المقاومة الشعبية الفلسطينية محاصرة ايضا/ نقولا ناصر


(المفاوضون الفلسطينيون يرفضون ويحاصرون المقاومة الشعبية السلمية بقدر ما يرفضون ويحاصرون المقاومة المسلحة)

إن تكرار الرئيس محمود عباس في تونس يوم الأربعاء الماضي لتصريحات سابقة بالتأكيد مجددا على قوله: "ما دمت رئيسا للسلطة الفلسطينية، لن أسمح أبدا باندلاع انتفاضة جديدة، مهما كان شكلها"، والتأكيد مجددا على رغبة منظمة التحرير الفلسطينية في استئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، هو تكرار يؤكد إصراره على محاصرة الشعب الفلسطيني ضمن الممر الإجباري لخيار التفاوض فقط، وهذا خيار فرضته دولة الاحتلال ذاتها على المنظمة.

وإذا كان موقفه معلنا وواضحا في معارضته للمقاومة المسلحة، بالرغم من معرفته التامة بأن هذه المقاومة هي مقاومة شعبية انبثقت من رحم المقاومة السلمية للشعب الفلسطيني، وهي مقاومة دفاعية في الأساس تستهدف التصدي لمحاولات وأد المقاومة للاحتلال "مهما كان شكلها"، فإن موقفه المعارض عمليا للمقاومة الشعبية السلمية أيضا ليس بالقدر نفسه من الوضوح، خصوصا وهو يكرر كذلك بين وقت وآخر تأييده ل"المقاومة الشعبية". ومما يزيد في عدم الوضوح استمرار الرئيس في الخلط بين "الانتفاضة" وبين المقاومة المسلحة، فهو لن "يقبل بانتفاضة مسلحة ثالثة"، كما قال في تونس.

ولأنه يعلم تماما بأن الانتفاضة الأولى التي يعود الفضل لها في دخول منظمة التحرير إلى أرض الوطن كانت شعبية وسلمية، ولم تكن مسلحة، ويعلم بأن انتفاضة الأقصى الثانية السلمية قدمت أكثر من ثلاثمائة شهيد مدني خلال الشهور الثلاثة الأولى (على ذمة "بتسيلم" الإسرائيلية) قبل أن تنطلق رصاصة واحدة للدفاع عن سلميتها، ويعلم بأن الأمم المتحدة ومجلس أمنها والولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في حلف الناتو، وجميعهم شركاء له في "عملية السلام"، قد حركوا أساطيلهم وطائراتهم الحربية وارسلوا خبراءهم العسكريين وأجهزة مخابراتهم للدفاع عن الانتفاضية الشعبية السلمية الليبية بينما يستعدون جميعا ل"تسليح" المدنيين في هذه الانتفاضة للدفاع عن انتفاضاتهم، ولأنه يعلم كل ذلك وغيره، فإن الخلط لا يمكن أن يكون له اي تفسير غير تعمد إغلاق الباب امام أي انتفاضة فلسطينية ثالثة.

وفي هذا السياق يلفت النظر خلط آخر يزيد في عدم وضوح معارضة مفاوض منظمة التحرير لأي انتفاضة شعبية سلمية جديدة، وهو الخلط بين بؤر المقاومة الشعبية السلمية في خمس بلدات وقرى فلسطينية بالضفة الغربية ضد جدار الضم والتوسع وبين المقاومة الشعبية السلمية الشاملة، فالمفاوض يحرص على أن تظل هذه بؤرا معزولة، كرموز "للتضامن الأجنبي" الشعبي مع الشعب الفلسطيني، كما يستدل من مخاطبة رئيس حكومة تسيير الأعمال في رام الله د. سلام فياض لمؤتمر بلعين الدولي السادس للمقاومة الشعبية الذي افتتح في العشرين من الشهر الجاري، باعتبارا المؤتمر رمزا لمقاومة شعبية "يخشى" المفاوض اندلاعها شاملة بدعوى الخشية من تحولها إلى "العنف".



طوال ما يزيد على قرن من الزمان كانت المقاومة الشعبية السلمية هي السمة الرئيسية لمقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني ثم لدولته، فلم يمتلك عرب فلسطين جيشا وطنيا، باستثناء "جيش التحرير الفلسطيني" قبل أن تحرمه "استراتيجية السلام" التي تبنتها قيادة المنظمة التي أنشأته من لعب أي دور وطني، وليس لهم تاريخ "عسكري"، باستثناء المساهمات الرمزية التي سمحت لهم بها جيوش الدول العربية التي خاضت حروبا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان لهم تاريخ مجيد حافل للمقاومة بما استطاعوا أن يضعوا أياديهم عليه من وسائل الدفاع المتواضعة.



والوضع الراهن للقضية الفلسطينية هو خلاصة التجربة التاريخية للمقاومة الشعبية السلمية الفلسطينية الطويلة، التي اعتقدت خطأ في البداية، كما ثبت الآن، بأن الكثرة العددية للأغلبية السكانية العربية الساحقة في فلسطين كانت كافية لصد الغزوة الصهيونية ومستوطنيها الأوائل المسلحين على قلة عددهم، حتى فاجأتهم حقيقة أن عديد العصابات الصهيونية المسلحة كان أكبر كثيرا من عديد سبعة جيوش عربية مدعومة ب"المجاهدين" الفلسطينيين في حرب النكبة عام 1948، ثم اعتقدت خطأ بأن الكثرة العددية للعرب ودولهم كانت كافية للتغلب على دولة المشروع الصهيوني بعد إقامتها حتى فاجأتهم حقيقة الهزيمة في حرب "النكسة" عام 1967.



والدرس المستخلص من تجربة تاريخية يزيد عمرها على قرن من الزمن واضح، وهو أن طريق المقاومة السلمية مسدود، وقد استخلصه الزعيم العربي المصري الراحل جمال عبد الناصر قبل حوالي أربعين عاما من الانقسام الفلسطيني الحالي حول "استراتيجية السلام" عندما قال إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.



بالرغم من ذلك، وبسبب الطريق المسدود الذي وصلت إليه "عملية السلام" واستراتيجيتها، وبسبب الحصار المفروض على المقاومة الدفاعية في قطاع غزة والمطاردة "الساخنة" لها في الضفة الغربية، فإن الشعب الفلسطيني الذي سدت في وجهه كل سبل المقاومة وأشكالها وجد في الانتفاضات الشعبية السلمية التي تجتاح الساحات الرئيسية في العواصم والمدن العربية إلهاما ودافعا للاقتداء بها، فتكاثرت المبادرات والدعوات الفلسطينية إلى المقاومة الشعبية السلمية مجددا.



خلال الأسبوع الماضي، قال مخضرم "معسكر السلام" الفلسطيني الرئيس عباس إن استراتيجية السلام التي يعتمده خيارا وحيدا كي يقرر الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير والتحرر والاستقلال قد نجحت في الحصول على اعتراف (130) دولة حتى الآن بدولة فلسطينية على حدود 1967 وإن العدد يمكن أن يرتفع ليصل بسهولة إلى (140) أو (150) دولة، وإنه يعتمد على وعد الرئيس الأميركي باراك أوباما برؤية دولة فلسطينية عضو في الأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر المقبل.



لكن أوباما لا يجد في جعبته اليوم للمدنيين الفلسطينيين غير أن "نستمر في الصلاة من أجل السلام بين إسرائيل وجيرانها، بينما نعيد تأكيد التزامنا الثابت بأمن إسرائيل" كما قال في رسالة وجهها بمناسبة عيد الفصح اليهودي يوم الجمعة الماضي، في تكرار لمغالطة إعلامية مضللة بأن دولة المشروع الصهيوني التي احتلت وما زالت تحتل أضعاف المساحة المخصصة لها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 بتقسيم فلسطين هي التي تحتاج إلى ضمان أمنها وأنها هي التي تحتاج إلى السلام الذي افتقدته المنطقة منذ فرض الدعم الغربي والأميركي بخاصة هذه الدولة عليها وليس خمسة ملايين مدني فلسطيني يرزحون تحت احتلالها ويخضغون للعقوبات الجماعية وتحاصرهم أزمة إنسانية في "غيتو" قطاع غزة منذ عام 1967.



وبنى نبيل شعث عضو اللجنة المركزية لحركة فتح على ما أنجزته استراتيجية السلام من اعتراف دولي ليستنتج بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي تزداد عزلة دولية الآن، متناسيا أن هذه العزلة ظلت خانقة حتى فك معسكر السلام الفلسطيني هذه العزلة عنها باعتماد السلام وعمليته ومفاوضاته استراتيجية واحدة وحيدة لنضال الشعب الفسطيني من أجل التحرر الوطني.



إن توجه منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأمم المتحدة لا يعطي الشعب الفلسطيني الأمل الذي يحاول مفاوضوها تسويقه، فتاريخ المنظمة الأممية فلسطينيا لا يسوغ أي تفاؤل بها منذ أصدرت قرار التقسيم كمرجعية وحيدة لشرعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين وحتى اليوم الذي ما زالت عاجزة عن اتخاذ اي إجراء لإنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وتاريخها عربيا مرتبط في الوعي الشعبي بذاك القرار وهذا الاحتلال وبكونها أداة للحرب والاحتلال منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003، وبكونها مثل سابقتها عصبة الأمم أداة في يد الدول الاستعمارية والامبريالية لفرض هيمنها على الوطن العربي، لا بكونها أداة للسلام كما يثبت فشلها في صنع السلام في الشرق الأوسط .



والمفارقة اليوم أن هذه الاستراتيجية التي تبناها فريق المفاوضين الذين أدمنوا التفاوض دون أن يتقنوه يرفضون ويحاصرون المقاومة الشعبية السلمية بقدر ما يرفضون ويحاصرون المقاومة المسلحة للدفاع عن النفس، ف"الرئيس" عباس يعلن صراحة ودون مواربة معارضته لأي انتفاضة فلسطينية جديدة ضد الاحتلال بدعوى الخشية من تحولها إلى "العنف".



لكن المفارقة الأهم تكمن اليوم في حقيقة أن هذه الاستراتيجية ذاتها هي سيف ذو حدين، وقد بدأت فعلا تحاصر أصحابها، فطريقهم التفاوضي الذي فرضوه على الشعب الفلسطيني كممر إجباري وحيد مسدود، ومع ذلك فإنهم يسدون الطريق أمام المقاومة ويحاربونها باعتبارها "إرهابا" انضموا إلى راعيهم الأميركي في الحرب عليه، لكن هذه المقاومة صامدة وتزداد قوة حتى تحت الحصار حد أن يخصص أوباما أكثر من مئتي مليون دولار إضافة إلى المعونة السنوية المقررة لدولة الاحتلال لتطوير "قبة حديدة" يأملون في أن تقطع يدها الطويلة التي تتمرد على الحصار، وها هم الآن يسدون الطريق امام المقاومة الشعبية السلمية بينما تحاصرهم الدعوات المتنامية إلى هذه المقاومة من كل جانب.



إن دعوة القيادي الأسير مروان البرغوثي إلى مسيرة مليونية في الخامس من حزيران المقبل تحت شعار الشعب يريد إنهاء الاحتلال، ودعوة اللاجئين المتصاعدة في المنافي الفلسطينية إلى مسيرات مليونية باتجاه حدود الوطن المحتل في الخامس عشر من ايار / مايو المقبل، ووجود أكثر من مئة مجموعة شبابية تدعو إلى انتفاضة ثالثة على صفحات "الفيسبوك"، ليست بالتأكيد بديلا لانتفاضة على الأرض، لكنها مؤشر كافي إلى الغليان الشعبي الذي يختمر تحت السطح، بانتظار الفرصة السانحة للتكامل مع "الربيع العربي" الشعبي، وهو ربيع يحاول المفاوض تاجيل تفتح زهوره الفلسطينية إلى خريف ايلول / سبتمبر المقبل، بسد كل طرق المقاومة "مهما كان شكلها"، والاستمرار في المحاولة الفاشلة لتقزيم الشعب الفلسطيني وقضيته ليكون على مقاس الدخول في ثقب الإبرة التفاوضي كممر إجباري وحيد للنضال الوطني.



* كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق