يقول الشاعر: من جرب الكي لا ينسى مواجعه، ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا. وبيت الشعر هذا يصلح كمدخل للقول بأن الإستقرار والأمان نعمة عظمى من نعم الله على عباده، لا يعرف قيمتها إلا من أفتقدها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى نماذج كثيرة لا حصر لها لأمم وشعوب كانت تعيش حياة، ربما لم تكن مثالية، لكنها كانت على الأقل توفر الأمن والأمان والإستقرار، فإذا بها فجأة تدخل أتون الفوضى والحرائق والقتل والتدمير لأن بعض أطيافها حملوا لافتات التغيير والإصلاح.
ومع تأكيدنا على أن التغيير سنة من سنن الحياة، والإصلاح مطلوب في كل زمان ومكان، إلا أنه ليس شرطا أن يؤدي هذان المطلبان إلى الأفضل، وخاصة في حالة الدول العالمثالثية المؤبوة بألف علة وعلة. ففي ظل مصر الملكية مثلا، لم تكن الصورة وردية، لكن من أسقط النظام طلبا للأفضل ووعد بتحقيق لائحة طويلة من المطالب الدستورية والتنموية، فشل في تحقيق الجزء الأعم من مطالب الجماهير، بل وزاد عليها بحظر التعددية السياسية السابقة وإقامة نظام بوليسي وتكميم الأفواه، وتسخير موارد البلاد للإنفاق على المغامرات الخارجية. وتحضرني هنا ما قالته إحدى الفنانات المصريات تعليقا على التغيير الذي أطاح بالملك فاروق: "زمان كان في فاروق واحد، لكن دلوقت في 12 فاروق – في إشارة إلى أعضاء مجلس قيادة الثورة". وإستنساخا للتجربة المصرية أطاح العراقيون بنظامهم الملكي الدستوري التعددي، ليدخلوا إبتداء من 14 تموز 1958 حقبة الإنقلابات الدموية التي غيبت صفوة رجالات وقادة البلاد، قبل أن يدخلوا حقبة الحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وهجرّت خيرة العقول الوطنية، وصولا إلى ما نشهده اليوم من معالم المحاصصة الطائفية البغيضة. والشيء ذاته حصل مع السوريين الذين أودعوا تجربتهم الديمقراطية والبرلمانية الرائدة في أوائل الخمسينيات خزائن النسيان، من أجل سراب الإتحاد مع مصر عبدالناصر، مدفوعين بضغوط حزب البعث وجماعة "أكرم الحوراني" وأبناء الأرياف ممن تسللوا إلى المؤسسة العسكرية بغرض التغيير بالقوة.
ولا نريد في هذه العجالة إستعراض ما حدث في إيران بعد إسقاط نظام الشاه، لأنه معروف للجميع بتفاصيله الدقيقة، لكن إذا ما توجهنا صوب جنوب شرق آسيا فإن المثال الأبرز هو ما حدث في الفلبين. فالفلبينيون الذين أطاحوا، من خلال ما عرف بـ"ثورة قوة الشعب" في عام 1986 ، بالديكتاتور "فرديناند ماركوس" كانوا محقين في عملهم لأن الأخير تجاوز كل الحدود في القمع والفساد، لكن الأنظمة التي توالت مذاك على السلطة، لئن نجحت في إشاعة الديمقراطية، وحرية التعبير، وتوفير حق تشكيل التنظيمات السياسية، فإنها عجزت عن توفير الأمن والإستقرار على نحو ما كان سائدا في الماضي، بل إنها عجزت أيضا في إطلاق خطط تنموية جادة أو كبح جماح الفساد وسرقة المال العام. أما الحديث عن التغيير وتداعياته في إفريقيا فحديث يطول. لكن يكفينا ذكر الصومال وزيمبابوي كمثالين لا حصريين. فالصوماليون الذين عاشوا أبهى وأجمل أيامهم في العهد الديمقراطي التالي مباشرة لرحيل المستعمر، حينما كانت بلادهم تعرف بـ"زهرة أفريقيا الفواحة" تحت قيادة الرئيس المنتخب "أدن عبدالله عثمان" لم يقدروا النعمة العظيمة، فراحوا يستنسخون من جيرانهم نماذج الإنقلابات العسكرية، التي كان آخرها إنقلاب قاده في ليلة مظلمة عسكري غبي يدعى "محمد زياد بري". وبهذا الإنقلاب فقد الصوماليون حرياتهم، ودخلوا في حقبة قمع كئيبة، تلتها حرب أهلية ضروس، وصولا إلى ما هم عليه اليوم من تشرذم ومعاناة وفلتان وغياب كامل لهياكل الدولة. وهذا وضع يندر أن عاشته أية أمة في العصر الحديث. والشيء نفسه يقال في حالة "روديسيا الجنوبية" التي صارت تعرف اليوم بـ "زيمبابوي"، والتي قال لي أحد مواطنيها، حينما زرتها قبل عقد ونيف، جملة لا تزال محفورة في ذاكرتي. قال المواطن الذي ناضل ودخل السجون من أجل التغيير: "أيام حكومة الأقلية البيضاء بقيادة "إيان سميث" كنا نعرف حقوقنا وواجباتنا بدقة كمواطنين من الدرجة الثانية، لكن في ظل حكومة الإستقلال الوطني بقيادة "روبرت موغابي" إختلط الحابل بالنابل، وصرنا مواطنين من الدرجة العاشرة، لا نعرف ما هي حقوقنا، وأين تبدأ؟"
إن كاتب هذه السطور الذي قدر له مع المئات من أبناء البحرين وبناتها أن يذهبوا إلى لبنان طلبا للتحصيل الجامعي في النصف الأول من سبعينات القرن المنصرم عرف بالتجربة الحية – من خلال معايشته ليوميات الحرب الأهلية الطائفية اللبنانية ، كيف يتحول الوطن المستقر المزدهر، ومعالمه الحضارية، وصروحه الثقافية والفنية، ووحدة مكوناته الإثنية والمذهبية، وإنجازاته المشهودة التي أفنى الرجال والنساء حياتهم في إقامتها، في لحظة جنون ومزايدة إلى بلد يسقط فيه الفرد برصاصة غدر من صديق كان يشاركه بالأمس مقاعد الدرس أو مواقع العمل، وإلى مجتمع يدفن فيه الإحتقان والتقاتل أحلام أسر مسالمة بأكملها. لقد رأيت وزملائي كيف يثقب رصاص القنص جماجم طلبة يحلمون بيوم تخرجهم، وكيف تقتل الأنفس البريئة على الهوية، وكيف تقسم الأحياء المتلاصقة بحواجز الكراهية الطيارة، وكيف تقتلع أعين الوطن، وكيف ترفس أشلاؤه بالأحذية المغبرة، وكيف يشدونه من شعره نحو القبر، وكيف تبقر بطون الأمهات ويجعل من بناتهن رهينة للخوف والفزع، ومن أبنائهن خابية زيت مثقوبة بألف رصاصة حقد وألف خنجر مسموم.
ومرة أخرى فإن التغيير والإصلاح أمران مطلوبان في كل المجتمعات، لكن لكي يثمران عن الآمال المعقودة والطموحات المرجوة، فإن لهما شروطا: أولها التوافق ما بين مكونات الوطن الواحد، كيلا يعتبر مكون ما أنه إنتصر على الآخر أو إستطاع أن يرغمه على أمر لا يريده، وثانيها إستخدام الأدوات الحضارية في التغيير والإصلاح، بمعنى نبذ العنف والتخريب تجنبا للدخول في مستنقع الفوضى والتمزق والرجوع إلى الخلف والإضرار بالمنجزات الحضارية التي أفنت الأجيال السابقة أعمارها في بنائها، وثالثها الحرص على مراعاة مشاعر ومصالح الجموع الصامتة او المحايدة وعدم تخوينهم أو إيذائهم كيلا تتولد جراح لا تقوى مراهم الزمن على مداواتها، ورابعها التحلي بقدر من الوعي اللازم لقطع دابر المزايدين والمندسين في حركة المطالبة بالتغيير، سواء من الداخل أو الخارج.
د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: مارس 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق