لا يمكن عدم رؤية الانقلاب الثوري في الشرق الأوسط، بتحول الجماهير إلى القوة الحاسمة، التي لم يعد من الممكن تجاهل مطالبها العادلة، بحياة حرة كريمة ورفاه اجتماعي لم يعد من الممكن حرمانها منه، وهي ترى الغنى الفاحش للمقربين من السلطة الذين أطلقت أيديهم بدون رقيب في نهب ثروات الشعوب العربية.
هذا ليس أول انفجار شعبي في العالم العربي.
شهد العالم العربي عدة تحركات جماهيرية في مصر وغير مصر، ولكن ما لم نعرفه في العالم العربي سابقاً هو هذه الظاهرة التي لم تعد تكتفي بمطالب سد الرمق والاحتجاج على غلاء أو قمع ، بل ما نشهده تحولا في المطالب بطرح رؤية انقلابية لأول مرة من أجل تغيير النظام الفاسد، وطرد قادة النظام المسؤولين عن الفقر والبطالة والأمية وتزوير الانتخابات والفساد المستشري لصالح المقربين من السلطة.
كنا نتوقع تحركات عسكرية انقلابية، واليوم نحن أمام ظاهرة ثورة شعبية مدنية ، ولا أعتقد أن قائدا عسكريا يملك بعض العقل ، يقبل أن يتورط بسفك دماء الشعب من أجل تثبيت سلطة فاسدة ، أو أي سلطة يرفضها الشعب.هذا شاهدناه في تونس ، ونشاهده في مصر.. الجيش بات مؤسسة اجتماعية شبه مستقلة ، لم يعد بالإمكان تسخيرها للتنكيل بالشعب. ليس لأن القادة العسكريين معتدلين أكثر ، بل لفهمهم أن استعمال الجيش سيقودهم في لحظة معينة إلى تحمل وزر فشل النظام وحماية الفساد، وفشلهم في حماية النظام ، أمام الغضب الشعبي ، سيفقدهم مصداقيتهم، وهذا هو خوفهم الكبير. إلى جانب أن ضغوطات دولية واضحة، من دول لا يمكن تجاهلها، تحث الجيش على عدم استعمال العنف مع المتظاهرين. .
صدرت عدة تقارير هامة من الأمم المتحدة حول التنمية البشرية، شارك بصياغتها متخصصون وخبراء عرب طرحوا الواقع الرهيب للمجتمعات العربية وأكدوا على المخاطر المتوقعة إذا استمر هذا الوضع ولم تقم الأنظمة بإصلاحات عميقة جداً لإنقاذ مجتمعاتها من حالة الفقر والضياع والفساد وغياب المشاريع التي تعطي الأمل للأجيال الشابة بالعمل والمستقبل.
في آخر تقرير، الصادر عام 2010 جاءت فيه أمور مقلقة جداً وما يهمني هنا ما يخص مصر بالأساس مع معرفة أن واقع العالم العربي كله لا يقع بعيداً عن الواقع المصري.ومراجعتي لهذا التقرير توضح الخلفية للغضب الشعبي ضد نظام مبارك ، وعدم قدرة حلفاء هذا النظام الدوليين، على تحمل مسؤولية حمايته.
التقرير يشير إلى ارتفاع نسبة غير المتعلمين من الفئة العمرية 18-29 سنة، إلى 27% وعدم توافق برامج التعليم مع متطلبات السوق، ويشير التقرير إلى أن 20% من سكان مصر هم ضمن الفئات الفقيرة التي تعاني صعوبة في الالتحاق بالمدارس، وأن الكثير من خريجي الجامعات يلتحقون بأي وظيفة متاحة من أجل الخروج من دائرة الفقر وأن 90% من العاطلين عن العمل تقل أعمارهم عن 30 عاماً.
وحول مشكلة الفقر يقول التقرير أن الفقر في مصر أضحى بالوراثة، وأن الشاب الفقير ينشأ ويبقى فقيراً، خاصة في الريف ولا يجد فرصة لعمل أو تأهيلاً لفرصة تفتح أمامه فرصة لحياة إنسانية.
وكم يبدو اليوم طلب الرئيس مبارك من رئيس الحكومة المصرية أن يعمل على إصلاح الوضع الاقتصادي بعد 30 سنة من تجاهل الفقر والانحدار المتواصل للحضيض دون أن تتحرك مؤسسات الدولة لتدارك هذا الوضع، لذا ليس بالصدفة أن النقمة الشعبية هي ضد كل رموز النظام وعلى رأسهم حسني مبارك.
عدا ذلك مصر تعاني من قوانين الطوارئ التي لا يفهم أحد ضرورتها، خاصة بعد "السلام البارد" أو غير البارد فعلا مع إسرائيل، إلا بصفته كبت الحريات ومصادره الديمقراطية ومنع النقد ضد السلطة الفاسدة، ليستمر نهب ثروات الشعب المصري وزيادة إفقاره.
شاهدت في المظاهرة شخصياً يرفع شعاراً معبراً: "أريد أن آكل لحمة" هذا الشعار من أصدق ما قرأت من شعارات.
في قائمة الدول حول التنمية البشرية نجد مصر من بين 160 دولة في المكان أل 113 أي مع الدول الأكثر تخلفاً. بينما دولة مثل إسرائيل في المكان أل 23 مع مقياس يرتفع دوماً أما مصر ففي هبوط رغم الزيادة الكبيرة في عدد السكان.
في تصنيف الفقر البشري ل 108 دول من الدول النامية، نجد أن مصر في المكان أل 48 مع دول مثل فيجي وكينيا وناميبيا.
بينما دولة بحجم مصر سكانياً ، مثل تركيا ، ومن الناحية السياحية مصر تنافسها بجدارة، هي في المكان أل 22 فقط.
قراءة هذه التقارير تعطي لوحة كاملة عن الدوافع للثورة وإسقاط نظام مبارك في مصر.
من المعروف أن أكثر من نصف المصريين يعيشون على دخل دولارين يومياً أو أقل من ذلك، والكثير من المصريين يعيشون في المقابر أو البراكسات على أسطح العمارات لعدم قدرتهم في الحصول على سكن إنساني، وجيل الزواج ارتفع في مصر ، لصعوبة ضمان منزل وعمل مما يسبب الكثير من الظواهر الحبنسية الشاذة، والكثير من العوانس والزنا.
الاقتصاد المصري يقف عاجزاً عن مواجهة الزيادة السكانية ومستوى الحياة في انخفاض دائم، والبطالة تجاوزت الخطوط الحمراء كثيراً، وهذا لم يقلق السلطة ، واليوم تبدو نداءات مبارك لحكومته المعينة مهينة له ولنظامه وشهادة دامغة لمسؤولية النظام وقصوره وفساده.
مشاكل الاقتصاد المصري حدث ولا حرج، مصر تصدر ما قيمته 30 مليار دولار وتستورد 60 مليار دولار ويأتي ثلث دخلها من تصدير النفط والغاز والثلث الآخر هو دخل من السياحة والبقية دخل من قناة السويس وعمل مصريين في الخارج.
مثل هذا الاقتصاد لا يستطيع أن يواجه أزمات اقتصادية ، وهو اقتصاد غير متنوع ومأزوم بسبب تعلقه بأربعة أشكال اقتصادية فقط مما يغلق الفرض أمام إصلاح الواقع الاقتصادي بفترة زمنية قصيرة.
تعالوا ننظر إلى واقع مؤلم آخر، الإنتاج الاقتصادي السنوي لمصر يبلغ 250 مليار دولار وعدد سكانها 80 مليون إنسان.
وهو يوازي تقريباً إنتاج إسرائيل القومي الإجمالي الذي يبلغ 230 مليار دولار. ولكن إسرائيل عدد سكانها 7.5 مليون مواطن.
واضح أن المساعدة الاقتصادية الخارجية لها دور في هذا الواقع. مصر وإسرائيل تتلقيان مساعدة خارجية متساوية من الولايات المتحدة. بما يعني أن إسرائيل تتلقى أكثر ب (10) أضعاف دعماً اقتصادياً من أمريكا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن سكان إسرائيل هم 10% من عدد سكان مصر. والمؤسف أن معظم الدعم لمصر هو دعم بالسلاح، وهذا لا يمكن أن يكون مفيداً للاقتصاد.
هل تغيير النظام سيقود إلى تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟!
من الواضح أن التحديات تبدو اليوم مستحيلة، مصر تحتاج إلى الكثير من إعادة ترتيب الأولويات فيها. ولن يكون سهلاً على أي نظام جديد أن يخرج من هذا الوضع المأساوي المتراكم، وضع الفقر والبطالة والأمية ولكن لا بد من بداية....مهما كانت صعبة. بداية بدون نظام فقد شرعيته السياسية والأخلاقية!!
dramaqdisi@gmail.com
دكتور أديب المقدسي –أكاديمي فلسطيني مقيم في واشنطن والمقال خاص بالمساء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق