiel  مثل الأشياء التي أنتجتها البراعة الإنسانية ومع ماهو ماورائيsurnaturel  مثل الأحداث الخارقة للعادة التي تقع في الحياة الإنسانية عن طريق القدرة الإلهيةgrâce divine 11[11]. إذا دققنا أكثر وعدنا إلى المعجم الفلسفي نجد ما يلي: الطبيعة Nature والطبيعيNaturel  والمذهب الطبيعي Naturalisme.

+ من جهة أولى الطبيعة  Nature تمتلك دلالات متعددة تتعلق إما بطبيعة كائن معين وإما بالطبيعة بصفة عامة ( بوصفها مجموع الكائنات). فهي المبدأprincipe  الموجه في تطور كائن معين حيث يقترن الفيزيسphusis   بالبذرة عند الإغريق. هنا تتعارض الطبيعة من حيث هي سببcause  أو عقل مع الفن أو مع التقنية. بعد ذلك نجد الماهيةEssence التي تفيد مجموع من الخصائص التي تعرف كائنا يكون مطابقا مع نوعه. من هذا المنظور نجد الطبيعة البشرية حاضرة في كل إنسان. غير أن هذا التصور المتداول تم تهفيته من طرف الأثنولوجيا والبسيكولوجيا والماركسية والوجودية برفضهم أسبقية الماهية على الوجود.  كما نعثر على الإنسان الطبيعيl’ homme de la nature  عند جان جاك روسو  يتعارض مع المواطن في الحالة المدنية، وبالتالي كل ماهو فطري أو تلقائي في النوع يتعارض مع الثقافة ، ويتعارض أيضا مع الوحيrévélation  والرحمةGrace التي يذكرهما قاموس التيولوجيا.

المعنى الخاص والدقيق للفظ الطبيعة يشير إلى الطبائع الخاصة بفرد معين التي تميزه عن غيره وتعني الطبعcaractère  أو المزاجtempérament   والجانب المورفولوجي والمكونات البيولوجية.

من جهة ثانية الطبيعة هي مجموع الأشياء ( الحيوان والنبات والتراب) الخاضعة لقوانين عامة جعلها أرسطو متعارضة مع الصدفة تحديدا. هذا المعنى يتم تخصيصه على النحو التالي:

-         مجموع مخلوقات الله في المنظور الإيماني وكل ماهو موجود حسب منظور غير ديني، أي مجموع الكائنات الخاضعة للسببية التي تكاد أن تكون ميكانيكية بالتعارض مع الحرية أو الروح.

-         العالم المرئي الذي نسكنه من حيث هو متعارض مع النظام العاطفي والروحي والفكري ومابعد الطبيعي الذي يظل محتجبا عن أنظارنا وغير مدرك حسيا.

-         يمكن اعتبار الطبيعة ،بالقياس إلى أن كل كائن مطالب بأن يحقق ماهيته، المبدأ المعياري الذي اتبعه ذلك الكائن. من البديهي أن نذكر في هذا الإطار قوانين الطبيعة من حيث هي قوانين كونية والتي لا تمثل القوانين البشرية سوى محاكاة خصوصية لها.  كما يبدو من المنطقي أن تتضمن الحركة المضادة للطبيعة الكثير من الانحراف والفساد والانتقام في المعجم التحليلي النفسي.

في الحقيقة،" يشير لفظ الطبيعة إلى معان مختلفة، فبالمعنى الفيزيائي والفلكي الطبيعة هي الكون بما يتضمنه من أفلاك وظواهر متنوعة تخضع لقوانين ثابتة وضرورية. والمقصود أيضا بالطبيعة أصل الشيء وجوهره وكنهه، مثل قولنا: طبيعة الماء وطبيعة النفس الخ. ويعني لفظ الطبيعة الفطرة والغريزة، وهو بهذا المعنى مقابل للثقافة والحضارة. وللطبيعة معنى رومنطيقي وهو الذي نعنيه عندما نشير بهذا اللفظ إلى الغابات والبساتين والمروج وكل ما يبعدنا عن صخب المدينة وضوضائها."12[12]

+ أما الطبيعيNaturel  فيستعمل في كل معان كلمة الطبيعة ويتعارض مع المكتسب والمنعكس والصناعي والإنساني والإلهي والموحى به وماوراء الطبيعي والأسطوري وغير السوي. يمكن أن نذكر على سبيل المثال الحق الطبيعي الذي يستخلص من حالة الطبيعة ويتعارض مع الحق الوضعي. وكذلك نذكر عبارة الدين الطبيعي المستعملة بكثرة في القرن 18 والذي يرتكز على بالعقل ويتحاور بشكل مستقل وندية مع الوحي.

+ في حين أن المذهب الطبيعي  Naturalisme يدل في الحقل الجمالي والفني على التصور الذي يأخذ بمقتضاه الفنان الطبيعة كنموذج في عمله سواء كان رسما أو نحتا أو نثرا. كما تم تطبيق المصطلح على التيارات الفلسفية التي تنفي وجود ماوراء الطبيعة من غيب وروحانيات وكل مبدأ متعال وكل قيمة أو حقيقة من طبيعة مغايرة لما يظهر في التجربة. علاوة على ذلك ينفي المذهب الطبيعي كل خلق الهي وكل عناية إلهية ويثبت طيبة الطبيعة ويفسر تطور المجتمع بالاعتماد على قوانين طبيعية ويعتبر حالة الطبيعة بوصفها عصرا ذهبيا مرجعا للسلوك البشري.  لكن تقع معظم القواميس في حلقة مفرغة ودور لغوي عقيم حينما تعرف الطبيعة بمجموع الأشياء الموجودة بشكل طبيعي وتحدد الأشياء الطبيعية بواسطة الطبيعة13[13].

الإشكال يظهر حينما تكون الطبيعة من جهة مستودع الخيرات والمنافع الكفيلة بإشباع البشر وترضيتهم ولكنها من جهة أخرى قد تتحول إلى مصدر تهديد وعنف وقسوة نتيجة تقلبات مناخية وحركية جيولوجية.

علاوة على ذلك تجد الفلسفة نفسها في مواجهة تحدين:

-         تعريف الكائن البشري من وجهة نظر الطبيعة ( البحث في ماهيته وفكرته أو دراسة الجانب الطبيعي منه والغريزي والجسماني).

-         تعريف الطبيعة من وجهة نظر الكائن البشري ( البحث في بنيتها ونظامها الكوني أو دراسة الجانب الروحي والعاطفي منها). فما السبيل المؤدي إلى تجنب الوقوع في مثل هذا الدور؟

الهوامش والإحالات:
[1] Bergson (Henri) , les Deux Sources de la morale et de la religion (1932), Quadrige, 7edition, PUF, Paris, 1997, P289.

[2] Jaccard A, Moi et les autres, édition du seuil, Paris, 1983,p44.

[3] Descartes René, Discours de la méthode, VI, 1637, collection 10-18, 1963, pp74-75.

[4] Descartes René, Lettre à Mersenne du 16 octobre 1639, in Lettres, textes choisis par Michel Alexandre, PUF, 1954, p57.

[5] Descartes René, Discours de la Méthode, V, 1637, commentaire Gilson, 1966, «  Considéreront ce corps comme une machine qui, ayant été faite des mains de Dieu, est incomparablement mieux ordonnée et a en soi des mouvements plus admirables qu’aucune de celles qui peuvent être inventées par les hommes, »

[6] Descartes René, Méditations métaphysiques, 1641, II, édition 10-18, Paris, 1964,pp149-150.

[7] Descartes René, Discours de la Méthode, 1637, commentaire Gilson, 1966, pp.57-58. « on ne doit pas confondre les paroles avec les mouvement naturels, qui témoignent de passions, et peuvent être imité par des machines  aussi bien que par des animaux ».

[8] Descartes René, Discours de la Méthode, VI, 1637, édition 10-18, Paris, 1963, pp.74-75. «  Au lieu de cette philosophie spéculative qu’on enseigne dans les écoles , on en peut trouver une pratique, par laquelle , connaissant la force et les actions du feu, de l’eau, de l’air, des astres, des cieux et de tous les autres corps qui nos  environnent, aussi distinctement que nous connaissons les divers métiers de nos artisans, nous pourrions employer en même façon à tous les usages auxquels ils sont propres, et ainsi nous rendre comme maitres et possesseurs de la nature . »

[9] Hume )David(, traité de la nature humaine, 1738, L.II,3 partie, sect III, tome 2, édition Aubier-Montaigne,Paris, 1946.pp524-526

[10] Hume )David(, enquête sur l’entendement humain, 1748, Traduit par M. Beyssade,  édition GF, Paris,1983.

[11] Giuculescu Alexandru, l’image de la nature dans la science, in Cahiers de la revue de théologie et de la philosophie, n°18, Lausanne (Suisse), 1996 .p211.

[12]  سعيد (جلال الدين) ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998. ص.275.
[13] Lenoble (Robert), histoire de l’idée de nature, éditions Albin Michel, 1969.p217.

 المصادر والمراجع:
1-Descartes René, Discours de la Méthode, 1637, commentaire Gilson, 1966

2-Descartes René, Discours de la Méthode, VI, 1637, édition 10-18, Paris, 1963

3-Descartes René, Méditations métaphysiques, 1641, II, édition 10-18, Paris, 1964

4-Descartes René, Lettre à Mersenne du 16 octobre 1639, in Lettres, textes choisis par Michel Alexandre, PUF, 1954,

5-Hume )David(, traité de la nature humaine, 1738, L.II,3 partie, sect III, tome 2, édition Aubier-Montaigne,Paris, 1946.pp524-526

6-Hume )David(, enquête sur l’entendement humain, 1748, Traduit par M. Beyssade,  édition GF, Paris,1983.

7-Jaccard A, Moi et les autres, édition du seuil, Paris, 1983,p44.

8-Bergson (Henri) , les Deux Sources de la morale et de la religion (1932), Quadrige, 7edition, PUF, Paris, 1997, P289.

9-Lenoble (Robert), histoire de l’idée de nature, éditions Albin Michel, 1969

10-Cahiers de la revue de théologie et de la philosophie, n°18, Lausanne (Suisse), 1996,
11 - سعيد (جلال الدين) ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998.

[1] Bergson (Henri) , les Deux Sources de la morale et de la religion (1932), Quadrige, 7edition, PUF, Paris, 1997, P289.

[2] Jaccard A, Moi et les autres, édition du seuil, Paris, 1983,p44.

[3] Descartes René, Discours de la méthode, VI, 1637, collection 10-18, 1963, pp74-75.

[4] Descartes René, Lettre à Mersenne du 16 octobre 1639, in Lettres, textes choisis par Michel Alexandre, PUF, 1954, p57.

[5] Descartes René, Discours de la Méthode, V, 1637, commentaire Gilson, 1966, «  Considéreront ce corps comme une machine qui, ayant été faite des mains de Dieu, est incomparablement mieux ordonnée et a en soi des mouvements plus admirables qu’aucune de celles qui peuvent être inventées par les hommes, »

[6] Descartes René, Méditations métaphysiques, 1641, II, édition 10-18, Paris, 1964,pp149-150.

[7] Descartes René, Discours de la Méthode, 1637, commentaire Gilson, 1966, pp.57-58. « on ne doit pas confondre les paroles avec les mouvement naturels, qui témoignent de passions, et peuvent être imité par des machines  aussi bien que par des animaux ».

[8] Descartes René, Discours de la Méthode, VI, 1637, édition 10-18, Paris, 1963, pp.74-75. «  Au lieu de cette philosophie spéculative qu’on enseigne dans les écoles , on en peut trouver une pratique, par laquelle , connaissant la force et les actions du feu, de l’eau, de l’air, des astres, des cieux et de tous les autres corps qui nos  environnent, aussi distinctement que nous connaissons les divers métiers de nos artisans, nous pourrions employer en même façon à tous les usages auxquels ils sont propres, et ainsi nous rendre comme maitres et possesseurs de la nature . »

[9] Hume )David(, traité de la nature humaine, 1738, L.II,3 partie, sect III, tome 2, édition Aubier-Montaigne,Paris, 1946.pp524-526

[10] Hume )David(, enquête sur l’entendement humain, 1748, Traduit par M. Beyssade,  édition GF, Paris,1983.

[11] Giuculescu Alexandru, l’image de la nature dans la science, in Cahiers de la revue de théologie et de la philosophie, n°18, Lausanne (Suisse), 1996 .p211.
[12]  سعيد (جلال الدين) ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998. ص.275.

[13] Lenoble (Robert), histoire de l’idée de nature, éditions Albin Michel, 1969.p217.