مضت عشر سنواتٍ على أول صاروخِ قسام تطلقه كتائبُ الشهيد عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة المقاومة الإسلامية " حماس " على مدينة أسديروت الإسرائيلية، والتي أصبحت فيما بعد مدينة أشباح، لخلوها من سكانها وزوارها، بعد أن أمطرتها المقاومة الفلسطينية بمئات الصواريخ، فطالت كل مكانٍ فيها، واستهدفت المستوطنين والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين الذين وفدوا إليها للتضامن معها، والتي هددت رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعها ورئيس أركان جيشها أكثر من مرة خلال زياراتهم إليها، وأجبرتهم على النزول إلى الملاجئ، والاختباء خوفاً من صواريخ المقاومة الفلسطينية، التي عرفت طريقها إلى العديد من المدن والمستوطنات الإسرائيلية، ثم تطورت بعد ذلك لتأخذ أشكالاً عديدة، وتصبح قدراتها التدميرية أكثر، وقدرتها على الإصابة أدق وأكبر، في ظل تنامي القدرات والخبرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وفي ظل حالة التنافس الكبيرة بين الأجنحة العسكرية لمختلف الفصائل الفلسطينية، التي أصبحت تبتكر وسائل قتالية جديدة، وتطور ما لديها من صواريخ وقذائف، لتكون قدرتها التدميرية أكبر، وأثرها العسكري والسياسي أبلغ.
ففي السادس عشر من أبريل / نيسان عام 2001 استفاق سكان مدينة أسديروت على صاروخٍ محلي الصنع يسقط في مدينتهم، فانتاب سكانها الرعب والخوف والهلع، واندفعوا جماعاتٍ وفرادى إلى الملاجئ الحصينة التي تنتشر في أنحاء المدينة، اتقاءَ الموت، وخوفاً من سقوط المزيد من الصواريخ عليهم، ولم يكن يدور في خلدهم أن المقاومة الفلسطينية المحاصرة ستتمكن من صناعة آلتها القتالية الجديدة بنفسها، وأنها ستمتلك وسائل قتالية محلية وبسيطة، ولكنها فتاكةٌ ومؤثرة، وستكون قادرة على قلب المعادلة العسكرية مع الكيان الصهيوني، وتبديد حالة الأمن التي تعيشها مستوطناته ومدنه في القلب والأطراف معاً، وستخلق معه معادلة جديدة، قوامها توازن الرعب، وأمن المستوطنات والمدن الإسرائيلية مقابل أمن الفلسطينيين وسلامة مناطقهم، ورغم أن الجيش الإسرائيلي وقادته كانوا يرفضون هذه المعادلة، وينكرون أثرها وفاعليتها، إلا أنهم كانوا يدركون خطورتها، وأنها تغدو واقعاً يوماً بعد آخر، وأن استمرار المقاومة في تطوير قدراتها القتالية الصاروخية، سيحد من قدرة إسرائيل على الاستفراد بالفلسطينيين ومناطقهم، وسيجبرها على التفكير ملياً قبل أي عملية عسكرية لها في الأراضي الفسطينية.
كانت الصواريخ الفلسطينية في بداية عهدها "مواسير" حديدية عمياء، ولكنها كانت قذائف ملتهبة ومتفجرة، تنطلق دون هدفٍ محدد، وبلا توجيهٍ دقيق، ولكنها تعرف أن هدفها الكبير هو الانتقام من الإسرائيليين، جيشاً ومستوطنين، الذين لا يتوانون عن استهداف الشعب الفلسطيني، وقتل خيرة أبناءه، واجتياح مدنه وقراه ومخيماته، فكان لا بد لهذا الشعب العنيد من أن يبتكر طريقةً جديدة، غير العمليات الاستشهادية التي توقفت لتعذر وصول الإستشهاديين إلى أهدافهم في عمق الكيان الصهيوني، وكان لهذه الصواريخ آثارٌ عسكرية وسياسية كبيرة، ولا يمكننا بحال أن نقلل من أثرها وفعلها، رغم أن البعض كان يطلق عليها صواريخ عبثية، أو ألعاب نارية صبيانية، ولكن الكيان الإسرائيلية، قيادته وشعبه، لم يكن ينظر إليها على أنها مجرد ألعاب نارية، أو أنها مواسير حديدة ضالة لا تعرف طريقها، بل أحس الإسرائيليون بخطرها عليهم وعلى أمنهم، وأثرت كثيراً على حياتهم اليومية، وأوقفت الكثير من مناشطهم، وأغلقت معاملهم ومصانعهم وورشهم، وأجبرتهم على النزول طويلاً إلى الملاجئ، بل إن المدن الإسرائيلية التي استهدفتها صواريخ المقاومة أصبحت مدن أشباح، بعد أن هجرها سكانها، وتركها القاطنون فيها، وتسببت الصواريخ الفلسطينية في كساد الحياة التجارية والاقتصادية في المدن المستهدفة، فلم يعد فيها راغبون في الشراء والامتلاك، فانخفضت أسعار الشقق السكنية، والمحلات التجارية، والمشاريع الانتاجية، ولجأ سكانها إلى مدنٍ إسرائيلية أكثر عمقاً، ظانين أنها ستكون أكثر أمناً، وأن صواريخ المقاومة الفلسطينية ستكون قاصرة عن الوصول إليها وتهديد سكانها.
صحيح أن الكيان الصهيوني لم يكن يقف مكتوف الأيدي إزاء صواريخ المقاومة التي كانت تنطلق من غزة، حتى في ظل أحلك الظروف الأمنية التي كانت تعيشها فصائل المقاومة الفلسطينية، وأنه كان ينتقم إثر كل صاروخٍ يسقط عليهم من سكان المناطق التي تنطلق منها الصواريخ، وكان يلاحق مطلقيها، ويقصفهم بقذائف دباباته، أو يقتفى بالطائرات آثارهم حتى يتمكن منهم ويطالهم بصواريخه، ولكن الجيش الإسرائيلي رغم عملياته العسكرية المتكررة، اجتياحاً وقصفاً واغتيالاً، ورغم ملايين الدولارات التي أنفقها على مشروع القبة الفولاذية، إلا أنه لم يتمكن من وضعِ حدٍ لصواريخ المقاومة، واعترف أكثر من مرة بلسانِ أكثر من مسؤولٍ أمني وعسكري وسياسي، أن صواريخ المقاومة الفلسطينية تهدد أمنه الداخلي، وتستهدف مشروعه الاستراتيجي، وأنها تعرض مستقبل كيانه للخطر، وأنها تفقد مواطني كيانهم ثقتهم في حكومتهم وجيشهم، وأنه ينبغي بذل كل الجهود الممكنة لوقف إطلاقها، ومنع تهديدها للمدن والمستوطنات الإسرائيلية.
عشر سنواتٍ مضت على صاروخ المقاومة الفلسطينية الأول، وهو الصاروخ الذي أسس لمرحلةٍ جهادية جديدة، تختلف في شكلها عن المراحل التي سبقت، وتعوض كثيراً تعذر مواصلة العمليات الاستشهادية، فقد أدخلت الصواريخُ المقاومةَ الفلسطينية في مجابهة حقيقية وخطرة مع الكيان الصهيوني، وهزت أركانه، وكشفت عن تمزق نسيجه، وعدم يقين مواطنيه في مستقبلهم فيه، وأشعرت فصائل المقاومة الفلسطينية بأهمية هذا السلاح وفعاليته، فتسابقت في اقتناءه، وتنافست في تطويره، ثم تبارت في إطلاقه واستهداف مختلف المدن الإسرائيلية به، وأدركت أنه لا قبل لإسرائيل، حكومةً وجيشاً وشعباً على تحمل نتائجه، ولا الصبر على خسائره، ولا التعامل مع مفاعيله، ولهذا ينبغي عدم التفريط به، أو التنازل عنه، والعمل على تحصين الشعب الفلسطيني كله بالمزيد منه، واستخدامه في الرد على كل عملية إسرائيلية ضد شعبنا الفلسطيني، إذ لا بد لهذا العدو أن يشعر بالألم الذي نشعر به، وأن يصاب بالفقد الذي يلحق بنا، فهو ليس مجرد ماسورة حديدية، ولا قذيفة نارية عمياء، وهو بالتأكيد ليس ألعاباً نارية عبثية، وإنما هو وسيلة قتالية حقيقية تزعج الإسرائيليين، وتكبدهم خسائر كبيرة، ليس في الأرواح فحسب، بل في أصل الإيمان بمشروعهم الاستيطاني في أرض فلسطين كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق