لقد انحاز الحليف الأجنبي الأميركي الرئيسي لمفاوض منظمة التحرير الفلسطينية إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي وتخلى عنه، بينما أركان ظهيره العربي في "عملية السلام" قد حاصرها الرفض الشعبي لسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء فسقط أحدها في تونس فيما يترنح بعضها الآخر وبالكاد يحافظ على بقائه تحت ضغط المطالبة الشعبية بالتغيير، بحيث لم تعد "عملية السلام" أولوية على جدول الأعمال الدولي وأصبحت الأولوية في الدول العربية الداعمة لهذه العملية هي الحفاظ على "الاستقرار الوطني" في الداخل، بعد أن انهارت مقولة أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية، وإن أطلت برأسها بين وقت وآخر من وراء شعار "الدولة القطرية أولا" الذي يزين المعابر الدولية الجوية والبرية والبحرية لهذه الدولة.
في هذا الإطار، لم يجد مفاوض المنظمة أمامه غير أن"يلعب" في الوقت الضائع، فوجد في شن حملة دبلوماسية لانتزاع "اعتراف" دولي بدويلة فلسطينية ملهاة خارجية، وها هو يسعى اليوم إلى ملهاة داخلية في انتخابات محلية بلدية أعلن عزمه على إجرائها "في اقرب وقت ممكن" تشغل، كما يأمل، مواطنيه لصرف أنظارهم بعيدا عن فشله التفاوضي وبعيدا عن التفاعل مع الانتفاضة الشعبية التي أيقظت الملايين من أشقائهم العرب كي يخرجوا إلى الشوارع متمردين على واقعهم الراهن.
والدرس الأهم للانتفاضة الشعبية العربية، بخاصة في تونس ومصر، هو أن الدعم الأجنبي والاعتماد على الأجهزة الأمنية التي يمولها ويدربها هذا الدعم لا يمنح شرعية لأصحابه وليس ضمانة كافية لاحتكار السلطة والقرار الوطني وليس بديلا عن الشرعية الوطنية المستمدة من الوحدة الوطنية والدعم الشعبي في الداخل، مهما بلغ السخاء المالي الأجنبي ومهما بلغت سطوة أجهزة الأمن. والانقسام الوطني الفلسطيني الراهن دليل دامغ على صحة العبرة من هذا الدرس دون حاجة إلى انتفاضة شعبية تؤكده.
والمفارقة الدبلوماسية أن مفاوض المنظمة الذي يستجدي اعترافا دوليا بدولة له يجد نفسه مؤهلا دبلوماسيا كي يتبرع متطوعا بأنه سوف "يعترف" بدولة تقوم على أساس عرقي وديني في الجنوب السوداني، كما فعل وزير خارجية سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود في الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن د. رياض المالكي، في اليوم الأول لاستفتاء ستظهر نتائجه بعد شهر، دون مراعاة لمطالبة دولة الاحتلال الإسرائيلي له للاعتراف بها كدولة دينية، أو مراعاة لعلاقات المنظمة مع السودان أو لميثاق الاتحاد الإفريقي الذي يعارض الحركات الانفصالية.
والمفارقة الاستراتيجية أن مفاوض المنظمة قد منح دولة الاحتلال اعترافا مجانيا بشرعيتها مبدئيا عندما تبنى حل الدولتين عام 1988 ورسميا بتوقيعه على هذا الاعتراف عام 1993، ليقيد نفسه باتفاقيات وقع عليها معها تلزمه بعدم إعلان دولة له من جانب واحد وباشتراط موافقة دولة الاحتلال عبر التفاوض الثنائي فقط على أي دولة كهذه، متنازلا بذلك عن حق دولي له بإقامة دولته منحته له شرعية الأمم المتحدة بقرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947، ومتنازلا كذلك طوعا ومجانا عن حقه في في الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة لشعبه بموجب ذلك القرار والتي اكتسبتها دولة الاحتلال بالقوة العدوانية المسلحة خلافا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
والمفارقة السياسية أن مفاوض المنظمة قد اعترف بدولة الاحتلال وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد لها دستور ينص على حدودها وهي تشترك في ذلك مع الولايات المتحدة الأميركية باستثناء أن للأخيرة دستور لا ينص على حدودها، وقد تبرع مفاوض المنظمة بتحديد خطوط وقف إطلاق النار بين دولة الاحتلال وبين الدول العربية عام 1967 حدودا لها لكن المأساة أن دولة الاحتلال ترفض تبرعه وقد أفشلت مفاوضاتها معه لأنها تصر على مفاوضته على هذه الحدود أيضا.
والمفارقة الوطنية أن مفاوض المنظمة يخاطر اليوم بانقسام وطني طويل الأمد لأنه يصر على أن يفرض قسرا على شعبه القبول بكل هذه المفارقات وغيرها كشرط مسبق للوحدة الوطنية، مستقويا على شعبه ومقاومته للاحتلال وللمفارقات التفاوضية التي تمخض عنها بكل القوى الدولية التي ورطته في هذه المعادلة المستحيلة للسلام، وهي قوى حريصة أولا وأخيرا على انتزاع اعتراف فلسطيني وعربي بشرعية الاحتلال ودولته وأمنها ولا يعنيها السلام إلا على هذا الأساس، وفي رأس هذه القوى الولايات المتحدة.
في الثامن والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر الماضي قال "الرئيس" محمود عباس إنه في حال فشلت المفاوضات فإنه سيطلب من الولايات المتحدة الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967. وقد فشلت المفاوضات. وردت واشنطن على طلب عباس بالرفض. فاعلن كبير مفاوضيه د. صائب عريقات في نهاية العام الماضي مؤكدا بأن مشروع قرار بشأن الاعتراف بهذه الدولة كان سيعرض على مجلس أمن الأمم المتحدة مطلع العام الجديد. وحتى الآن لم يعرض لأن الولايات المتحدة هددت باستخدام حق النقض "الفيتو" ضده.
والمفارقة التكتيكية لمفاوض المنظمة أنه يسعى الآن لانتزاع اعترافات دولية مسبقة منفردة بدولته قبل قيامها أو بإعلان تجديد اعترافات سابقة لها بهذه الدولة كلا على حدة، بدل أن يلجأ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب تأكيد قرارها رقم 181 لسنة 1947 وهو المصدر الوحيد الذي تستمد منه دولة الاحتلال شرعية وجودها مشروطة بقيام دولة عربية فلسطينية إلى جانبها وبعودة اللاجئين الفلسطينيين، أو في الأقل بتأكيد قرار لها صدر عام 1988 بإجماع (108) دول يعترف بدولة فلسطينية.
والمفارقة المأساوية أن مفاوض المنظمة يسعى إلى هذه الاعترافات الدولية المنفردة بدولته قبل قيامها وهو يجد نفسه مقيدا بالاتفاقيات التي وقعها مع دولة الاحتلال التي تجعله عاجزا حتى عن إعلان هذه الدولة التي يطلب الاعتراف بها من جانب واحد، بحيث يبدو موقفه مثيرا للسخرية عندما يطالب الآخرين باعتراف بها وهو نفسه عاجز عن إعلان اعترافه بقيامها، في الأقل اقتداء بشريكه "الإسرائيلي في عملية السلام" الذي أعلن استقلال دولته من جانب واحد، دون اي اتفاق للسلام، وبينما النزاع كان ما زال قائما بشأن حدودها.
أما المفارقة – الخديعة فتكمن في حقيقة أن مفاوض المنظمة يسعى وراء هذه الاعترافات المنفردة ليس من أجل تعزيز إمكانيات إقامة هذه الدولة على الأرض بل من أجل تعزيز موقفه التفاوضي، كما يعلن هو نفسه، لإجبار دولة الاحتلال، كما يتوهم، على استئناف التفاوض على إقامتها طبقا لمرجعيات مؤتمر مدريد عام 1991 ومرجعيات اتفاقيات أوسلو التي بدأ توقيعها بعد عامين وهي نفسها المرجعيات التي نسفها رئيس وزراء حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في ولايته الأولى عام 1995 قبل ان يدفنها في ولايته الثانية الحالية.
والمفارقة الإعلامية أن مفاوض المنظمة يستخدم اعتراف حوالي (12) دولة في أميركية اللاتينية بدولة فلسطينية ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي للمنظمة في ست دول أوروبية وسماح الإدارة الأميركية برفع العلم الفلسطيني على مكتبها، باعتبارها انتصارات دبلوماسية، ويستخدم المآخذ الوطنية على هذه "الانتصارات" أداة لتعميق الانقسام الفلسطيني بين المفاوض وبين المقاومة الوطنية. إن تجديد قبرص كأول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ثم روسيا اثناء زيارة الرئيس مدفيديف الأخيرة لأريحا لاعتراف البلدين بالدولة الفلسطينية، وهو اعتراف انتزعته المقاومة الفلسطينية للاحتلال قبل وقت طويل من بدء ما يسمى "عملية السلام"، مما يذكر بأن المقاومة انتزعت اعتراف عدد من الدول بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 يفوق عدد الدولة التي كانت تعترف بدولة الاحتلال، وانتزعت اعتراف (108) دول بدولة فلسطينية بقرار للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1988، بينما قاد اعتراف المنظمة بدولة الاحتلال في عهد التفاوض إلى سيل من الاعتراف الدولي بها وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها لم تكن تحلم به في عهد المقاومة.
إن تصوير الاعترافات المنفردة الأخيرة بأنها انتصارات للمفاوض منظمة التحرير ينطوي على تضليل إعلامي، فتشيلي وبيرو على سبيل المثال اعترفتا بدولة فلسطينية بلا حدود، بينما اعترفت الدول الأخرى بها ضمن حدود عام 1967، لكنها جميعا نصت في بيانات ورسائل اعترافها على "الأهمية القصوى لاستئناف المحادثات بين الطرفين في أقرب وقت ممكن"، كما أكد بيان الحكومة القبرصية، مما يؤكد بأن الهدف من هذه الاعترافات هو تسهيل "عملية السلام" للاتفاق الثنائي مع دولة الاحتلال على دولة وليس إقامة دولة فلسطينية، أي أنها اعترافات ب"دولة فيسبوك"، أو "دولة ميكي ماوس"، وهي بمثابة "شيكات بلا رصيد" و"خطوة غير كافية" لأنها لا تساهم بقيام الدولة عمليا على الأرض كما قالت :حماس"، ولأن جهود مفاوض المنظمة في هذا السياق يندرج في باب "رفع العتب السياسي" طالما لم يترافق مع "رفض الاملاءات الأميركية والاسرائيلية" ورفض الدخول مجددا في "متاهة المفاوضات العبثية" ومع "إعلان رسمي عن وقف المفاوضات" كما قال د. جمال زحالقة رئيس حزب بلد وكتلة التجمع الوطني الديموقراطي في دولة الاحتلال.
ويبقى أن "يعترف" مفاوض المنظمة بفشله وخطاياه وأخطائه عسى أن يشفع له اعتراف كهذا لدى شعبه.
* كاتب عربي من فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق