ما بعد 25 يناير ليس كما قبله/ علي آل طالب

حدث ما كان متوقعًا، وكأن الشعب المصري كان ينتظر تلك الشرارة التي أطلقها التونسيون قبل أكثر من شهر تقريبًا، وبأيدٍ عارية تلقف المصريون كرة اللهب، فأشعلت فيهم ذلك الجمر المخبوء تحت الرماد، بقي الرغيف كما هو في السابق، الأداة المحرضة لمختلف فصول الاحتجاج، إلا أن يوم الغضب حمل مطلبًا إضافيًّا، بل رئيسيا صدحت به حناجر الجماهير وبإيقاع واثق وصريح (الشعب يريد إسقاط النظام)، ذاهبين بذلك إلى أقصى ما هو بالإمكان أن تطالب به، وأقل ما بالإمكان التنازل عنه، أي رحيل حسني مبارك وإسقاط الحزب الحاكم، لأن المشكلة ليست في تحسين سلوك النظام بقدر ما هو إلغاؤه وإسقاطه. والدخول في عهد جديد يتناسب مع طموحات وحجم التضحيات التي ما يزال يقدمها المصريون في الميدان.
عهدًا يؤسس إلى نظام ديمقراطي حر ونزيه، ويكفل سيادة القانون ومبدأ العدالة الاجتماعية، ويؤمن لمشاركة سياسية متكافئة وغير منقوصة. عهدًا يعزز من المواطنة، ويرسخ العمل بحقوق الإنسان وفق مقومات الحرية والعدالة والمساواة، لا ينشغل بالتخلص من الفقر ومكافحة البطالة وغلاء المعيشة فحسب، بل وعبر خطط وبرامج تربوية وتنموية تساهم في محاربة الفساد المالي والإداري، وهذا لا يتم بين عشية وضحاها، فالقضاء على كافة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا يمكن علاجها في فترة قصيرة وموجزة، لذا المصريون وحدهم يدركون أن الخطابات الحكومية الداعية للتصحيح والإصلاح والتي خرج به الرئيس ونائبه مؤخرًا، ما هي إلا وعود كاذبة طالما سمعها المصريون طوال العقود الثلاثة المنصرمة.
يبدو أن عقارب الزمن لن تعود إلى الوراء، وأن ما بعد 25 يناير ليس كما قبله، فقد أصبح حسني مبارك وحزبه الحاكم من عداد الماضي، وأن مجرد وجودة لا يخرج من إطار العناد أو الاستهلاك المبتسر، ومن جهة أخرى أن التغيير في مصر يعني أن العالم العربي قد دخل مرحلة جديدة من المتغيرات العميقة والجذرية، وأن كرة اللهب التي انطلقت شرارتها من تونس حتى وصلت إلى مصر لن تتوقف؛ وستواصل مسيرتها، خاصة وأن هناك من الدول العربية ما تفتأ تعاني مجتمعاتها من ارتفاع خطير في معدلات الفقر والبطالة وغلاء المعيشة، وتفاقم نسبة نسبة الأمية، فضلا عن الحرمان في أبسط الحقوق الطبيعية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالتأكيد ثمة شعوب عربية مؤهلة لأن تلتحق بقاطرة الثورة والتغيير أسوة بثورة الأحرار في تونس ومصر.
ومن منظور جيوسياسي؛ ندرك تمامًا بأن مصر ليست كتونس، وما التشبث بالسلطة والتي ما يزال الرئيس مبارك يرنو إليها، إلا لأنه يعي حقيقة الأمر في موقعية مصر الجغرافية والسياسية، فمصر بمثابة البوابة ما بين القارة الأفريقية والآسيوية، والممر السحري المؤدي لبلاد الشام، والأهم من ذلك بأن لديها حدودًا مشتركة مع فلسطين المحتلة ومقاربة ذلك لملف الصراع العربي الإسرائيلي. أما سياسيًا فمن الواضح جدًا بأن المتضرر الوحيد بعد أمريكا من سقوط نظام حسني مبارك هي إسرائيل، وليس بمستغرب أن تقف هذه الأخيرة مع حكومة مبارك والحزب الحاكم إلى أقصى حد ممكن؛ حتى تتمكن من إيجاد مخرج يمكنها من الخروج من المأزق بأقل الخسائر، بحيث إن لم يكن قد ضمن حميمية العلاقة بين البلدين، أقلها أبقى حلقة التواصل مستمرة، لا سيما وأن إسرائيل بات يؤرقها الشمال وذكريات حرب تموز 2006م، كما يزعجها الوضع والشوكة المغروسة في خاصرتها في غزة، فكيف بها وهي تخسر الجنوب، حكومة مبارك !.
صار من الأهمية بمكان القول: بأن استمرار الشباب المصري واصراره على هدف واضح ومحدد، أي (إسقاط النظام) وعبر الوسائل والطرق السلمية والمشروعة، قد قطع الطريق أمام كافة الجهات المتربصة؛ الداخلية منها أو الخارجية، فالنظام المتمثل بمبارك ما يزال يعيش هول الصدمة وحالة من اختلال التوازن، والتي بالإمكان تلمسها بكل سهولة في جملة من القرارات المتخبطة أو في تلك التصرفات والممارسات القمعية تجاه المتظاهرين والمحتجين، خاصة تلك التي حدثت في يوم الغضب. أيضا شهدنا حالة الارباك وعدم الوضوح في التصريحات التي صدرت عن الولايات المتحدة الأمريكية، والتي حاولت منذ بداية موجة الاحتجاجات وعبر خطابها السياسي والإعلامي أن تقلل من حجم هذا الحراك الشعبي، وسرعان ما تغيير الموقف الأمريكي ليقف عند الحياد، على اعتبار أن ما يقوم به الشعب المصري اليوم هو حق مشروع للشعوب كامل الحق في تقرير مصيرها، بل وقدمت النصيحة للرئيس مبارك والحزب الحاكم إلى انتقال سلس إلى حكومة ديمقراطية.
وعلى الرغم من حجم الضغوطات التي مارستها إسرائيل وما زالت في إطالة أمد نظام حسني مبارك؛ فإن بعض الدول الغربية وأمريكا تحديدًا وحسب المواقف الأخيرة، قد رفعت الغطاء عنه، ولو أن الأمر لا يخلو من عنصر المراوغة والخداع وذلك لأننا ندرك تماما طبيعة وجوهر المشاريع الأمريكية في علاقتها مع حليفتها إسرائيل، إلا أنه ومن خلال الموقف الصلب للإرادة الشعبية في إصرارها على التغيير الجذري والحاسم؛ نجد أن المشهد بات مختلفا إلى حد كبير، فأمريكا وسياسيتها لا تمتلك إلا وأن ترضخ لما تترجمه الإرادة الشعبية؛ سواءً أكانت في تونس أو في مصر .. وغيرهما، لذا هي ما تزال تفتش عن طريقة مناسبة لرحيل الرئيس مبارك والذي لا يتمنى أن يختم حياته السياسية في صورة الهارب والمطارد!.
وفي سياق آخر؛ وإن ما يسترعي الالتفات إليه هو إمعان السلطة ودأبها في محاولات عزل المشهد الغاضب عن العالم، وإقدامها على عمل لا يقل خطورة عن سائر الأعمال التعسفية الأخرى تجاه حرية الرأي والتعبير ، عند تدخلها وبشكل سافر في تعليق خدمة "الانترنت والموبايل" عن مصر برمتها؛ لا لغرض غير الانقضاض على حلقات التواصل الاجتماعية والاحتجاجية، والحؤول من نقل مجريات الأحداث وتطوراتها للعالم، فضلا عمّا صدر في حق قناة الجزيرة من قرار يقضي بإغلاق مكاتبها وسحب اعتمادات مراسليها بدواعي ومبرر الاشتراك في زعزعة الاستقرار الأمني في البلاد. وعلى الرغم من كل هذه الممارسات والمضايقات إلا أن الثورة تزدادًا تأججًا واشتعالا، بل إنها أصبحت في طور من التنسيق والتنظيم العميقين ما يجعلها أكثر إقناعًا وتماسكا بشرعية ما تتقدم به من مطالبات، ناهيك عما ينعكس من هتافات وطنية تجاه الجيش والأرض ومؤسسات الدولة مما يؤشر إلى وعي هؤلاء الشباب بحجم مسؤولياتهم المصيرية.
بالتأكيد؛ هي ثورة الشباب الواعي والتي فاجأت الجميع دون استنثاء، من سياسيين ومثقفين وعلماء ونخب اجتماعية، الثورة المصرية ومع دخولها في اليوم الثامن ضربت أروع الأمثلة في مسارها السلمي؛ فالحناجر التي تصدع بسقوط الرئيس مبارك وحزبه الحاكم في ميدان التحرير بالقاهرة أو في غيرها من المناطق؛ كالاسكندرية والسويس والمنصورة، هي نفسها التي تهتف بالتضامن مع الجيش، وهي ذاتها التي تحافظ بسلوكها المسؤول عن كافة مكتسبات الأرض والممتلكات العامة والخاصة للبلاد. وعودًا على بدء ليس في وسع مثقفي ومفكري وسياسي وعلماء مصر إلا الانحناء أمام جرأة وصلابة وعنفوان هؤلاء الشباب الذين أخرجوا مصر والمصريين من سبات عميق أودي بهم إلى المأزق والهاوية.
الرئيس مبارك ما يزال مستمرًا في حساباته الخطأ، فهو قد تأخر في كل شيء، في إطلالته الأولى بعد صمت مطبق استمر لأكثر من أربعة أيام، ليأتي بالحل الذي لا يتوازى مع حجم التضحيات الميدانية، وأخطأ أيضا عندما حاول الالتفاف على كل تلك الإرادة الشعبية عبر البحث عن حلول لا ترقى وطبيعة الظروف لما يجري في الميدان، فقد تأخر لما يربو عن الثلاثين عامًا، سواء كان ذلك في ابتكار منصب الرئيس، أو في إطلاق مروحة الحوار مع قوى المعارضة. وخلاصة الأمر يتضح بأن الثورة السلمية في مصر؛ هي لا تختلف في جوهرها عمّا هي عليه الثورات والتجارب النضالية للشعوب. فإن تعددت صورها بتعدد طبيعة كل ثورة أو تجربة، يظل القاسم المشترك هو عنصر المباغتة والذي ولا شك يصيب الآخر بالصدمة والتخشب، وهذا ما نعيشه وبدرجة عالية جدًا مع ثورة الأحرار في مصر اليوم.
بعد دعوة يوم الغضب، والتعبئة المنظمة للمسيرة المليونية بات الشارع سباقًا في كل شيء، بل هو على مقربة ليست بالبعيدة من حسم الأمور لصالحه، المصريون وحدهم يدركون تمامًا بأن ثمة عقبات كبيرة ستواجههم بعد سقوط النظام الحاكم، وهم يعون جيدًا أن المرحلة وما ستتمخض عنها، تتطلب جهدًا استثنائيا، لأن الرئيس وقيادي الحزب حينها قد رحلوا، لكنهم سيتركون إرثا ثقيلا من الدكتاتورية ومستلزماتها، لذا المهمة ليست بسهلة، وقرار الثورة وما يليه بحسب ذلك يكون بمثابة المغامرة غير المحسوبة، غير أن الإرادة الشعبية والواعية قد قالت كلمتها، وهي عازمة على إسقاط مبارك والحزب الحاكم، ولديها من الوعي الكافي للاستعداد لملء الفراغ بما ينسجم وطبيعة الاستحقاقات الديمقراطية ومستوجباتها، الأمر الذي يتطلب النظر في كل شيء؛ في إعادة انتاج الدستور حسب الأصول الديمقراطية ومستلزماتها، والاحتكام إلى قانون انتخابي ديمقراطي وشفاف ينبثق من تعددية حزبية واشتراطات تنافسية نزيهة.
وخلاصة الأمر؛ لا ينبغي لنا أن نستبق الأمور أو أن نعيش في الأحلام والفقز على الحقائق القائمة، لا شك بأن مصر ليست كتونس، كما أن مبارك ليس كزين العابدين بن علي، والوقائع تقول ذلك، فالرئيس مبارك وبالرغم من كل ما يحدث، وسائر ما تخلص إليه مجريات الأحداث بوصفها لا تصب في صالحه، ولا في صالح شعبه، ولا في صالح مصر بعراقتها وتاريخها، يبقى متمسكًا بعناده، وقابضًا على كرسي السلطة، وكأنه غير مكترث أو آبه لكل ما يحدث وما سيحدث، وبالرغم من إدراكه بأن عدد أيامه في الحكم باتت معدودة جدًا، غير أنه لا يريد أن يصدق مثل هذا الخبر، أو أن يستسلم للأمر بكل سهولة!، ونظرًا لطبيعته العسكرية التي يستعيدها اليوم؛ سيظل متشبثًا بالحكم ليراهن على البصيص المتعذر من الأمل، وباحثًا عن ذلك الضوء الأخير في آخر النفق، ولو أدى ذلك لإحراق مصر برمتها، وهذا ما لا يرجوه المصريون وما لا نرجوه جميعا. بيد أن تجارب الثورات تقول عكس ذلك، وأن الإرادة الشعبية غالبًا ما تكون الكلمة الحاسمة في الأخير بيدها، لترسم في الذاكرة والوجدان معنىً، بأن عقارب الزمن لن تعود للوراء أبدًا، ولن يكون ما بعد 25 يناير كما قبله، فهذا أبلغ درس تقدمه الثورة المباركة في مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق